شهادة لأخوة الشعر
أدونيس
-1- رأيته، للمرة الأولى، في السنة 1957. كان هذا اللقاء الأول قصيرا ، وجاء حديثنا مزيجا من التعارف، وتبادل الرأي حول الشعر.
حاولت، في أثناء الحديث، أن أتذكر قراءتي شعره، وأقارن بين الشخص الذي تخيلته، عبر كلماته المكتوبة، والشخص الذي أحادثه. وكان في نظراته وفي نبرته ما جعلني أزداد تعلقا بهذا السر الذي يجمع في الشخص الواحد بين كآبة القلب وفرح العقل. فقد بدا لي حضوره كمثل وردة تتوهج نضارة حين تنظر اليها بعين الجسد، لكنك ترى حين تتأملها بعن البصيرة، أن هاجس الذبول هو ما يشغلها. انه حضور كمثل كوكب من الحزن يدور في فلك من رجاء الفكر وتفاؤل الارادة.
-2- لم يتيسر لي أن أعرفه كثيرا في حياته الشخصية. لكنه، شاعرا ، ظل، بالنسبة الي، ينمو ويتحرك في ذلك العالم الآخر السري، المظلل، داخل العالم الظاهر المباشر، والذي ترسمه أخوة الشعر. وتلك العلاقة بين حياته وشعره، كانت هي نفسها التي تضيء علاقاته مع الآخرين. فقد كان الشعر صدره الذي يفتحه للآخر، ويده التي يمدها له، في ما وراء السياسات. فليس شعره فنا في الصداقة مع الكلمة وحسب، وانما هو كذلك فن في الصداقة مع الآخرين.
-3- "حالات نفس": هكذا يصف شعره. عبر النفس- مرآة الأشياء والكلمات، والتي لا تكاد تهدأ، شعريا ، حتى تضطرب، ولا تكاد تضطرب حتى تهدأ - يتقلب هو الشاعر، ويقلب النظر في الأشياء حوله، ويتقلب شعره في هذه "المسرة" التي تبدو، لسرعة زوالها، كأنها "الكآبة"، وفي هذه"الكآبة" التي تبدو، لشدة الرجاء الكامن وراءها، كأنها "المسرة".
لا اليأس، لا الأمل. بل الفسحة التي تقوم بينهما. وتلك هي الفسحة التي يهيئها القلب. العقل تحليل، وهو، اذ يحلل، مسوق الى أن يرى ما يمثل أمامه: الظلمة. القلب، على العكس، يخترق - يرى بقوة النبض ذاته، بالطبيعة والضرورة، النور أيضا ، ولو كان بعيدا ومستعصيا . القلب، لا العقل، هو الذي يأخذ بيدنا ويضيئنا في ظلام العالم.
"حالات النفس" هذه، هي اذن "حالات القلب"، وشعره هو كتابة هذه الحالات: سفر فيها، وبها، وعبرها.
-4- منذ أن قرأت شعره، قرأته دون أي هاجس ايديولوجي. قرأته شعرا - بحصر المعنى. فهو شعر للشعر - أعني للانسان، قبل أن يكون للاطار أو المنحى. والشاعر هنا يسكن في داخل نفسه، جارا لهذا الهدير الهائل من التاريخ وأشيائه، في قرارة السر والحزن. ولا يجيء المعنى من خارج، بل من داخل. فهو يعرف أن العالم يسير وعلى وجهه قناع من السراب، فلماذا الدخول في هذه المسيرة؟ وليس الحاضر الا مشهدا يشابه الوهم يتطاول في غابات من "العوسج الملتهب"، بلا نهاية.
ماذا يقدر الشاعر أن يفعل ضد هذا الظلام الغامر؟
سينادي الشمس، سيحاول أن يرسم وجه الفجر، سيقول ان الضوء الذي ينيرنا هو في طريقه الينا، يكاد أن يصل، طالعا من ذلك الظلام نفسه.
وها هو شعره لا يزال يبدو لي، كما كان في هويته الأولى: كمثل صفحة من الضوء منسوجة بخيوط من الليل، أو كمثل صفحة من الليل منسوجة بخيوط من الضوء.
