الزَّجَل حِليةُ الشِّعر بقلم الدكتور جورج شبلي
عندما يَسكنُ نشاط الفنون وفي طليعتها الأدب بمفهومه التِّقني، تنطلقُ أَلسنة الشِّعر الشَّعبي تُذيع خَواص المجتمعات في دقائقها. وأين لسائر الفنون من السِّعة ما للشِّعر بالعامية، وهو الكلام الطَّلِق الذي لا يوجِب الحجّة، والذي لازَمَ الناس دهوراً من دون أن يَغيض. والزَّجلُ حِلية الإبداع، وليس صنفاً ضيِّقاً فيه، يضطجعُ في مَراقد المواهب ثمّ يفيقُ على أَكُفِّ الكلام المُرَنَّم ممّا يَقصدُ إليه العَوامُ من الناس، وهم الأغلبية، لأنّ فيه استجابةً للموسيقى الوجدانية في قلوبهم.
يقوم الزَّجلُ مقاماً في الشِّعر لا يُقدِّم فيه رِجلاً ويُؤخِّر أُخرى، فيستودعُ في قصائده ما فيَّأت ظلالُه من مرشوحات في طبائع الناس وأذواقهم، مَطبوعة برِقّة وحلاوة وعمق. وعندما يُفَكّ كيسُ الأزجال عن خَتمِه، يرشحُ خَبَرُ الناس في أزماتهم وبلاياهم كما في نعيمهم ويقينهم، وينفسحُ المجالُ لآثار الأيام برَيحانها وسِحرها كما في شَوكها وأهوالها. من هنا، كان موقف بعض النُقّاد من أنّ الزَّجل يغلب عليه النّثر ومذهبُ الأَراجيز، ويقف بالتالي في حدود الأفكار السطحية، هو موقفٌ مردود. وكذلك، لا يَقلّ الزَّجل نُضجاً وسَلاسَةَ بيان وأَثراً في أنفس القارئين والسّامعين، عمّا يقدّم الشِّعر بالفُصحى من صنوف اللذة والإمتاع، لا بل يتفوَّق عليه في أحوال عِدّة.
لا يمكنُ الإدّعاء بأنّ الأزجال برُمَّتها، بيانُها رائعٌ وبضاعتُها توجب حُسن المكافأة، فهذا الإدّعاءُ فيه من الغُلُوّ مَلمَحٌ مَشهود. فالكثير من العبارات الزجليّة يغلب عليه الضّعف، وهذا مَقتلٌ خطير للزجّالين الذين لا يصنعون أساليبهم في حَذق وتَأَنُّق. كما أنّ الإستسلام لاستنبات الشِّعر من دون حاجة الى تهذيب وترتيب، كثيراً ما يوقِع في مَهاوي الرَّكاكة والإسفاف. لكنّ ذلك لا يعني، في حال من الأحوال، أنّ المواهب الحاضرة في الذّهن والمُتأهِّبة لتلبية نداء القَول، لا تستأهلُ وِقفةً إدهاشية أمام قدرتها على اجتراح ابتكارات فورية مُذهِلة. فأحواضُ الزَّهر المُنَسَّقة التي يُعنى بها الجِنانون في الحدائق والبساتين، لا يَقلُّ عنها روعةً وفِتنةً، الزَّهرُ المُبَدَّدُ الذي تُلقي به الطبيعة هنا وهناك وِفقاً لِخَصب الأرض وجُود السماء.
