الأمثال الشعبيّة مِرآةٌ عاكِسة بل فاضِحة
إنّ المُوَفَّقين من النّاس في طبائعهم، مَن لم يخِسَّ فيهم حسنُ السّمعة وبُعدُ الصّيت، قلّما يَسلمون من حبّ المدح والثّناء، فلم يضُنَّ المجتمع عليهم بمظاهر التَّبجيل، كما لم يترفّع عن التلَهّي بغلالاتهم فيضربَ بها الأمثال. أمّا الذين لم يكن فيهم شيء من النَّفع، فقد صُبَّت عليهم النَّواظر حتى قُطِّعوا " تمثيلاً ". وسرى نصيب التَّسجيل سَمَعاً وبَصَراً بغير قليل، وصار كَسباً تناقلته الأجيال التي هي لسانٌ لم يَكِلَّ قولُه: وكذلك يفعلون. لكنْ، وبالرَّغم من هذا التَّمييز، فإنّ الحقَّ مُطلَق، لأنَّ الباطلَ ليس سوى حقيقةٍ أَدرَكَها التَشَوُّه.
لم تَغِب العبقرية الشعبية عن مجتمعات النّاس، في قديم الأزمنة وفي حادثها، ولم تَدَع دمها ينزفُ لِتَبين صُفرةُ وجهها، بل كان كُمُّها يُخرِج باستمرار رقاعَها التي لم تجمعها من الحَرام. والرّقاعُ أسفارٌ ورسائل ومقامات عاشرها المجتمع بُرهاتٍ من الدّهر، وأَثبتَها خاطرُه لتكون كالتّذكرة في معرفة سلوكيّات النّاس وأخلاقهم في طبقاتها، وتَبايُنِ صورتهم التي يقع تحتها نوعُهم، وحوادثِهم في عاداتهم وأَلسنتهم. وقد تدخَّلت العبقريّة تجمع الفصول وتهتدي الى عمق حقيقتها، وتَنشَط لاختزال الواحد منها بمَثَلٍ هو عِبرةٌ في عِبارة، تفوَّقت على الحالة الإختفائيّة وسَرَت بسهولة كالحكاية، فاستعارها الناس في كلّ جيل، وكان شَوطُها في الخلود طويلاً. كيف لا، والعِبرةُ تتمدَّد فوق جسدِ الزَّمن، هذا الذي خَيطُه مَثلوثٌ يربط بين بداية الحياة وبين واقعها الرّاهنِ وحتى آخر الدّهور.
الأمثال جزءٌ من الأدب الشعبيّ لأنه حكايات نادرة، مُلحُها في لحنها، وحلاوتها في قِصَر مَتنها، وحرارتها في حُسن منطقها. وهي ثقافةٌ تطلّ من مسرح الماضي، أو هي تحفة أثريّة تشكّل مصدرَ معرفة له، يُستنَدُ إليها بوصفها براهين استمدّت مصداقيّتها من التاريخ الذي تُنيره، والحالُ أنّه يستحيلُ اختلاقُ برهانٍ من عَدم. ولعلَّ في ذلك جواباً على البعض الذي شكَّك بإعادة بناء الماضي استناداً الى الأمثال، إذ سأل: هل تستحقّ الأمثال أن تكون مرجعاً موثوقاً، أو هي مُجرّد مواقف رمادية لا يُمكن الحَسم معها حسماً مطلقاً ؟ في الواقع، لم تُطلَق الأمثال من دون وجه حقّ، فهي تُقدّم تسهيلات جمّة للإضاءة على التاريخ الإجتماعي أو عِلم الواجبات الإجتماعية، ولا تطلب تعليلاً لأنها تُشاكلُ الواقع مُتأتِّيةً من تجارب في المجتمع والطبيعة. فهل أَصدقُ من الإستنتاج بأنّ " جارَك القريب ولا خَيَّك البعيد "، أو " البَحصَة بْتِسنُد خابيِة" أو " إذا بَدَّك تُخرُب بلاد، دْعِي عْلَيا بْكِتر الرُّؤَسا" ؟ لذلك، فالأمثالُ ليست مجرّدَ افتراضات هجينة أو أوهاماً تخييلية، لأنّ كلّ واحد منها " مُخبِرٌ" دقيق وحياديّ لحوادث وسلوكيّات إنسانية مُمكنة الحصول أو بالأحرى واجبة الحصول. وأكثرُ من ذلك، فإذا كانت الحفريّات الأثرية تقدّمُ أحياناً معطيات يكتنفُها الإلتباس، فالأمثال أحافيرُ إنسانية تُحتَضَن بارتياح، وما يحتضنُه الناسُ بارتياحٍ حتى اليوم هو وحده المُمكِن.