-5- في هذا ما قد يفسر الحزن السري في شعره. ولعله حزن يرشح من ذلك الاحساس العريق. في شرقنا المتوسطي، الاحساس بالعدم، وبأن كل شيء هباء. ولا تكون القصيدة هنا الا منفى داخل هذه الحالة من الاحساس، حيث يغوص الشاعر في أغوار ذاته، ويعلم اللغة أن تكون الجرح والقلق والعذاب، لكي تقدر ان تكون لغة الحب، ولغة الانسان. هكذا كان شعره حبا لا ينفصل عن الألم، وألما لا ينفصل هو الآخر عن الحب.
-6- هذا الذي كان شعره كمثل شخصه خجولا ، يكاد أن ينسحب متواريا كزهرة في غابة وراء حجاب من الشوك الذي يسمى العالم،
هذا الذي كان يتحرك فوق أرض صغيرة، لكن على تخومها تزدحم آلام كبيرة وافدة من كل صوب،
هذا الشاعر الذي كان يكتب الشعر كما تكتب الوردة رائحتها، هو يوسف غصوب،
يوسف غصوب شاعر بين الشعراء الذين حاولوا أن يحولوا حياتهم التي أملاها الله الى شعر يمليه القلب. وها هي تلك "الأبواب المغلقة" تتوهج، عبر الشعر وفي ما وراء الموت، عالية بين أبواب شعرنا، المشرعة العالية.
أدونيس باريس، حزيران 1986
تقديم يوسف غصوب - فؤاد أفرام البستاني
ما لقيته مرة الا ابتدرني بطرفة فائقة تبرز عفوية من مستحدثات. منظومه أو تخطر سانحة من مستصفيات مخزونه. فلقد كان، رحمه الله، وافر العناية، عميق النظر بما يحفظ من عيون الشعر، عربيا كان أم فرنسيا ، حتى غدا اختياره البصير، على قلته، عنوان الانتخاب الأدبي، ورأس الاصطفاء الفني. واذا بأبي الطيب لا يستغرب جو كورناي وفكتور هوغو، ولا المعري يشعر بالوحشة في جوار فولتير. واذا بابن الرومي والشريف الرضي وخليل مطران لا ينفرون من بيئة مالارمه، وألبير سامن وبول فاليري. ذلك ان شاعرنا لم يقصر مجلسه على زملائه من أبناء اللغة العربية، بل كثيرا ما استضاف أقطاب الشعر الفرنسي بل العالمي باللغة الفرنسية. وقد يعن له أن يداعب ربة الشعر الحضاري، على رغبة وهيبة، كما كان يتمرس مندفعا بأفانين الهواجل والهواجر من شياطين الشعر البدوي. على ام مداعبته الهة اليرناس كانت حميمة حيية، فظلت مكنونة مخدرة لم يشهدها الا الأصفياء.
وأكثر ما كانت لقاءاتنا في مكتبه من "دائرة الترجمة" في المفوضية العليا، زمن الانتداب الفرنسي، أو في مكتبي ب "معهد الآداب الشرقية" من جامعة القديس يوسف، أو في مكتب "المكشوف" الذي غدا مثابة الأدباء منذ أواسط الثلاثينات. وقد يكون ذلك على رصيف اللعازارية، منحدرا الى قهوة "المنشية" حيث يكون في انتظاره بعض الرفاق في ملاعبة "الزهر" متراقصا على سهام "الطاولة".
بيد أنه كان، اذا حم اللقاء، - أنى كان موعده - يذهل طرفة عين، ثم يبدو شخصا آخر، وكأنه قد تحرر من قيود الزمان والمكان، وتجرد عن تكاليف المعيشة البشرية بأسرها، فتجلى شعرا خالصا ، صافيا ، يحيا في عالمه الأثيري... ويقبل على انشاد تلك الطرفة الفائقة، المثقلة بما فيها من خزين ثقافة، وعمق اختبار، وبعد نظر، وترجيعات أصداء بالعبر الانسانية، والعظات الدهرية. ينشد بتؤدة وتمهل، معطيا كل حرف حقه من تعاون الشفتين، واللسان واللهاة والحنجرة،.. وكأنه يتلمظ نبرات المقاطع، ويستمرىء تساوق الايقاعات، قبل أن يستجلي الصورة بخطوطها وتلاوينها في ما بعد اللفظ والوزن، ويكتنه الفكرة بجدودها وتلاميحها وملاويها وتلافيفها في ما وراء الرسم والايحاء.
