مقالات - عفيفة كرم
خذوا لكم من حياتي عبرة بقلم فكتوريا طنوس
عن لسان الفقيدة
ولدت فقيرة في بلاد فقيرة ،فقيرة العلم والمعرفة والمال، ومتُّ غنية في بلاد غنية غنية بالعقل والعلم والمال. لم يكن لي يوم ولادتي ما أفاخر به سوى حسبي ونسبي . أما في يوم موتي فكان لي علمي وأدبي، سنّو حياتي لم تتجاوز الأربعين سنة – دفنت فيها حلو الحياة ومرها. دأبت على العمل – فأثبرت . وانعكفت على الدروس- فنبغت. وثابرت على المطالعة- فألّفت . خلع عليَّ والدي اسمي وانا طفلة قبل أن اعرف معنى الأسماء. ولما كبرت وأدركت معنى اسمي جعلت حياتي مطابقة لذلك الأسم. تعلمت ان معنى عفيفة – العفة في القول والفكر والعقل. فعشت عفيفة ومتّ عفيفة وفهمت معنى "كرم" هو السخاء والجود – فبذلت من الوزنات التي سلمني اياها الخالق بقدر استطاعتي فجدت بما لي على القريب والغريب ولم ابخل بإرشاداتي ونصائحي على الذين احتاجوا اليها وطلبوها. لم أفعل ذلك حباً بالشهرة العالمية بل كنت مدفوعة بعامل حب الواجب نحو الله ونفسي وقريبي.
هجرت بلادي كما هجرها غيري ويممت بلاد الحرية وليس في جيبي من المال ما يكفيني مؤونة سنة. وخرجت منها ولي من الثروة ما يكفيني مؤونة العمر. لو طال حتى ولو تقاعدت عن العمل كل ذلك بفضل جدّي واجتهادي.
يتمية أنا – لذلك كرّست معظم حياتي لخدمة الأيتام نظيري. حرمني الله لذّة الأمومة فجعلت قلبي ملجأ لكل من ليس له أم. كنت أسمع جميع الألقاب والنعوت وكلمات التحبب التي كانت تنهال عليّ من أهلي وأصدقائي وزملائي فلم أجد بينها أحلى على سمعي من كلمة "يا أمي" وهذه حرمتها. شرف الأمومة لا يضاهيه شرف في العالم وكنت أفضّل لو خسرت كل شيء وخرجت من العالم كما دخلته وربحت شرف الأمومة.
القضايا التي عالجتها صحف النساء في ذلك الوقت والقضايا التي التزمت عفيفة كرم الدفاع عنها عبر الصحف.
قضايا الصحافة العربية النسائية تلخصت عند عفيفة كرم في ثلاث ألا وهي: الحجاب والسفور، تعليم المرأة، وحقوقها الاجتماعية والعامة.
وقد هاجمت عفيفة كرم رجال الدين بلهجة فيها الكثير من القسوة والغضب، لأنهم يغفلون عن توعية الفتاة. كانت تلومهم لأنهم كانوا يغمضون اعينهم عن مثل هذه الزيجات المكرهة غير آبهين ما يرافقها "من اكراه معنوي سافر" بل أكثر ما أثار حفيظتها هو تشجيع رجال الدين على هكذا زيجات لِما لهم فيها من منافع ومصالح مادية ومعنوية . وقد كتبت رواية غادة عمشيت ضمن هذا الاطار.
ومن رواية غادة عمشيت نقطف هذه الأسطر القليلة كمنوذج عن رأيها برجال الدين..
إن ما يؤلمني هو أن أرى أكثر رجال هاتين الفئتين (رجال الدين والدولة) ذوي استبداد وظلم وفساد وشرّ. يضعون على اعناق ومناكب الشعب اثقالاً عظيمة ولا يحركونها هم بأصابعهم على حين انهم وجدوا لكي يخففوا عنهم حمل هذ الأثقال . فهؤلاء الذين جعلهم المسيح "رعاة القطعان" وينعمون بصوفها ويمتصون دماءها فيبعدون بعضها عن الحظيرة بأعمالهم هذه ويعلمونها الشرور ويسحقون البعض الآخر ضغطاً تحت صلبان أثقالهم ومظالمهم ونير استبدادهم لأن عامة أهل بلادنا يا صديقي تحسب الدين الحقيقي هو في شخص خادمه، فلهذا ترى المبادىء الأولى هي صيانة جوهرة الدين النفيسة من الأطمار البالية- أطمار التقاليد والجهل والخرافات والمظالم – الملتفة عليها واظهار بهائها للعلم كما هي حقيقة لا كما يريد الظلام إظهارها لهذا ترى ان اكثر رجال الدين الأشرار اعدائي لأنهم لا يريدون الإصلاح بنفوسهم ولا يسمحون ان يتم على يد غيرهم وهم في لبنان "بحكموننا" الآن كما كان إخوانهم في فرنسا وإسبانيا في القرون الوسطى. وليس رجال الدين الأشرار وحدهم أعدائي بل أكثر عامة الشعب التي تصدق تعليمهم كأي كافر مارق (..) حقيقة ما نقول يا عزيزي، وقد رأيت كيف أن سيادة المطران... قد جاء عمشيت وأخذ المال الذي وجده وراء المرحوم فارس جبور وأقفل داره ورجع وكأن ليس لعمشيت حق المطالبة بحق(...) أما شعبنا اللبناني المحبوب فقد تعود خنوع عنقه للإكليروس واعتقاده أن كل ما يقوله مقدس لا يجوز مسه ولو كان يعلم بالقتل مثلاً.
