مي زيادة وأزمات المبدعة العربية
مي زيادة وأزمات المبدعة العربية
د. علاء الجابري - أكاديمي من مصر
تقترن بعض الفنون الأدبية بنون النسوة، أو سيرة بعضهن، ويظل الحديث عن تلك الفنون قاصرا ً ما لم يكتمل باشراقة سيرة هذه المرأة أو تلك. وهل يمكنك الحديث عن الغزل العذري دون التطرق الى بثينة تارة، وعزة تارة أخرى؟ هكذا يبدو اقتران اللبنانية مي زيادة (1886-1941) بفن الرسائل في العصر الحديث؛ اذ يمتد الحديث بالضرورة الى دورها في فن الرسائل. غير أن صاحبتنا لا تلتزم موقع رد الفعل كليلى وبثينة، بل تمتلك شجاعة التعبير عن المواقف، سواء الأدبية أو السياسية أو الاجتماعية بصورة ربما لا تنافسها فيها سوى هدى شعراوي أو سيزار نبراوي، فهل كان لهذه الشجاعة أثر فيما نالته من هجوم؟
وكالعادة، تقتصر النظرة على زاوية واحدة، فتم اختزالها في فن الرسائل، فينتصرون رسائلها وكأنها النشاط الوحيد لتلك الأديبة الجادة، بل يركزون على جانب العشق في تلك الرسائل دون غيره من الجوانب، وهي - مثلا ً - التي لم تلتق بجبران خليل جبران، بل بهرتها رومانسيته فتبادلا الرسائل والهدايا، فتطور الاعجاب من الأعمال الأدبية لصاحبها، وظلت تراسله حتى توفي.
يختلف جبران عن غيره؛ فالحال مع العقاد تزوره الجفوة أحيانا ً، أو لطفي السيد واسماعيل صبري برغم فارق السن وروح الأبوة، أو الرافعي الذي كتب لها رسائل مثيرة، ملخصا ً الوضع بقوله: "لم أتطفل على أحد قبلك، ولن أتطفل عليك مرتين". ربما جنت الرسائل على صاحبتنا فنرى لها صورا ً بعدد الذين تبادلوا معها الرسائل، وهي ليست صورا ً على الحقيقة، وانما ظلال لتصوراتهم عنها. لقد صورها وكأنها كانت متفرغة للرسائل تماما ً، برغم أن سيرتها تبدو ككرة من البللور تعكس ما لا يحصى من الألوان، أو كلوحة من الفسيفساء التي تضم الأدب والمجتمع واللغة والسياسة في اطار من معدن لامع، يتسم بالأناقة والصلابة في آن.
هي شاعرة وأديبة وناقدة وباحثة اجتماعية، ألفت وترجمت 16 كتابا ً، وأتقنت لغات عدة، وشاركت في المعارك الفكرية لزمانها ، كما كانت صاحبة منتدى أدبي.
معارك فكرية وأدبية
امتد صالونها لربع قرن، كانت فيه محاورة جيدة لجمع كبير من رواد التجديد في زمانها، ليختلف منتداها ويتفوق - برغم تجاوره زمانيا ً - عن لبيبة هاشم والأميرة نازلي. أنضجتها سريعا ً ملازمة الكبار، لكنها أحرقت بعض أعصابها. وللكثيرين حكايات مع صالون مي يذكرونه بالخير علنا ً، وينكصون عن ذكر محاسنه في الخفاء. ازدواجية لعلها من متلازمة الوسط الثقافي على مدى تاريخه.
وبرغم هدوء صالونها سياسيا ً، فقد شهد معارك فكرية كمعركة السفور الشهيرة بين الرافعي والعقاد، وشهدت جوانب صالونها ما ظنه بعضهم عاطفة خالصة، فاذا كتبت ظن كل واحد منهم أنه المقصود بالحديث، واذا التفتت فسروا نظرتها وفقا ً للتمني، وكانت مي تستمتع بالغيرة وتتحدث عن ذلك نصا ً. تلتقي - جهارا ً- بكثيرين في صالونها الأدبي، ويتحدثون - سرا ً - عنها بعد ذلك. ترسل لهم الرسائل... وثائق مكتوبة، فيتحدثون عما فهموه من بين سطورها، ربما من باب التمني.