وكم كان يتوقف، رحمه الله، لدى هذين البيتين القديمين الحديثين، بل الخالدين، الثابتي الحضور والواقعية، في وصف طموح الانسان الدائم الدائب، الى استعباد سائر المخلوقات، على قصر عمره، وضعف طاقاته، وعقم جهوده المحدودة بأي عرض مفاجىء، وأية بادرة مهلكة على غير توقع ولا تقدير... وقد جمع البيتان بين تأملات أعمى المعرة المتغلغلة في الأعماق، المغرقة في التشاؤم بالجنس البشري، وشجب نياته السيئة، وطبعه المفطور على الشر، و (بين) حكميات البصراء من فلاسفة "المسكونية" دعاة السلام، وحماة حقوق الانسان:
أقلقتم السابح في لجه، ورعتم، في الجو، ذات الجناح!
هذا، وأنتم بشر زائل فكيف لو خلدتم، يا وقاح؟
ينشد هذا مأخوذا ، متبصرا بما بلغته البشرية في دروب الشر: من موقف ذاك المخلوق البدائي، رجل الكهوف، والمآوي، والشطوط، يغطس وراء السمكة السانحة ليصطادها قوت يومه، الى مسيرة رجل الذرة يقتاد غواصته النووية، مروعا سكان البحار جميعا ، في سبيل اصطياد أخيه الانسان... ومن مرصد ذاك النبال البدائي يتربص، من وراء صخره الشاهق، بأسراب القطا واليمام في أوبتها المسائية الى فراخها الزغب الحواصل، الى مهمة قائد القلعة الطائرة يمطر رجوم الهلاك ونيازك الدمار على اخوانه في الانسانية...
ثم تتوالى أفانين الشرح، والتفسير، والتعليق، والنقد، والمقارنة بين الثقافات وما تثيره من فروق وخصائص في النظر الى الجمال، والفن، والى الشعر بنوع خاص...
ويقودنا هذا الى اعتبار مركز الشعر في الحضارة الأوروبية ودوره في اثارة النهضات الفكرية، والانتفاضات الاجتماعية، وفي ارتياد النفس البشرية – وهي واحدة خالدة - في مجاهلها، وملاويها، ومتاهاتها... ولا يخفى أن هذه الطبيعة الداخلية أعمق أسرارا ، وأكثر غموضا ، وبالتالي أوفر ثراء وأجدى غنى في تراث الانسانية من الطبيعة الخارجية.
ونعود الى شعرنا الحاضر في بلاد الشرق، فيمتلكنا الأسف لما كان لا يزال عليه، اذ ذاك - أي قبل ستين سنة - من مدح الأمراء، ورثاء العظماء، وهجو الزملاء... وان يكن من مجال للنظم بعد ذلك، فالتلهي ببعض الوصف الخارجي متناولا بيئة بعيدة عن بيئتنا زمانا ومكانا ، أو التسلية ببعض المقاطع الغزلية على الأسلوب التقليدي، والاصطلاح المجتر خلل العصور.
وكنا، نحن أبناء الجيل الناشىء بعيد الحرب العالمية الأولى - الذين نصغر عن جيل غصوب ببضع عشرة سنة - نأمل من روادنا الموهوبين، وسباقنا المثقفين، وكبارنا الواعين، أن يفتحوا لنا بابا جديدا على الشعر الحق في لبنان، فينقلونا الى مفهوم انساني صحيح لهذا الفن الأصيل في المجتمع الحضاري أصالة لبنان.
ويهيب مثل هذا الشعور بأقطاب "الأدب المهجري" فيقبل الشعراء منهم على نمط جديد في الشعر اللبناني وسرعان ما تصل نماذجه الى لبنان على صفحات جرائدنا في المغتربات. فتباشر بعض صحفنا المحلية نقله على أنه "شعر جديد"... انما على شيء من الخفر. وكأنها تحاذر مطاولة أبراج الشعر التقليدي المستقر، أو مضاهاة معاقله الحصينة، فتعتذر ب "جدة" هذا الأسلوب ناعتة بلاد تصديره ب "الأندلس الجديدة". ولا نخالها توقعت ما سيحمل هذا النعت من صحة حكم، وعمق نظر، وصدق مقابلة بين الشعرين - الأندلسي والمهجري - معنى ومبنى، أي قيمة فنية في نظر النقد الصحيح.
