Artist-painter and priest Moussa Dib in Arabic
ولد الخوري موسى بن الياس بن ابي سليمان ديب في دلبتا قبل سنة 1730 وهو ابن أخ الرئيس السابق على دير سيدة الحقلة الخوري برديوط بطرس ديب الأول، لبس الإسكيم في الدير سنة 1763، وانتُخب رئيساً على الدير المذكور سنة 1780، وذلك في حياة عمّه الذي تنازل له عن حقّه.
كان الخوري موسى رئيساً فاضلاً، تحلّى بحسن الإدارة، فاشترى عقارات كثيرة وأراضي محيطة بالدير، وضمّها اليه، كما أوقف مع والده الياس جميع أملاكهما في العفص للدير، بعد أن بنيا، بمعاونة افراد عائلة ديب ودون أية مساعدة من خارج العائلة، ديراً آخر على اسم المخلص، وقد وضع الخوري موسى الولاية على الأديرة للعائلة.
إلا أن اضطرابات عائلية داخلية أدّت الى خلعه عن رئاسة الدير عام 1816، على اثر وشاية كاذبة وردت في حقّه، فتسلّم الخوري راجي الخازن إدارة شؤون الدير مدّة سنتين ، أي الى حين استرجاع الخوري موسى مكانته فيه لدى المحاكم في روميه. يظهر لنا من صورة لموسى ديب رسمها له ابن أخيه كنعان ديب عام 1826، أن هذا الرجل كان يتحلى بقدر كبير من العزم والإقدام. ويتميّز بالفطنة والذكاء. فهو يبدو في آخر عمره كهلاً جليلاً ثاقب النظرة، شديد البأس، عامر القامة، بهيّ الطلّة. إن وراء تلك الملامح رجلاً لم يوفر جهداً في إعلاء بنيان الكنيسة في وطنه.
والى جانب اهتماماته الكنسية ومهامه في الدير كان الخوري موسى ديب مصوراً بارعاً، تعلّم فن التصوير على يد الراهب اللبناني بطرس القبرصي، وهو مصوّر معروف في تلك الأيام، ترك من عمل يده صوراً عديدة وكان مرسم الخوري موسى، غرفة على زاوية سيدة الحقلة.
توفي الخوري موسى ديب في 3 كانون الثاني سنة 1826 ، وقد قال عنه الخوري منصور الحتوني ( في وثائق عن تاريخ المقاطعة الكسروانية) أنه توفي في دير سيدة الحقلة، وكان عاقلاً مهاباً جليلاً وقوراً بارعاً في تصوير اليد، وما تزال صوره تبهج الناس وتجود بالثناء والمدح عليه.
فنَ الخوري موسى ديب
تلقى الخوري موسى ديب مبادىء فنّ التصوير على يد الراهب اللبناني بطرس القبرصي ، كما ذكرنا ، وقد أضاف الى دراسته مكتسبات اختباراته الخاصة وتجاربه على امتداد سنواته، ولقد كان ايضاً المعلّم الأول لإبن أخيه كنعان ديب الذي عين مناظراً على املاك دير سيدة الحقلة.
إن ما انتجه الخوري موسى ديب في فن التصوير ينحصر في المواضيع الكنسية وفي المواضيع المقدسة، فقد ترك لوحات تمثل رجالات الطائفة المارونية من بطاركة ومطارنة، الى جانب أعمال تمثّل وقائع حصلت، كمعجزة شفاء ابن المرأة الشيعية ( لوحة سيدة الانتقال) ولوحات للعذراء والطفل يسوع، والقديس يوسف والقديس روكز، والقديس جرجس، وغيرهم من القديسين.
يعتبر موسى ديب، بحقّ، رائداً في فنّ التصوير اللبناني، إذ ان من أعماله لوحات عديدة هي اقدم اللوحات المؤرخة، وإن لم تكن جميعها موقعة وإن نسبتها الى الخوري موسى ديب لا تقبل الشكّ.
