ذكريات وخواطرعن مارون عبود للمحامي عبد الله لحود
عندما شئت أن أتحدث عن صديقي الكبير عميد الأدباء مارون عبود نويت أن لا أتقيد بناحية معينة من نواحي نشاطه الغني الضخم. لقد شئت ابقاء المجال فسيحا ً أمامي كي أدون كل خاطرة وكل ذكرى يثيرها اسم هذا الرجل الكبير.
ان اسم مارون عبود يقترن في ذهني ببدء تذوقي لحلاوات البيان: فقد كان مارون عبود، وأنا صغير أي من نحو نصف قرن، رئيسا ً لتحرير جريدة "الحكمة" التي كانت تصدر وقتئذ في جبيل، والتي كان يملكها نسيب لي هو المرحوم سليم وهبه، موسر يتذوق الأدب ويقول فيه مارون عبود في ما يقول:
لو كان شاهدك ابن مريم لم يقل باب السما هيهات يدخله غني
كنا تلاميذ في مدرسة صغيرة، ننتظر جريدة "الحكمة" بفارغ صبر، وكنا نطالع كل ما ينشر فيها حتى الاعلانات لأنها تكتب بطريقة أدبية لا ابتذال فيها. وكنا نحفظ الشعر الذي ينشر في الجريدة ونردده ونحاول أن ننظم على غراره.
وهكذا بسبب القراءة والحفظ سهلت علينا العربية فأجدناها على حداثة السن وكتبناها بيسر بينما كانت الفرنسية تعذبنا بتصاريف أفعالها المعقدة.
وما أزال أبتسم باستغراب كلما سمعت واحدا ً يشكو صعوبة اللغة العربية او صعوبة الحرف العربي.
فاجادة العربية قد تكون من أسهل الأمور شرط أن تهجر الأساليب العقيمة التي تستعمل في تدريسها، وشرط أن تجعل المطالعة الموجهة والحفظ (حفظ القطع البسيطة والطريفة) أساسا ً للتعليم قبل التصدي لدقائق الصرف والنحو ولبهلوانيات الاعراب.
كنا نحب مارون عبود لأسباب كثيرة أولها أنه رئيس تحرير جريدة "الحكمة" العزيزة علينا، والثاني أنه ابن أخت الخوري يوسف الحداد، ذاك الكاهن الجبار الذي كان بنظرنا نحن الصغار، أسطورة ضخمة وعملاقا ً من عمالقة البيان.
أليس هو القائل:
عامان بينهما الزمان تبدلا ما أغدر الماضي وأوفى المقبلا
كان هذا البيت مطلعا ً لقصيدة طويلة كان لها بيننا شهرة المعلقات، وكان لمطلعها شهرة "قفا نبك".
وسبب ثالث كان يجذبنا الى مارون عبود، هو انه في حفلاتنا المدرسية التي يدعى اليها كان يرتجل كلمات ممتعة مليئة بخفة الروح والابتكار والتجديد.
لو أصغى شيخنا مارون
هذه أقدم ذكريات يثيرها بي اسم مارون عبود. ولعل مارون سيصغي اليها بتلذذ وشغف، لأنها تعرض أمامه أطياف الشباب وصوره الحلوة...
ثم ان لمارون عبود فضلا ً علي يجهله هو تماما ً.
أين هو فضله؟
ولا ريب أن شيخ الأدباء سيستغرب كيف أنه أسدى لي منة كبرى بدون قصد، ومن حيث لا يدري.
كان مارون عبود يملك مكتبة كثرت فيها الكتب الأدبية، واحتاج يوما ً الى المال فباع بعض أجزاء مكتبته الى كاهن يعنى بشؤون البيان هو الأب يوسف العمشيتي صاحب مؤلفات ومحاضرات وكتب مترجمة.
وجاءت الحرب الكونية الأولى وأنا في نحو الرابعة عشرة من عمري ولم يكن لي عمل يشغلني طوال تلك الحرب الهائلة والمدارس قد أقفلت فكانت المطالعة شغلي ولهوي وسلواي.
التهمت كل ما في بيتنا من كتب وقرأت كل ما يملك الجيران والأصحاب من قصص ودواوين شعر حتى الخلاصة اللاهوتية لتوما الاكويني تعريب المطران بولس عواد حاولت أن أروض نفسي على مطالعتها محاولا ً تفهم معانيها الصعبة.
وقد كنت أقرأ بعض مقاطعها ثم أعود الى قصص ميشال زيفاكو وبونسون دهترايل مترجمة بقلم طانيوس عبدو كي أزيل ما أدركني من عناء، وبعد أن استنفدت كل ما بيدي رحت أفتش عن كتب جديدة فعثرت على كتبة الأب يوسف العمشيتي (مكتبة مارون عبود سابقا ً) وهناك وقعت على أربع مجموعات لمجلة الجامعة التي كان قد أصدرها في مطلع القرن العشرين فرح أنطون في مصر ثم في أميركا، وعلى صفحات هذه المجموعات قرأت أفكار جان جاك روسو ونيتشه وأرنست رنان فأولعت بجان جاك وآمنت بسيادة الشعب مصدرا ً للسلطة، وعشقت مبادىء الحرية التي نادى بها روسو ولا سيما حرية الرأي التي هي رأس الحريات الاصيلة.