لقد دخل الزَّجل جنَّة الشِّعر بِسلام، لأنّ كَمَّهُ لم يكن ضجيجاً، فبينه وبين الناس دُنُوُّ دارٍ وقُربُ مَحلّ، لذا كان له في مَدارج أنفاسهم مقامٌ معلوم، فلم يطحنه البَلى ولم يأكله الثَّرى. لقد وزن الزَّجل كلّ شيء بميزانه ووِفقَ مقاماته وأَشياعه، فما بَذَّر ولا قَتَّر، بل خاطبَ طوائف الناس من دون عِيّ، وأَفصحَ في إفهامهم، فوقع كلامه من أَنفُسهم موقع السِّحر. حتى قال بعضهم إنّه لم يسمع أَظرفَ من " قَفشات " الأزجال في فنّها، ولا أَعذب ولا أَخَف، تُطلَق على السجيّة من دون تكلّف أو تَصَنّع. وإذا كانت البساطةُ تصنع جمالاً، على حَدّ مقولة الفرنسيّين، فالزَّجل مَقسومٌ له ألاّ يَشهدَ هِلالُ الجَمال فيه كُسوفاً.
ولمّا كان الزَّجل يمثّل الحرية التي كان يمرح في ظلالها مُتقِنوه، تخطّى هؤلاء موقف الجمود، وكانوا يُبيحون لشِعرهم التحدّث عن مواسم الكلام وألوان الموضوعات من دون روادع. من هنا، بلغ النّقد في الأزجال مَبلَغاً غير قليل، واتَّخذ له مكاناً في صناعتها، حتى أنّ بعض " الرَدّات " سرى مَسرى الأمثال لكثرة ما رُدِّد، وهذا ليس حديث خُرافة. والزَّجل على هذا الصّعيد مُشاغِب وليس خَمولاً رَمدَت عيناه، فقد أَعمَلَ المِبضَع في أجساد المكائد وأَوابد الدسائس، وأماط الِّلثام عن شكاوى الناس ومَظالمهم، وتوجّه الى أُمناء الحكم لِرَفع الضَّيم، وأخرج من المُعتَقَل قضيةَ الوطن التي سُدَّت مَشارعُها، فتلوَّن بشُموخٍ جريء ينبعُ من وجدانٍ وطنيّ صادق.
الزَّجلُ، وإن غَلَبَت عليه النَّزعة الوصفية، له المكان الأول في المحافل والأندية والمواسم، فهو أقربُ ألوان الشِّعر الى القلوب وأَحَبّها، وذلك لاهتمام أصحابه بالحديث عن أهواء الناس وميولهم في عالم الجدّ كما في عالم المجون. فالزَّجل لم يقتصر على الشؤون الجدية فقط، وذلك كي لا يُحبَس على فئة قليلة هي الجمهور المُثَقَّف، وهو جمهور له قيمته وخَطَرُه، لكنّه اهتمّ ايضاً بما عند العَوام من أهواء وأحاسيس، فجاءت القصائد فيها فُتنٌ للقلوب والعقول. من هنا، كان نَصيب الزَّجل أن يَذيع، وأن يكثُرَ استعماله على أَلسُن الخاصة والعامة، لأنه استطاع أن يغزوَ ساكني القصور والأَكواخ معاً.
اللّذةُ في التَظَرُّف بعِشرة الزَّجل لا تَفضّ خِتامَها، فأقداح المتعة به تُلوِّحُ أعلامَها، ومُتَرَقِّبوه لا يزعج أَعينَهم خَفيُ الغَمز، بل يُطيعون بالإنبساط أوامرَ الأَنَسَة. والعجيبُ أنه لا يتوجَّبُ مُلازمة الزَّجل دهراً حتى يلصقَ بأحشاء مُحِبّيه، فهم يُسرعون الى الأُنس به عند أوّل لقاء، فلا يرغبون استبداله بغيره من الأُلاّف، وذلك لِوُلوعٍ لا ينفكّ يُطرقُهم. من هنا، فإنّ دوام الوَصل بين الزَّجل ومُحِبّيه لا يودي بهذا الحبّ، بِقَدر ما يجد هؤلاء أنفسهم إلاّ مُستزيدين، فكلّما ازدادوا دُنُوّاً ازدادوا تَلَهُّفاً، وما واتَتهم نفسُهم على سواه.