في هذه الفترة، وفي هذا الجو، سنة 1928، ظهر" القفص المهجور" أولى مجموعات يوسف غصوب الشعرية. فاستقبلته الأوساط التقليدية بشيء من الفتور. واستقبلته بعض الصحف بالمجاملات العادية، مشيرة الى ما فيه من التجديد في المظهر خاصة، في الطباعة والخط، والرسم، والترتيب.
أما نحن، الشباب المنتظر، المترقب، فقد رأينا فيه بوادر مبشرة بتحقيق ما كنا نتوق اليه. وسررت شخصيا بتطبيق ما كنا نتداول فيه من جوهر الشعر الصحيح، ودوره في نهضة الشعب الحضارية الحق، لأنه أقرب الفنون الى تحقيق انسانية الانسان.
ولقد كان غصوب مجددا حقا في "قفصه المهجور": مجددا في الطبع، والخط، والرسوم، كما قالت الجرائد - ذلك ان الشاعر الفنان يرى ان من حق النظر ان يتمتع كذلك بطرق الفن - ومجددا ، فوق كل هذا، في اكتناه الشعر، وتفهمه، وفي مواضيع استيحائه، وفي أساليب أدائه. واذا به يصرفنا عن "الكلام الموزون المقفى"، وعن "ديوان العرب"، بل عن "مجموع الحكم والعبر والذكريات، والأخلاق" وعن "عوامل الرفع والخفض" الى فكرة سامية عميقة تبلغ حتى جعل الشعر" خلاصة آمال الشعوب" في سعيها الى المجد. ولكنه لا يبني "المجد الخالد" الا اذا كانت "قوافيه من القلب والنهى". هو "خمرة" لاذة مفرحة. لكنه "أنة" موجعة كذلك. هو "عزة النفس واباؤها الشامخ". وهو رقة القلب وبكاؤه لبكاء التعساء. هو الحياة بنعيمها وبؤسها، بغناها وفقرها، بأفراحها وآلامها، برجائها ويأسها، بكبريائها وتواضعها، بحفولها ووحشتها، ب "لذاتها" العديدات التي "قراراتها الأسى".
هذا ما رأيناه في فهم يوسف غصوب للشعر، يوم ظهور"القفص المهجور" والشاعر في الخامسة والثلاثين من عمره.
و "تلتهب العوسجة" بعد ثمانية أعوام (1936) فتنير بأشعتها النافذة، زوايا آفاق، وملاوي منعطفات في طريق البشرية كان الشاعر قد شامها من خلال قضبان "القفص"... فما زال في استجلاء مبهماتها، واستيضاح غوامضها حتى أدرك الأعماق في نفس الانسان، فشهد العراك الدائم بين الخير والشر، بين الملاك والشيطان، في قلب ذاك "الراهب" المتنسك، كما حضر مواكب الفسق، والعهر، والنفاق الاجتماعي تسير، في تلك "الجنازة الحمراء"، صاخبة ضاجة ، " بين الناي والعود"، وقد سخر زبانيتها من المقدسات. فزيفوا الحب، وزوروا السعادة، وأغووا الدهماء باللذائذ الفاسدة، والنشوات العابرة.
وهم سكارى يزجيهم الى سقر ابليس في عصبة من قومه السود
يسوقهم بسياط الفسق تنهشهم نهش الأسنة أقفاء الرعاديد
ويضحكون، وقد داست نعالهم شوى فتى منهم في الدرب ممدود
زلت به قدم في لهوه، فهوى. فنيبوه فعال السيد بالسيد
واذا بنا نتدرج الى قمة الفن الصحيح في جو مونق ورفقة حافلة من عمق الثقافة، وغنى الاختبار، ونفاذ الحس، ورقة الشعور، ولطف الخيال، ودقة المقارنة، واستهداف النهاية في الكمال الفني.
حتى اذا غمرنا عبير الطيب من تلك "القارورة" العجيبة (1947)، أخذتنا نشوة الشعر الحق. واذا:
في الغيب قيثارة طروب، وعازف بالنهى لعوب.
تلطف أنغامه فتخفى، فتجتلي بعضها القلوب.
خواطر ما لها قرار، ومنبع ما به نضوب.
تفيض من مبهم بعيد، وجرسها مبهم قريب.
تغلغلت لا تعي، فلما أحسها وعيها الأريب.
تدفقت في الصدور لحنا صدى تراجيعه عجيب.