وكان جور الحكام ونتائجه الفاجعة تحيط بنا من كل جانب: فمظا لم جمال باشا قائد الجيش الرابع وأخبار رضا باشا رئيس المحكمة العسكرية في عاليه كانت تملأ الأسماع وتهز النفوس كما تهزها مناظر المحتضرين والمائتين من الجوع. وكان في كل ذلك ما ينمي الحقد على الظلم والاستبداد والطغيان.
ان اسم فرح أنطون أصبح (وظل) في طليعة الأسماء التي أبجلها وأكرمها لأن كتابات هذا الرجل أخذت بيدي في طريق التحرر والانطلاق الفكري.
وعندما زرت عام 1926 الشرميت، الضاحية الخضراء الزاهرة التي أقام فيها جان جاك روسو وصديقته مدام واران قرب مدينة شامبري دونت في السجل المخصص لخواطر الزائرين تحية موجهة الى روحين: روح مؤلف اميل والميثاق الاجتماعي وروح فرح انطون أول من عرفني الى روائع ذاك العبقري الفذ...
ولعل مارون عبود تأثر قبلي بمجلة الجامعة وهذا ما جعله أكثر انطلاقا ً وتحررا ً من معظم رفاقه واترابه رغم أنه نبت في بيئة محافظة على التقاليد، متدينة مع تسامح وتساهل (عرف بهما قرويو الجبل عندما لا تسمم نفوسهم مصالح مادية أو نزاعات سياسية أو دعوات أجنبية).
موقف الناقد... لا
لست في موقف الناقد ولا أريد أن أكون في موقف الناقد لأنني أود في هذه المناسبة أن أنسى كل مأخذ لي على أدب مارون عبود.
وليس من أدب – مهما علا شأنه الا وللناقد عليه مآخذ.
وهذا ما يؤمن به مارون عبود ونؤمن به جميعا ً.
انني سأكتفي باطلالة سريعة على نتاج الرجل، اطلالة فيها محبة صحيحة واعجاب صحيح:
يعجبني في مارون عبود انه صاغ نفسه كما يشاء وعلى هدى الفكر، لا تحت سيطرة التقاليد.
وأنه كناقد لم يتهيب الأسماء الضخمة الرنانة مع أن تهيب الأسماء هو من عيوبنا الكبرى في هذا الشرق.
ويعجبني في أدب الرجل سخرية لذيذة تمت الى تربة لبنان بألف نسب.
وجلد يقوى على الداء وعلى تراكم السنين في بلد كان الكسل من أهم الأمراض التي تنتاب أدباءه.
ويروعني في مارون عبود أنه وعى روح القرية اللبنانية ووعى الوانها وعبر عنها بفن صادق وبلغة لبنانية ذات أصالة.
وعندما أقول لغة لبنانية فمعنى ذلك بيان سهل المأخذ لا يجحد أمه الفصحى ولا يتنكر للحليب العذب الذي رضعه من أثدائها السخية!...
لقد وجد مارون عبود (لا سيما في قصصه القروية) الأسلوب الصالح لتبسيط البيان حيث تجب البساطة، ولتقريب الشقة بين لغة اليراع ولغة اللسان.
ساعده على ذلك أن عاميتنا اللبنانية من أقرب العاميات العربية الى الفصحى أو تكاد تكون أقربها.
ان مارون عبود عندما يكون للمدلول الواحد لفظتان فصيحتان احداهما من الألفاظ التي يستعملها العامة والثانية مما لا يستعملونه، يفضل الأولى على الثانية فيحفظ بذلك حقوق الفصحى دون الابتعاد عن روح العامة وعفوية تعابيرهم. وأظن أن هذا الأسلوب، سيؤذي مع ارتفاع المستوى الثقافي العامي، السائر صعدا ً، الى نتائج طيبة ينشدها أدبنا الحديث الذي ينبغي أن ينبض دوما ً بالحياة وأن يزخر بالحركة، وأن يدنو من أرواح الجماهير أكثر فأكثر.
ان مارون عبود مجموعة من الشخصيات، تستحق كل واحدة منها التكريم، شاب بعضها وما زال بعضها في ريعان الشباب.
وأنا اذ أحيي في مارون عبود الصحفي القديم كاتب الروضة والحكمة، والمربي الممتاز الذي تخرج على يده ألوف التلامذة، والناقد الجريء صاحب النظرة، النفاذة، والقصاص القوي الاحساس الذي صور القرية وأهلها أبدع تصوير والأديب صاحب السخرية اللذيذة، اي أحيي فيه جميع هؤلاء انتهج دربا ً قد يؤدي الى حل ما دعوه بكثير من الغلو والتشاؤم - مشكلة الازدواجية...
سلام عليك يا استاذنا وصديقنا، ويا ابن بلدنا البار.
الطريق 1961، العدد الخامس
المحامي عبد الله لحود