إنّ أَنجحَ ما في الأمثال هو التَقَرُّب الودّي من الناس بطابعها الحِكائيّ، من هنا ابتعادُها عن التّماثيل والعشوائيّة واتّصالُها بالموضوعيّة. لذلك هي ليست كالأساطير ذات الطابع الغرائبي، والتي قال عنها "بوسانياس" إنها ليست أكثر من سذاجة حمقاء، كما أنّها ليست طلاسم أو أَلغازاً بالرَّغم من تَنسيجها غالباً وفقَ أسلوب التّلميح والمَجاز. إنّ الأمثال مِرآةٌ صالحة لِسَكَن مشاهد الحياة، فهي لذلك مستندات ثبوتيّة، لكنّ إستراتيجيّتها لم تكن وَصفية بِقدر ما كانت نقدية كونَها تتضمّن مَغزىً يُؤدّي وظيفة حيويّة، من هنا، يَصحُّ اعتبارها " حُكماءَ " الغابر من الأيام. والنَّقد هنا نَقدٌ بَنّاء غرضُه التوجيه وليس نَقداً ساخِراً أو تَهَكُّمياً، وإن كان في بعض الأحيان لاذِعاً من مِثل الإشارة الى قِلَّة الوفاء بين الأقارب بِقَول المَثَل: " القَرايِب عَقارِب"، أو في الإشارة الى تَقييم الناس استناداً الى إمكانيّاتهم المادية بالقول: "معَك ليرة بْتِسوى ليرة، ما معك ليرة ما بتِسوى شي". أو في تصوير المُحتاج المُتكَبِّر بالقول : " شِحّاد ومْشارَط". ولكن، ومع نُفور الطَّبع في بعض الأحيان أمام هذه الأساليب المكشوفة والتي "تَنكُز"، يجدر بنا ألاّ نُبديَ انزعاجاً أو نغضبَ لتلك الرسالة الشَفهيّة التي تهدفُ في النهاية الى التَّعليم والإصلاح وتَصويب الأخطاء وجَلاء الإلتباسات، وما هذه سوى حَضٍّ للناس على البحث لاكتشاف الحقيقة. من هنا، كان بعيداً عن الإنصاف أن يقعَ التمييز بين المَثَل والحكمة، أو بينه وبين القول المأثور، فلَربّما احتوت الأمثال من الحكمة ومن الأقوال المأثورة ما لم تستطع هذه أن تجسّده.
إنّ التَّجاوزَ الذي يأتيه المَثَل الشَّعبي هو في تَحَوُّله مَثلاً أَعلى، عندما يُسهِم في بناء السّلوك بالإقتباس والقدوَة الحَسَنة. من هنا، يُصبح المَثَل قيمةً مُضافة الى التربية، يحثُّ على الصَّواب ويحذّر من الإنحراف. وهذا التأثير الإيجابيّ لا يقف عند العقل الإفرادي، بل يتبنّاه أيضاً العقلُ الجَمعي لأجل الوصول الى درجةٍ مَطلوبة من الإنضباط والتَّرشيد. وكما أنّ المَثَل الأعلى ليس بِدعة، فالمَثَل الشعبي ليس من الأباطيل، إنّه سَردٌ موجَز لحدثٍ حقيقي من دون إرباك، ومن دون تَحريفٍ بفعل عناصر طارئة تضخّمه، لذلك أصبح جديراً بالثّقة.
إنّ الذين "صنعوا" الأمثال فنّانون لم يكونوا عاديّين، إنّهم مُحتَرِفون يتمتّعون بدقّة الملاحظة وتَنَوُّر العقل والتجرّد، استقوا الحوادث والوقائع من صميم طبقات مجتمع الناس واختزلوها، وكانوا شهود عيان مردوعين عن التَّحامل عَفواً أو عَمداً، لأنّ القَصدَ شريف. ولو عدنا الى تلك الأمثال حتى في مَجازاتها، لَوجدنا طرائفَ تدلّ على ذكاء وابتكار، ونوادرَ تُشوّق الخيال، من هنا، يُرَدّ القول بأنّ الأمثال قيلت من غير فنّ. ولمّا كانت الأمثال جزءاً من الأنتربولوجيا أو عِلم الإنسان، قد نشأت وتطوَّرت في عدّة أجيال ولم تُخلق خَلقاً، وتولَّدت من الإستقصاء والإخبار، وكذلك من أخطاء الطَّبع البشري. لذا، كان من المَشهود لها أنّها عِلمٌ ذو موقفٍ يفاجئنُا بل يصدمنا أحياناً، في تَصويرها العادات والطِّباع وحتى الغرائز، وغالباً من حيث لا تَقصدُ أُمَمُ الناس الى ذلك. والعِلمُ هذا يمَتُّ بالقُربى للسيكولوجيا لأنه موصولٌ بأسباب الحياة، وما فيها من مفاجآت مدهشة وأحلام عجيبة، ربَّما صَوّرَ بعضُها ذلك النّزاع المَكبوت في النفس الإنسانية التي أضناها الإستفهام زمناً غير قليل، والذي لم يوصِل أكثرُه الى أجوبة مُطَمئِنة، فهل يَصحُّ دائماً أنّ " الدَم ما بْيِقلُب مَي " ؟؟
إنّ الإنسان هو العالَم الصَّغير سَليلُ العالَم الأَكبر، يصوّر بيدِه كلّ صورة، ويحكي بفَهمه كل صَوت، ويُنتِج بعقله كلّ مقارَنة، لذا، كان من الطبيعي، عندما يَسمعُ واحداً من الأمثال، أن يُسرعَ الى القول: " ما في دِخّان بَلا نار".
بقلم الدكتور جورج شبلي