هذا مذهبي لمارون عبود
هذا مذهبي لمارون عبود
مذهبي في الحياة أن لا مذهب لي فيها. فكل أعمالي خبص في خبص. ما أريده لا أفعله، والشيء الذي لا أريده، إياه أصنع. احسبني كرة في يد لاعب جبار يقذفها في الفضاء، فلا هو ولا هيَ تدري أنى تتوجه وأين يكون مستقرها. فالحياة في نظري لعبة تتلهى بها قوة سرمدية ازلية، تخرج منها انماطاً لا تدرك، ولا يزال في قراراتها غرائب وعجائب لا نهاية لها، كلما تزاوجت انسلت اقزاماً وعماليق، وكلما انفعل الكائن الأزلي تفجرت قواه اللامتناهية وانبثق إلى الوجود ما يحيّر كل موجود.
في مذهبي ان الدماغ البشري هو المستودع النائمة فيه، إلى حين، اسرار الطبيعة، وقد عاينته، يبرزها الى الوجود واحداً واحداً في سبعين عاماً فما كان مستحيلاً امسى ممكناً .
لا أتمثل الحياة إلا مدرسة لا نهاية لدروسها. خريجها يتوارى في الظلمة قبل أن يرى النور الذي ينتظر. ومع ذلك اراني اؤمن بالحياة إيماناً عميقاً لا قرار له، واحبها محبة كلية ولكنها بدون رجاء.
اؤمن بالإنسان ابنها الوحيد، الخالق الأعظم المنبثق من الأرض والسماء، فهو جرم أرضي سماوي في وقت معاً. إني ارى الأرض مصدر كل خير وبركة، ومع ذلك يكفر بها الناس، ينكرون فضلها عليهم، ويفتشون عن سعادتهم في غيرها. أما أنا فمذهبي في الحياة هو مذهب طرفة القائل:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني ابادرها بما ملكت يدي
لا أؤمن إلا بأني سوف أموت، ولا يعنيني كل ما يقال عني بعد ذلك.
مذهب غيري: القناعة غنى، أما أنا فشعاري الطمع في هذه الحياة، وأرى القناعة من طباع البهائم، أما في محبة الدنيا على دين معاوية، أود لو تكون في يدي بيضة نمبرشت فاحسوها كما هي دفعة واحدة.
مذهبي في الحياة أن أعمل دائماً، وهمي أن اسبق من قبلي واعجز من بعدي، ولكن يا ليت.
أكره القمر ولا أفرح بولادته لأنه بشير زوال، وأنا لا اريد أو ازول قريباً. وأحب الشمس لأنها رمز الديمومة .
أتعد هذا فلسفة؟ أنا لا فلسفة لي في الحياة، ولا اؤمن بالفلسفة. واعتقد انني حجر في مقلاع الجبار العنيد، فتارة يضربني وآونة يضرب بي، فخير ما أعمل هو أن أعمل بلا انقطاع لأجد اللذة فيما أعمل ولا في ما أفكر .
لي في حياتي مذاهب تتغير وتتقلب مع الأنوار والظلمات، ومع الحر والبرد، وفي العسر واليسر، ولكن الشيء الذي لا يتغير هو الانصراف الى العمل الذي ينسيني جميع شؤوني وشجوني.
فكل أمنيتي ألا اذيب شخصيتي في مستنقعات الآخرين، وأن أظل منسجماً مع ذاتي، وأن أبقى ساذجاً لا تكلف ولا تعقيد في حياتي، والا اتخلى عن شيء من بساطة أورثنيها المربي فأكره شيء إليّ التقليد .
لا تسلني عن مذهبي في حياتي لأني لا أعرف ذلك المذهب لأحدثك عنه. فكل ما أعرف انني بدلت اثواباً كثيرة، ولم يبقَ لي لأقول هذا يعجبني، فأمري ليس في يدي.
فكل ما أعرف هو انني نشأت نشأة زمنية في كنف رجل يرى الضحك جريمة، فكان يهز لي العصا كلما خف وقاري، فأعود الى الترصن، وكان صباي وشبابي رصانة لا قيمة لها لأنها مصطنعة وضد طبعي. فاضعت ذاتي زمناً طويلاً ولم أعثر عليها إلا في ظهر العمر. وصرت اخيراً كما يقول أبو نواس: وشيبي بحمد الله غير وقار.
أرأيت انني، كما قلت لك، مسيّر لا مخيّر، كثيراً ما أوحاول أن أعدي عن الهزل، ثم لا أجدني إلا انبريت له، فكأني أو كأن الحياة تريد أن تعوض عليَّ ما حرمته في صباي وفتوتي.
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها فمفترق جاران دارهما العمر
يظهر أن هذا الضحك نافعي. يجب أن نضحك كثيراً حتى نقابل جهومة الشيخوخة العتيدة، ونرعبها فترتد على اعقابها وتختفي علاماتها من أمام أعيننا.
ومذهبي الأخير، اقول الأخير الآن، فربما كان لي غداً مذهب غير هذا، هو ان استهزىء بالموت، وإني لأعجب كيف يخاف الموت من لا يرى أمامه حقيقة ثابتة غيره. نعلم اننا ميّتون، وإذا حصل الموت قمنا وقعدنا وتفجعنا كانما حلّ بنا أمر غير منتظر ولا مقدر. فمن لي بمن يضحك ويقهقه يوم أتوارى لتقرّ بذلك عيني وتطيب نفسي كممثل هزلي يسدل عليه الستار بين تصفيق النظارة وعربدتهم الضاحكة. وهل الحياة غير رواية هزلية؟!