من هذه اللوحات صورتان للبطريرك طوبيا جرمانوس الخازن موجودتان في كنيسة دير مار روحانا في عرمون – كسروان، وصورة النائب البطريركي المطران ميخائيل حرب الخازن الموجودة في دير رام بو دقن (أو سيدة العطايا) في سهيلة، وهذه اللوحة صورت بعد وفاة المطران ميخائيل حرب الخازن عام 1787 بقليل.
من أعمال موسى ديب ايضاً صورة للبطريرك ميخائيل فاضل مؤرخة عام 1795 وموقعة في الخلف باسم الأب موسى ديب ،وهي ايضاً منفذة بعد وفاة البطريرك بقليل ، وقد تكون اقدم لوحة موقعة معروفة في لبنان.
ومن أشهر لوحات موسى ديب لوحة سيدة الانتقال التي ذكرناها سابقاً والتي يصور فيها معجزة شفاء ابن المرأة الشيعية التي حصلت عام 1777 أثناء زيارة تلك المرأة لدير سيدة الحقلة في دلبتا، وهذه الصورة ما تزال في هذا الدير حتى اليوم.
إذا حاولنا تحليل اسلوب موسى ديب وبحثنا عن العناصر التي تكوّن فنّه التصويري لاحظنا الأمور التالية:
أ – يتصّف نتاج موسى ديب بالتماسك والتشابه في الأسلوب فلا تنويع ولا تشعّب ، إن في المواضيع أو في وسائل التعبير، بل شيء من الرتابة و المحدودية.
ب – انحصرت مواضيع موسى ديب بتصوير الأشخاص وبعض المواضيع الدينية، ففن التصوير لم يكن مهنة او صنعة يمارسها دون سواها، كما لم يكن شغله الشاغل دعوة حياته، فهو كان كاهناً اولاً وآخراً وقد أقبل على فنّ التصوير بعيني رجل الدين ومن باب الكنيسة فقط، لذلك جاءت مواضيعه في الاطار الكنسي، فهو اذاً صوّر شخصاً لا بدّ أن يكون احد رجال الكنيسة، واذا تناول موضوعاً، لا بدّ أن يتحدّث فيه عن القداسة والقديسين.
ج – لم يتأثر موسى ديب في فنّه بأي من التيارات الفنية التي كانت سائدة في الغرب، في زمانه أو قبل هذا الزمان. كما لم يتأثر تاثراً مباشراً بالمدارس الشرقية التي كان لها وقعها في العالم المسيحي شرقاً وغرباً، وذلك لأنه لم بتعمق في تاريخ فنّ التصوير او في تقنياته المتوارثة من عصر الى عصر، فهو الفنان الذي اشتغل على نفسه مستعيناً في ذلك بموهبة فطرية وبنظرة ثاقبة، متكلاً على معرفة بسيطة صقلتها التجارب الشخصية، اما اطلاعه على نتاج الفنانين، إن في الشرق او في الغرب، وعلى اساليبهم وتقنياتهم المتطورة فيبدو إنه كان محدوداً جداً.
د- نتج عن ذلك عملُ فيه الكثير من الفرادة، وإن لم يكن فيه الكثير من الإبداع. فالتأليف مبسّط وبنائية اللوحة تخلو من التعقيد، باستثناء بعض التآليف التي تعتمد تقسيم اللوحة على اساس الهرم او الدائرة. وقواعد المنظور تكاد تكون غائبة لولا إصرار الفنان على اظهار الأحجام والمساحات بقدر معيّن من الإقناع وبشيء من التوازن. ولكننا نلاحظ في اعمال موسى ديب تأثره بالفنّ البيزنطي، خاصة في الوجوه حيث تبرز العيون الكبيرة والأنف المستطيل والفم الصغير، وكذلك في النزعة الى الزخرفة المنمقة في الأثواب والتيجان، أو في حركة الأصابع ، خاصة في صور العذراء والطفل.