جيش نساء الشحنة
للسيدة عفيفة كرم
اعتاد الناس ان يوجسوا خيفة من كل شيء غريب عنهم فكان بذلك خوفهم من اسم الشيء لا من نتائجه. ومن هذا النوع نرى تخوفهم من وظائف المرأة في عهدها السياسي الجديد كوظيفة البوليس مثلاً. فلو قيل لرجل ان ابنتك ستكون في مقبل الأيام (بوليساً) لارتعدت فرائصه ولقطّب جبينه حنقاً وأجابك بكلام مهين. وأما لو سألته لماذ غضب، وأي عارٍ في اعمال نساء الشحنة لحار جواباً. و لو قلت له : ابنتك ستكون كاتبة او مختزلة او بائعة في محل كبير، لسر وافتخر قائلاً: انه لهذه الغاية رقاها وعلمها وهذبها. اما ما هو الفرق بين أن تكون الفتاة او المرأة بوليساً في أحد المحال العمومية تحافظ على الفتيات من شرور الفتيان او على الأولاد الصغار بخروجهم من المدارس الى الشوارع وبين أن تكون في محل شغل لرجل تختلي وإياه أكثر ساعات النهار فلا يكلف نفسه الافتكار ساعة واحدة به.
ان المرأة بعرفي أشرف في الوظيفة الأولى منها في الثانية، وهذا باعتبار نتائج الوظيفة نفسها لا أعمال المرأة، وأخلاقيا لأنها في المقام الأول تنصب نفسها للمحافظة على من هم أشدّ الحاجة اليها، فتقيهم الأخطار الكثيرة وتكون هي في مأمن من مثلها وأكثر منها. أما في الوظيفة الثانية فهي معرضة للخطر الأكبر لاسيما إذا كانت فتية جميلة. وعلى حداثة عهد هاتين الوظيفتين نرى بأم أعيننا أخطار الثانية دون الأولى.
أهم ما يواجه الهيئة الاجتماعية من التجارب والمفاسد في هذه البلاد تهور الفتيات الجاهلات امور العالم الطامعات بزخارفه الساعيات وراء الجمال بكل شيء فيه. ففي هذه الحالة نرى المرأة المحافظة على الأمن تخلِّص نساء كثيرات غيرها من الوقوع بشراك الفاسدين من الرجال. بينما أختها المختزلة او المستخدمة في المحال الكبيرة فتقع بهذه الشراك اما مختارة واما منقادة اليها بالوعود الخلابة، فأي الوظيفتين أشرف وآمن للمرأة إذن؟ أتلك التي تعلمها المحافظة على نفسها وغيرها ام تلك التي تنسيها تلك المحافظة وتدهورها في شرك رجل جعل ماله مصيدة لفتيات الجميلات. ومعلوم لكل أمر شواذاً، وقد نجد بوليساً من النساء شريرة فاسدة، ونجد مختزلة او كاتبة او مستخدمة طاهرة عفيفة لأن هذا يتوقف على مقدرة المرأة في المدافعة عن نفسها وسلاحها من التربية الصحيحة.
وليس عن المرأة نفسها كلامي، بل عن العمل الذي تعمله وما فيه من امان او عثار. فوظيفة الشحنة للنساء ليست بالمنزلة التي يضعها فيها بعض الناس، لا سيما اذا اقتصرت على القيام بالأعمال النسائية البحتة، كأن تقام المرأة في المعاهد العمومية لملاحظة البنات الغاديات الباديات وفي الشوارع لحراسة الأولاد من دواليب السيارات وهلم جر.
كما ان وظيفة الاختزال والاستخدام وغيرها من وظائف الفتيات (الدارجة) يقتضي لها ملاحظة شديدة. وكل أب وأم يدركان معنى الأخطار عليهما لا يسمحان لابنتهما بالاشتغال في الادارة الخصوصية عند الرجال الأغنياء، من شبان وشيوخ، لأن أعظم الأخطار موجودة هناك لشقاء البنات والآباء معاً. أما اشتغالهن في الدوائر الجامعة كثيرين وكثيرات من المشتغلات والمشتغلين فأقل خطراً وان كانت لا تخلو من الخطر.
مرّت هذه الخاطرة بفكري اذ كنت أطالع خبراً عن تأليف فرقة نسائية من ألفين ومئتين امرأة لوظيفة البوليس في مدينة نيويورك. ويمر مثلها كل يوم اذ أرى سيدة جليلة فاضلة تسكن في جوارنا من نساء البوليس، واسمع عن اعمالها في المحطة تجاه الفتيات المخدوعات المتهوسات ومساعدتها لهن.
فعسى ان يحمل القراء كلامي على سبيل النصح المجرد الصادر عن قلب اصبحوا يعرفون عواطفه.