يدق أبواب كل نفس، وقل منهن من تجيب.
قل منهن من تجيب، لأن النداء بعيد، والدق لطيف، والهمس خافت، في آذان تعودت الصخب والضجيج حتى الصمم، وفي قلوب تعودت العواطف الهوج حتى الانخلاع. وما هكذا يشعر الشعر يوسف غصوب. أنما هو تؤدة ولين، ونعومة، ودعوة حيية، وعرض مخملي الملامس، في الخاطرة، والصورة، والوزن، وموسيقى التعبير. فلا قرع طبول، ولا نقر صنوج، ولا فحيح أبواق، ولا زياط حناجر، ولا حشرجة صدور. هو البوح الحيي الهامس، في الغزل، على حنين الكمنجة أو أنين الناي، وهو النشيد الداخلي المبهم المتردد صداه من بعيد الأجيال والأحقاب على أنغام المراكب الماسحة غوارب البحار، في الفخر بمآثر "جبابرة المجد" – ولا يمنع الترصن والهدوء ذكر المفاخر الوطنية - وهو الحفر العميق في حنايا النفس البشرية المتنازعة أبدا بين سهولة الانحدار للذة الزائلة وصعوبة الارتقاء في مدارج التجارب حتى البناء الانساني الكامل. هي رسالة الفنان، يقبل على المادة الفطرية الطبيعية، صخرة كانت أم ألوانا أم أنغاما أم مفردات، فلا يزال يمارسها ويداورها، ويعالجها، ويلاوصها، في ذاك العراك الخالد، حتى تنتصر عليها الروح، فيرقى أسمى درجات الخلق ولا ينسى ان الخلق فعل محبة. وانه كلما كانت المقاومة شديدة كان الانتصار بالغا . رائعا . وما القول، اذن، في انتصار الانسان على عقباته الداخلية؟ أو ترون ميكلانجلو، في انتصاره على صلابة الرخام، أعمق أثرا في الانسانية من انطونيوس الكبير منتصرا على مساوىء نفسه مجاهدا شهواتها مدة السنين الطوال ناحتا منها تمثالا - ولا تمثال "موسى"- في كمال السمو والتجرد والتحرر من النقائص والشوائب؟
وقد عرض غصوب للصعوبتين في "صلاة الراهب". فما فاتته الدقة في تصوير التجارب، كما لم يفته التدقيق في محاسبة النفس وفحص الضمير حتى الأعماق، فكان في صلب الواقع، وفي تفهمه اللاهوتي الصحيح، تفهما يجعل راهبه مطمئنا ، وسط العراك المضني، الى حكمة الله وعنايته، فلا يخاف الا الخطيئة ضد الروح القدس:
أنت أدرى، يا رب، مني بخيري فليكن ما تشاء ! لكن نفسي
ضعفت في كفاحها، فترفق؛ وأعذها، رحماك! من كل يأس.
ومتى كفينا اليأس، سهل علينا ارتياد الآفاق المجهولة، على طموح تنهار أمامه فواصل الزمان والمكان، فيجمع الماضي الى الحاضر الى المستقبل، ويقرن هذه الحياة بما كان، أو سيكون، خيرا منها، ساميا فوق عراك الترابيين اللاهين بالقشور، من الذين:
قاسوا بفتر الأرض أطماعهم، واستفدحوا، في كل سخف زناد،
وقيدت بالترب أرواحهم، فما لها فوق السحاب امتداد،
مرتفعا ، غير متشامخ، الى الاهتداء "بنور الفؤاد"، مستسلما للحب تحت العرش، حتى المعاد.
أو منصتا الى "نداء البواخر الذاهبات" مأخوذا بما يوقظه في الأعماق، من أصداء بعيدة، وصور قصية،
وحنين الى غريب نجوم، وطيوب غريبة النفحات
فلا يتمالك نفسه أن يسأل:
أترى هذه النفوس الحيارى في اغتراب من عدنها مبعدات؟
فالى عدنها تذوب اشتياقا ، وحنينا الى قديم الحياة!
ويود المطالع أن يشارك الشاعر في هذه الرحلات، وان حنينا وأصداء، عبر الأمكنة والعصور، بل عبر العوالم، فيتزود طيب الخلود ينشى بشذاه، وقديما كان الطيب زواده الآلهة. فلا تهوله الأبعاد، ولا تنال من همته العقبات. واذا تعب، استراح ليلة في ضوء القمر:
نشر البدر على الأرض ظلالا واجفات، وعلى البحرة آلا.
