في ذكرى رحيله الـ 53 عمر الأنسي البيروتي.. شاعر النور ورائد الألوان المائية.
في ذكرى رحيله الـ 53 عمر الأنسي البيروتي.. شاعر النور ورائد الألوان المائية.
زياد سامي عيتاني*
إنطباعي بضراوة، إيحائي بقوة، مقترب من التجريد بحذر، شديد الرقة، بالغ الهدوء، مرهف المشاعر، مهادن مع الألوان، لا يعرف الصخب، هاديء كالطبيعة، ثاقب النظرات، صياد ماهر للجماليات، تصويري بدقة، مشهدي بتفوق، مهتم بالتفاصيل، مائي الهوى، متقشف حتى التصوف... بضع كلمات تبقى عاجزة عن وصف الفنان التشكيلي عمر الأنسي في الذكرى ال 53 لرحيله.
**
تعلقه بالفن، وسفره إلى الأردن لتعليم الملك طلال اللغات الأجنبية، جعله يهجر كلية الطب في الجامعة الأميركية، ليقضي خمس سنوات في عمان، قضاها وهو يرسم عالم الصحراء بكل ما يتضمنه ذلك العالم من مشاهد ساحرة وهبته القدرة على تمييز الأشكال والألوان التي لا تُرى بيسر، حيث قُدر له أن يترك إرثا تصويريا نادرا، يوثّق من خلاله لحظات جمال نادرة، ستحتفظ دائما بنضارتها الفنية وقوة حضورها التاريخي بسبب أن أحدا من الرسامين العرب لم يقتف أثر الأنسي.
وهذا ما تجلى بوضوح من خلال معرضه الأول سنة ١٩٢٧ الذي حمل عنوان: "في القدس"، الذي خصص لعرض ما أنتجته ريشته الساحرة من لوحات إنطباعية، عكست بألوانها مشاهدته الصحراوية التي كانت ملهمته الأولى لرحته مع عالم الفن التشكيلي...
وبهدف تنمية موهبته، وعقب نجاح معرضه الأول، إلتحق بأكاديمية جوليان، لدراسة الرسم، مما جعله يتأثر بالمدرسة الإنطباعية التي كانت هي المتسيدة في باريس على سواها من المدارس التشكيلية، مستفيداً من زميله النحات اللبناني يوسف الحويك، الذي كان بالنسبة له بمثابة "الدليل الفني" لتعريفه وإرشاده فنياً، وبالتالي مساعدته على إقامة معرضه الثاني في عاصمة الفن التشكيلي باريس، الذي خصص لعرض نتاجه البارسي من اللوحات الإنطباعية هذه المرة...
**
بعد عودته إلى وطنه لبنان والإقامة مجدداً في مسقط رأسه بيروت، تحديداً في منطقة تلة الخياط (أكثر مناطق المدينة إرتفاعاً عن سطح البحر)، وبما أن الإنسان إبن بيئه، فإن هذا الموقع الجغرافي لسكنه جعله يتأمل مناطق مدينته ويختزن بصرياً في ذاكرته مشاهداته، ما لبث أن جسدها بألوانه الباهرة، لوحات تصور مناطق وأحياء وأزقة بيروت الضيقة والمتعرجة وبيوتها المصنوعة من الحجر الرملي والقناطر والتي يكللها القرميد الأحمر وتحيط بها الأشجار المختلفة؛ ورسم كذلك ساحاتها وسراياتها وأسواقها. كذلك أعطى حيزاً في أعماله لبحر بيروت الساكن حيناً والهائج أحياناً أخرى، وشاطئها والمناطق المحاذية والمتاخمة له، ليرتقي بريشته وألوانه وتقنياته من تلته إلى آفاق مدينته الواسعاً، مؤرخاً، لا بل مخلداً ربما من خلال لوحاته لحقبة زمنية، كان يعلم بحسه الفني ونبوغته أنها يوما ما ستكون من الماضي المنسي أمام وحشية الإسمنت الزاحفة!!!
**
من بيروت، إنطلق، متسلحاً بهذا الهوس، يرسم الجبل الشامخ، وسهل البقاع، وصخور كسروان، وعيون السيمان، وغابات الأرز، والفلاحين، وبائعي الحليب، ومشاهد أخرى من عمق التراث. فتميزت ريشته في هذا المجال، كما في رسم الطبيعة بالشفافية وبالألوان النورانية التي تضفي هالة سامية على المنظر الطبيعي. تعلقه بالطبيعة وشغفه بها، دفعه في أربعينات القرن الفائت يختار الإقامة في بلدة ميروبا المسيجة بالصنوبر والمتشبعة من الينابيع والأنهار في تلك المرحلة النابضة بالفنون التشكيلية على مداراتها. قصد الفنان البيروتي عمر الأنسي ذلك المكان، بغية نهل ثقافة اللون من تراب ميروبا ومن شفافية نهرها المنساب حتى أعماق خصوصية المشهد الجاذب بين الصخور ولفيف الشجر. لم يترك لريشته فسحة إستراحة. حمل حقيبة الرسم والأدوات ليطبع ذاكرتنا بالسمفونيات المائية. كانت صخور الجوار والوادي ووجوه الفلاحين الغادين الى أعمالهم والنساء رافدات النبع مادة دسمة رسخت تجربته اللبنانية في ذاكرة العالم العربي والغربي على حد سواء.
**
بيئه البيروتية وسحر الطبيعة اللبنانية، والألوان النابضة، والمساحات المضيئة، جعلت من عمر الأنسي رائد الفن المائي اللبناني بإمتياز بكل تدرجاته وتموجاته، ناثراً خلال فترته الذهبية برشاقته الفنية الإبداعية الخلاقة لوحات ولوحات، تخلده، فناناً تشكيلياً من الكبار الكبار...
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.