نصري شمس الدين بقلم الدكتور جورج شبلي
نصري شمس الدين بقلم الدكتور جورج شبلي
الخطيئة المميتة التي يقترفها مُؤرّخو الفنون، تكمن في العرض غير الأمين لما يحتفظون به في مدوّناتهم وذاكرتهم، إذ يغفلون عمّا يسمّونهم ضواحي الأعمال الفنية، ولا سيّما الموسيقية منها. وهذه الضواحي المتمرّسة في فنون الاعتراك وأساليب النجاح، هي المرآة الجليّة التي تعكس تماماً حقيقة المشهورين.
نصري شمس الدين هو الأرض الرشيحة التي تحمل بين يديها حبَّة القمح وغصن الكرمة، دلالة على الخصب. ومع أنّ نصري هو من صوفِيّي الغناء، غير أنه كان يخفي وجهاً ثَريّاً في عالمَي الأداء والتمثيل، وَشَت به رصانته ولَهج الألسن به. من هنا يُطرَح السؤال: لماذا لم تُفتَح أمامه السُّبُل، وبالتالي لماذا كان يُعتبَر جزءاً في عداد الجوقة المرافقة؟ ذلك لأنّ نصري كان طبعة مُسالِمة نَكَّل بها الفنّ بشكل صارم، ولم يكن بالمرصاد مَن تأَهَّب لِصَدّ الحملات التي استباحت مشارفه ودنَّست هيكله.
فخر الدين، حلية الفنّ والتاريخ، لم يَخفِ حنينه يوماً الى نصري، فأقام شعائره على اسم مَن أضفى عليه الأَبَهة والرواء، ولمّا لم يجد نصري في الإحتفال، هجرَ فخر الدين تمثاله وكان الجلاء الكبير. وكما اغتيل فخر الدين على إثر دسيسة حبك خيوطها أعيان لبنان في عصر سَفَر بَرلك، هكذا لم يُنهَج مع نصري، في عصر "أحمد كجك باشا" المُعاصِر، سبيل العدالة فاحتشد المرتزقة عليه دونما هوادة، وخَسَّروه سالف مكانته التي لا توصف. كيف لا، ونصري الآدمي قد كُتِبَ عليه أن يدفع الجزية في إمبراطورية ما عتمت حتى تفسَّخت، وربّما للأسف.
غناء نصري في مجمله هو غناء مقطعيّ قصير، ينطلق من لازمة مُوَقَّعة على لحنٍ حاد موزون، وُضِع أساساً لتحريك الرّقص، وغالبه شعبيّ. وقد قيل إنّ الإيقاع الحماسيّ في الأغاني المتّصلة بالرقص، يلعب دور الكلمة فلا يعود لهذه سوى دور ثانوي، وهذا لا ينطبق على أغنيات نصري التي تحتضن موجات العواطف وفروع المشاعر وظلال التصاوير. وقد يختلط مع هذا النوع الذي يناسبه تماماً صوت نصري، ذلك النوع الحرّ، فيتعاقب النوعان في مقاطع وكأنها العزف على المُصطَلَح الطَّقسي بالذات، فيؤدّي هذا التمازج المُنشَد الى إيقاظ الأحاسيس على غِرار الأناشيد الإرثيّة.
إنّه لَمن الغُبن القول إنّ نصري بارع فقط في الأدوار الثانوية، ولا يصلح بالتالي لأن يكون البطل والشخصية الرئيسية في أي عمل فنيّ. ومن الغبن إيضاً مقارنته بأصحاب المحسِّنات الفيّاضة التي تفسح لهم في المجال للإرتجال الغنائي البحت. وهذا يعني، إنصافاً، أنّ الطاقة الصوتية عنده تنتمي الى سُلَّم شبه مُحدَّد، ولكن مُحَبَّب. ويعني كذلك أنّ أداءه، على نهجه الطَّبقي، مُتقَن أصيل، تنتظم فواصله في مدىً تنغيميّ لا قوي ولا ضعيف، بل في إطار مُبَسَّط بعيد عن التنقيط الموسيقي المنهجي، لتسجّل بذلك التزاماً بمدى التقاليد الشعبية النابعة من الثقافة المحليّة الغنيّة. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى انتماء نصري الفطري الى الأرض، وتأثير خطوط الضيعة على مناطق صوته وأدائه. والقليل من الفنّانين عاد، مثل نصري، الى الأصالة فكان بينه وبينها حُلول.
هناك ميزة دائمة تطبع أغنيات نصري شمس الدين، وهي الوفاق الشكلي بين الكلام ورسمه بالموسيقى، أو بين المعنى المُكَوَّن بالصورة وتَطابقه مع النّغمة. والمقصود هنا بالذات، المحافظة على الغرض الأساسي من أغاني نصري، وهو توجّهها الدائم الى مناطق الإحساس، وهو توجُّه واضح الرّسوم لم يلتمس نصري منه طلاقاً، ولا كان فمه معه بارداً. وما كان ذلك ليحصل لولا سعيُ نصري الى ملء جَراب موهبة التذوّق عنده، هذه التي طوّر طُرق رعايتها، وبقي أميناً على أصولها وعلى العِشرة الحميمة بينه وبينها.
إتّصل دوام نصري دوماً بيوميّات الفنّ الرّحباني، وقد غَزا الرحابنة مواهب نصري وكان لهم منها قُطوف. ولكنّ غَزوَهم لم يكن تماماً كَغَزو المَغول بغداد، لذلك لم يخسر الفنّ العربي حاضرة احتمت في تكايا الموهبة فتجاوزت عصر الرّكود. ونصري، في ذلك، لم يكن عَبداً مُعتَق استُقدِم من الثّغور وعُهِد إليه أمر إبهاج الناس، وإن فعل فبجودة الرّاقي وبمهارة المُترفّع وبطيبة الأخلاق، وهي رزقه. ومما لا شك فيه أنّ شخصية نصري المتميّزة والمساهمات المتشابكة الأحداث التي خصّصها لإغناء الأعمال الرحبانيّة، كان لها الفصل القاطع في اعتبار نصري حالة ضرورية لا يُستغنى عنها، وبالتالي حالة تستحقّ التّبجيل.
نصري شمس الدين الفنّان الطيّب، سطّح سقفه وفرش أرضه بالمرمر، وأَنّق أطباقه، فتمنّى الذّوق أن يأكل فيه.