وسمع أغنية ناعمة على طريق العين.
ثم جد السير، على قلق وحذر، في اكتشاف خفايا النفس البشرية. حتى اذا أدرك قلب الفن المتوحد حيث يتساوى كل مظهر وكل رغبة وكل توق؛ غلفه الليل الشامل المدرك كل شيء، ليل العشاق والشعراء والمتصوفين، فشهد على نور ظلامه، انهيار الفواصل والحدود، فلا مكان، ولا زمان، ولا لسان، واذا:
عاشقات الحجاز، في زمر الاغريق، نشوى بخمرة الخيام.
واذا:
نحن كنه الوجود، فكر من الله سخي أم نغمة من غرام!
واذا الشعر!
واذا يوسف غصوب،
تفتح له "الأبواب المغلقة" على مصاريعها، فيرفعنا، بصحبته، الى "سدرة المنتهى ".
فؤاد افرام البستاني - عشقوت، 15 آب 1986
القفص المهجور
الشعراء
على غارب الأحلام في مائج الضحى ترامت بنا الآفاق شوقا الى المنى
فجزنا بحار النور تنشى عيوننا بلألائه نرقى ذرى بعدها ذرى
فكان عبير الوحي يملأ صدرنا ونسمع تسبيح الملائك في العلى
وتلثمنا الأرواح في خطراتها – وقد عبقت - لثم الأشعة للندى
وحلت بنا روح الاله فقلبنا يفيض من الاشراق بالنور والهدى
وطهرنا حتى كأن نفوسنا نواظر أطفال روان الى السما
وأودعنا ما شاء من سر حسنه فلا شيء يعدونا من الحسن في الورى
ولطف أوتار القلوب فأصبحت ترد لأخفى ما يمر بها صدى
غنىً دونه جاه الملوك وعرشهم وكل نفيس من ثراء ومن ثرى
وقال: كثير ما وهبتم وانما تذوقون من جراء نعمائه الشقا
تعيشون والآلام ترعى ضلوعكم وتسقون لذات قراراتها الأسى
غنيون بالنفس الأبية عزة وبالدمع يجري كلما بائس بكى
تحسون بؤس الكون في ظلماته كأن فؤاد الكون في صدركم ثوى
وتبنون للأوطان مجدا مخلدا بشعر قوافيه من القلب والنهى
خلاصة آمال الشعوب وخمرها به تسكر الأبطال أو تقحم الوغى
هو العلم العالي هو الأنة التي تثير رميم المجد من مضجع البلى
وأنتم اذا ما أزهر الروض وارتوت صدور العذارى من ضياء ومن شذى
وساهرن نجم الليل يبسمن للمنى ويلمسن أكبادا يضيق بها الفضا
تلوتم نشيد الحب كالطل صافيا فألوين بالأسماع حيرى من الجوى
وقبلن أذيال النسيم الذي سرى برجع القوافي تحت أجنحة الدجى
وباركنكم باسم الهوى وأطعنكم خواشع لا يخشين في الطاعة الردى
تمرون ملء العين فوق جباهكم من الملا الأعلى أكاليل من بها
يشار اليكم بالبنان ويرتجى لقاكم كما ترجى السعادة والغنى
اذا ما ازدهتكم في المعارج نشوة أدال لكم منها التواضع والتقى
وتحيون أفرادا لكم من نفوسكم عوالم لم يدرك لها الظن منتهى
على صلة بالروح حتى كأنه يحدثكم عما سيجري وما جرى
فتجلى لكم قبل الممات غوامض يحار بها من لا يرى فوق ما يرى
وحين تفر النفس من ليل سجنها الى العرش حيث الله في مجده استوى
تقرب حتى تستحيل شرارة تضيء مع الأنوار في منبع السنى
القفص المهجور
ان قلبي بعد أن مات الهوى قفص أفلت منه البلبل
موحش كالقبر لا ينتابه رغبة أو رهبة أو أمل
تخفت الطير اذا مرت به صوتها من خشية أو ترحل
عرفت من قبل فيه صادحا في أناشيد الهوى يسترسل
تسكر الأسحار من تغريده ويميل الروض مما يغزل
وكأن الطير أصداء له فتعيد الطير ما يرتجل
هائم في شدوه تحسبه فكرة طائرة تشتعل
عشقته الزهر تسعى في الضحى من شذاهن اليه الرسل
أو فراشات اذا ما كلفت نقل أسرار الهوى تمتثل
عاد نيروز وهذي شمسه في ظلال الروض منها قبل
مستديرات حيارى كلما مر بالروض نسيم تجفل
وترى في القفص الخالي لها منظرا فاضت لديه المقل
سرب أرواح جفاها الفها فتهافتن اليه من عل
فاذا الالف شريد واذا قفص الالف كئيب مهمل
آه! يا صداح هل من عودة فيواتينا الزمان الأول...