لا أتمنى على جسدي إلا ان يظل خادماً أميناً لما خلق له. والا ينذرني قبل ان يخذلني، وإن كان لا بد من عمر طويل فارضى أن أعيش ما ظللت قادراً على العمل. ولو كنت واثقاً من أنني اطالع وأكتب في دنياي الجديدة لما طلبت المزيد من حياتي هذه . ولكنني أخشى ان يصح ما يقولون: وامسي واصبح في جنة لا عمل فيها. من هذا خوفي لا من الموت.
يشغل بال البشرية تطويل العمر، أما أنا فارى ان محاولة هذا التطويل تحول دون التمادي في العمل، والذي يستريح ليطيل عمره يكون قد قصره من حيث لا يدري، فالعمر الذي لا يملأه العمل هو عمر أجوف كالقصبة. ولعل لي رأياً يخالف رأي غيري، فأنا لا أشغل نفسي باصلاح ما بعُد عني إلا بعد ما أصلح ما قرب مني، وأبدأ بنفسي، ولذلك أحاول دائماً أن انمي رأسمالي الأدبي لعلمي الأكيد أن ما يبنيه الاتفاق يهدمه الاستحقاق.
وأخيراً لست أدري إذا كنت أعربت عن مذهبي، ولكن من أين لي المذهب وأنا – كما قلت- تلك الكرة التي تتقاذفها يد القدر. ما قالت الناس عبثاً: نحن في التقدير والله في التدبير .
فليدبر ما شاء، وإذا حالت مشيئته دون مرامي فما في ذلك كبير شأن ما زلنا نقول: إنه ضابط الكل، ووسع كرسيه السموات والأرض.
محمد مارون لمارون عبود
رزقت ولداً فسمّيته محمداً، فقامت قيامة الناس، فريق يستهجن ويقبّح ويكفّر، وفريق يوالي وينتصر. وكان أوّل من قدر هذا العمل وأعجب به أشدّ الإعجاب، صديقي المرحوم أمين الريحاني، فبعث إلي بكتاب بيني وبين الريحاني . أما الآن فإليك القصيدة وفيها التفصيل التام.
عشت ياابني، عشت يا خير صبي ولدته أمه في «رجبِ»
فهتفنا وأسمُهُ محمدٌ أيها التاريخ لا تستغربِ
خَفّفِ الدهشةَ واخشعْ إن رأيتَ ابنَ مارونٍ سميّاً للنبي
اُمّه ما ولَدتْهُ مسلماً أو مسيحياً ولكن عربي
والنبيُّ القرشيُّ المصطفى آية الشرق وفخر العربِ
يا ربوع الشرق اصغي واسمعي وافهمي درساً عزيز المطلبِ
زرع الجهل خلافاً بيننا فافترقنا باسمنا واللقبِ
«فالأفندي» مسلمُ في عرفنا والمسيحيُّ «خواجه » فاعجبي
شغلوا المشرق في اديانهِ فغدا عبداً لأهل المغربِ
يا بني اعتزَّ بإسمٍ خالدٍ وتذكّرْ إن تعشْ، أوفى أبِ
جاء ما لم يأِتهِ من قبلهِ عيسويٌّ في خوالي الحقبِ
فأنا خصم ُالتقاليد التي ألقتِ الشرقَ بشرّ الحَرَبِ
بخرافاتِهِِمِ استهزىء وقلْ: هكذا قد كان من قبلي أبي.
وغداً يا ولدي، حين ترى اثري متبَّعاً تفخر بي
بكَ قد خالفتُ يا ابني ملّتي راجياً مطلعَ عصر ذهبي
عصر حرية شعبٍ ناهضٍ واتحادٍ لبقايا يَعرُبِ
حبّذا اليوم الذي يجمعنا من ضفافِ النّيل حتى يثربِ
ونحيّي علمَاً يخفقُ فوقَ منارات الورى والقبَبِ
ليته يدرك ما صادفته عندما سمّيته، من نصبِ
لو درى في المهدِ أعمال الألى حركتهم كهرباء الغضبِ
لأبى العيش وشاءَ الموت في أمّةٍ عن جِدّها في لعبِ
كم وكم قد قيلَ ما أكفرَه سوف يصلى النارَ ذات اللهبِ
إن يشنّع بابنهِ لا عَجَبٌ فهو غرٌّ كافرٌ لا مذهبي
لا تصدّق قولَهم يا ولدي إن فيما قِيل كلَّ الكذبِ
إنّ حبّ الناس ديني وحياةَ بلادي باتحاد أربي
فكتابي العدلُ ما بين الورى في بلادٍ هيَ أمُّ الكتب
فاتّبع يا ابني أباً ابغّضَهُ وجفاهُ كلُّ ذي دينٍ غبي
فهمُ آفةُ هذا الشرقِ مذ حكموهُ بضروبِ الرعبِ
جعلوا الأديانَ معراجَ العلى ومشَوا في زهوهم في موكبِ
شرّدوا«أحمد» عن مضجعه فسرى ليلتَهُ في كربِ
ودّهوا عيسى لما علَّمهُ وهو لولا كيدهم لم يُصلبِ
فإذا ما متُّ يا ابني في غدٍ فاتبع خطوي تفزْ بالأربِ
وعلى لحديَ لا تندب وقُلْ آيةً تزري بأغلى الخطبِ
عاش حراً عربياً صادقاً وطواه اللحدُ حراً عربي