الزَّجل لا يَضيق بِطارِق، فهو يُجري على لسانه مفردات مهجورة في اللغة الفصيحة، حتى أنه يُكثر في استعمالها، وليس من المنطق في شيء أن نسدَّ آذاننا عن اللّهجات التي تشكّل المَدَد الدائم للشِّعر الشَّعبي، لأنها المنابع الأصليّة للُغتِه. بالإضافة الى أنّ في هذه الرَّوافد العاميّة نوعاً من الحرية والطلاقة والمرونة، فمن الأَوفق أن تتسرَّب أشياء من تلك السهولة الى لغة الزَّجل لتكون أكثر سلاسة وليونة، ولتصير أَقدرَ على الإفهام والتوضيح والتَّبيين.
الزَّجلُ لم يعتَب على الدَّهر. فهو، وإن لَفَّته الغُربةُ في وحشة موجات الحداثة وقتاً، وإن عانى من الغُبن إذ أتاحت الأيامُ له عُزّالاً، غير أنّه لم يبرح رُقعةَ الزَّمن فلم يُطرَح ذِكره أو يُستَر. ومهما بادر أهلُ الإِحَن الغَليظو العقوبة، والذين يعتبرون الزَّجل لوناً من العَبَث، الى قَطع قصائده وحَلِّها في الماء لِمَحوِ أثرها، فأنّ الزَّجل لم يقع في شَرك الشيطان، فلم تَنقَضِ أعماره ولم يُوافِه الأَجَل. لقد أَمسكَ رَمَقَه في الدنيا ولم يَلوِ عُنقَه في الغَياهب، لأنّ زمنَ الذَّوق ما مضى وما راح، ولأنّ الإتصال بِجِلد الناس المُتَجَدِّد، لا التَحَجُّب، هو أصل الصيانة والبقاء.
أما فضلُ الزَّجل على تراث الجماعة، فأَكبر من أن يُقَدَّر. فلو ضاعت دواوين الشِّعر الشّعبي لَفَقَدَ مجتمع ناسِنا فرائدَ الفوائد من ذاكرة الأيام، وهي ثروةٌ حقيقية تَخيطُ الصِّلة بين الحاضر والماضي، أو هي نورٌ يُقتَبَس منه وبحرٌ يُغتَرَف من دُرَره. وليس كثيراً الحُكم بأنّ التراث كان يُمحى أو يكاد، لو لم يَظفَر بالزَّجل ذلك الحافِظ الأَمين. إنّ شَوق التراث الى الزَّجل لا يقلّ عن شوق الظَّمآن الى الغدير، فنُزوح التراث عن التّذكرة فُرقةٌ تُؤلِم لضَياع الخِلال التي درجَت عليها مِشيةُ المجتمع. والزَّجل الذي يَرمقُ التراث بنواظر الودّ، قد كَرَّم غُرَّته وأطالَ مدَّته، بالتماس ذِكره والاتّصال بأخباره وإدراج أحواله، ليبرهنَ على أنّ البَعث ليس مستحيلاً.
إذا كانت الموسيقى ترسو عند الشُّعاع الأَكمل إذ تجعل السَّماع يُقيم في عالم الإرتياح، وإذا كانت الخَطابة في ديباجتها تفرض سِحر التأثّر، فالزَّجل يحتلّ في بدائعه موقع الصّدارة في الجَمع بين السَّماع والإنفعال أو ردَّة الفعل. من هنا، يظهر من ثنايا الأزجال أنّها تَخطف وتُلهِب، وهذا ما لم يُسبَق إليه أو يُزاحَم عليه. وهكذا يُمكِن، في هذا المَجال، الإستعاضةُ بحضور حَفلات الزَّجل عن أدوية اصطناعية كثيرة، وذلك لمُداواة ما يَمتّ بِصِلةٍ الى عِلَل النفس والأَعصاب، وربّما أيضاً لمعالجة انحرافات مَن أَنفَت رؤوسُهم عن جسم الوطن.