وحشة القلب
وحشة القلب في مجالس أنسي حنظلت بالأسى حلاوة كأسي
لا تقل باسم فرب ابتسام كسراج يضيء في كوخ بؤس
طفح القلب بالهوى وهواه ضائع كالشموع في نور شمس
أو كعين تفجر الماء منها فوق جدباء لم تحل بغرس
برأ الله أنفس الناس أزوا جاً تداعى فكل نفس لنفس
تنشدان اللقاء ما من قرار لهما دونه ولا من تأسي
ويح نفسي وحيدة تتهادى في رجاء من اللقاء ويأس
اجتلي أوجه النفوس كتال يجتلي أوجه المعاني بطرس
علني واجد شقيقة نفسي
عيل صبري متى يرن بقلبي صوتها رنة المثاني بعرس
فأرى الليل نيرا والأماني دانيات والنجم قبضة خمسي
وحياتي كرحلة في هلال سابح في مجرة ليس يرسي
رأسها وردة تزين صدري والى طيبها أميل برأسي
ومن الحب بردة نرتديها نسجها من خيوط نور وقدس
نحن أنشودة المحبة والنور تعالت طليقة بعد حبس
مر يومي فهل غدي يوم بشر أم غدي يقرض الرجاء كأمسي
أسحب البؤس والسآمة تجري بي حثيثا الى غياهب رمسي...
عيل صبري أيا شقيقة نفسي..
الانتظار
قربت ساعة اللقاء وغاضت في دجى الليل كبرياء النهار
ومن القلب والرياض تعالت نفحات الغرام والأزهار
حجرتي هيكل الهوى وفؤادي مذبح في جلاله المعطار
أرقب الحب خاشعا كنبي يرقب الوحي في ظلال الوقار
هدأ الليل ليس يسمع فيه غير همس النسيم في الأشجار
همسة بعد همسة في ارتعاش كحبيب يبوح بالأسرار
وعلى السهل والجبال دثار شامل قاتم كمسحة قار
رقد الكون تحته وفؤادي مشعل الشوق ساهر والدراري...
أرسل الطرف في الظلام وأصغي كرقيب على العدى محذار
أسمع القلب خافقا في ضلوعي وأرى الطيب في الحديقة ساري
يرسم الشوق في الدجى ألف رؤيا تتوالى بسرعة الأفكار
بعضها يبعث الرجاء وبعض يوقد الشك مستطير الشرار
أترى من مطارف الليل تبدو كرجاء من ظلمة الأكدار
توسع الخطو خشية وخطاها توقظ الحب في صدور البراري
واذا واجهت فملء يديها قبلات تفر كالأطيار
وابتسام بلحظها كشعاع سائل فوق قطعة من نضار
أم ترى عاقها الرقيب وخافت حاسدات يسرن بالأخبار
فثوت في مقرها وتمادت نظرات لها لغير قرار
وهوى رأسها على راحتيها وعلا وجهها غشاء اصفرار
دمية صاغها الأسى وكستها رهبة الليل حلة من بهار
أم تراها خداعة فهي تلهو بفؤادي كطفلة بسوار
بينما مهجتي تذوب انتظارا هي في خمرة وفي أوتار
ترشف اللهو في ذراعي حبيب ضم من جسمها شرارة نار
أيها الليل قد تماديت صمتا أين وقع الخطى وأين اصطباري!!
صامت والأسى يضج بصدري كخضم مهيج التيار
أدفع اليأس بالرجا والثواني مسرعات والليل في ادبار
نصلت صبغة الظلام وهمت أنجم الليل في الضحى بالتواري
وزقا الديك فالأماني حيارى شاردات تذوب في الأنوار
وأنا فاقد العزاء كأني آية اليأس في جبين النهار