كماأنّ في اعماله بعض التجديد خاصة عندما يجمع في اللوحة الواحدة زمنين مختلفين (كتصويره الطفل يسوع في لوحة العائلة المقدسة حاملاً الصليب، وتصويره ابن المرأة الشيعية أثناء حصول المعجزة أي بعمر بضعة اسابيع ،وبعمر الثلاث سنوات في مشهد واحد) وكذلك تصويره نفسه في اللوحة. ومن الأمور الملفتة ايضاً رسم الملائكة بعضها براس واجنحة فقط والبعض الآخر بأجسام كاملة.
اما ألوان الفنان موسى ديب فهي على قدر كبير من الشفافية والعمق الروحاني، وقد استغل امكاناتها المتعددة، ان لجهة توازن الأحمر والأزرق في تضادات مدروسة بين الحار والبارد، او لجهة توازن الفاتح والغامق بحيث تستعمل الألوان الباهتة والخفيفة في مساحات نور خافت لإظهار الموضوع الأساسي بألوان قوية وأنوار شديدة وذلك بغية جذب الأنظار الى نقاط الثقل في الموضوع.
اما الايقونوغرافيا التي نجدها في اعمال موسى ديب فتتميّز بما يلي:
1- هي ليست نتيجة تبلور بطيء عبر العصور، وتطوّر منطقي ينطلق من معطيات معينة ليرتدي ، تحت تأثيرات وتداخلات متتابعة ، في زمان ومكان معينين ، شكلاً محدداً يمكن تعريفه وتصنيفه . بل هي كصيف بدون ربيع أو كولادة بدون مخاض ، هي بنت افكار موسى ديب وأحاسيسه.
2- هذه الإيكونوغرافيا لا تمليها قواعد ثابتة، كما هي الحال في الفنّ البيزنطي ، كما لا تمليها محاولة توفيق بين تيارين أو اكثر كما هي الحال في الفن الايطالي ما قبل جيوتو. وكذلك هي ليست مجددة او رائدة تغيير كما هي الحال في فنّ جيوتو، وليست بالعقلانية والدقة التي تطبع فن النهضة.
ليس في اعمال موسى ديب عظمة وحركة فن الباروك، ولا الرقيّ والكمال اللذان يمتاز بهما الفنّ الكلاسيكي .
3- إن ما يمكن ان تتصّف به إيكونوغرافيا موسى ديب هو البساطة والواقعيبة غير المتحذلقة التي نجد مثالاً لها في فنّ بعض البدائيين الأوروبيين ، لأنّ نظرة موسى ديب الى الوقائع والى الانسان تشبه، الى حدّ بعيد، نظرة هؤلاء الفنانين الذي صوروا ما شاهدوه او ما الفوه، دون السعي الى تحميل المشهد او الملامح او الموضوع أكثر مما يتحمل من أبعاد . فليس في فنهم جمود او تجلّ اوارتقاء ما ورائي، كما ليس فيه عقلانية مفرطة او واقعية مطلقة اوتأنق.
4- إن فنّ موسى ديب ، هو ، ببساطة، محاولة لإظهار الأشخاص او المشاهد بأكبر قدر من الدقة والواقعية التي تسمح بها معرفة اصول التصوير المتوفرة لديه، دون ان تكون تلك الدقة والواقعية غاية بحدّ ذانها، بل المطلوب عنده هو اظهار هؤلاء الأشخاص وتلك المشاهد بكلّ وقار وقداسة وصفاء ووضوح.
5- من الوجهة التقنية ، تعتبر اعمال موسى ديب التي يبلغ عمر بعضها قرنين ونصف قرن، منفذّة بقدر جيّد من الدراية المهنية والخبرة بدليل ان معظمها قد حافظ على لونيته وتماسكه بشكل مقبول.
اما الترميم الذي جرى للبعض منها، والذي ما يزال ضرورياً للبعض الاخر فهو امر لا مفر منه نظراً لقدمها ، وللظروف التي كانت موجودة فيها (رطوبة وسوء انارة) وقد تكون البساطة في استعمال الألوان وعدم الاسراف والتعقيد في استعمال المواد والتقنية المحدودة. هي من العوامل التي ساعدت على ان تصل الينا هذه اللوحات محافظة على ما حمّلها إياه صانعها.