ولأنه من مأمنه قد يؤتى الحذر؛ فربما لم يجن على مي زيادة شيء قدر انفتاحها على الآخرين، فتعددت صورها، حتى لم يبق الا ظلال لا تعكس شيئا ً قاطعا ً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل عن صورتها لدى الأب انستاس الكرملي عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامه موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعا ً منها، وكلهم رآها من وجهة نظرة هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الانسانة ليس لها وجود، وانما هناك وجود للظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق. لقد أفلحت أن تنسى أنوثتها كثيرا ً، وتؤجل أحلام البنات، فصارت كبنات الأمازون التي تقطع ثدييها حتى لا تكون أنثى، ومن ثم تكون قوية، بريئة جدا ً، فلم تفلح - بتعبير أنيس منصور - في أن تكون مثل سالومي والفيلسوف نيتشه والشاعر ريلكه وجلتهم يتعلقون في عربة واحدة، وتلهب ظهورهم بالسياط ولم ينلها أحدهم.
كشف جراح المجتمع
تتحيز لقضايا المرأة وترفض أن تتخصص في تحرير القسم النسائي بالسياسة الأسبوعية؛ حتى لا تنحصر اهتماماتها في بنات جنسها. الوطن أكثر أهمية، هكذا تفهم اهتمامها الكبير بقضايا المرأة بوصفه فرعا ً عن اهتمامها بكشف جراح المجتمع، ويظهر تأييدها ل "ملك حفني ناصف" في مراجعاتها لشيوع الطلاق فرعا ً عن اعلاء الرجل على المرأة، فترى - في كتابها "باحثة البادية" - الطلاق أسهل وقعا ً على المرأة، وأخف الما ً من الضر، فالأول شقاء وحرية والثاني شقاء وتقييد. تتصادم والمجتمع فترى في الرقص رياضة، وفي التمثيل ابرازا ً لموهبة اجتماعية بالأساس؛ فهي ضد المجتمع في أمور صدامية معه كالطلاق والزوجة الثانية.
تلتزم شجاعة في التعبير عن مواقفها بحرية، وكثيرا ً ما عبرت عن بغضها للشتاء وحبها للشمس، فكأنها كانت تستعير الشمس لتعبر عن حبها للوضوح وايثارها المجاهرة. وترى الذين يرفعون لافتات حقوق المرأة أول من يقصر الابداع على الرجال في ذكورية فجة؛ فالعقاد الذي أحب مي هو القاتل عن شعر الخنساء أن شعرها "بايخ"، هكذا حكم عام مطلق.
وكان لصاحبتنا حس قومي؛ فتغار على اللغة العربية، برغم اتقانها أكثر من لغة، وتغضب ممن يحادثها بغيرها وترد عليه بالعربية، برغم أنها كتبت بلغات متعددة، وتدافع عن مجمع اللغة العربية في "الايجيبشان ميل"، وتعترض بشدة على تدريس العامية، وترى في اللغة سبيلا ً لرفع العامة وتوسعة فهمهم، وتتحرر عقليتها وتظل متدينة، كما شهد لها العقاد بالتدين، ولكن دون تعصب، فتحاور شبلي شميل قائلة: "عجبت أن رأيتك كافرا ً بالله، مؤمنا ًبداروين". وتحتفظ بعض كتب الأدب ببعض خطب لها تمدح فيها الاسلام برغم اختلاف ديانتها.
صفاء نفسي وأحلام وردية
وأغلب ظني أن مكانة مي زيادة مكتسبة، فهي - في نفسها - ليست بالقيمة الأدبية الكبرى، وانما كان الحوار حولها أساس انتشار أعمالها محدودة القيمة، فصارت كتابتها ضوءا ً يحوم حوله الفراش. وحين يعطيك العصر - وفقا ً لظروف ما - أكثر مما تستحق، فانه لم يمنحك كثيرا ً وانما وضعك وسط عمالقته، ومطلوب أن تجتاز البحر دون أن تبتل بالماء.
تحمل مي زيادة امتنانا ً لبعض ما مر بحياتها كنشأتها في مدارس الراهبات، فلا توافق باحثة البادية على رأيها السلبي فيها، بل تظل على حفظها لذكرياتها الطيبة فيها، فقد احتفظت من مدارس الراهبات بين الناصرة بفلسطين وعينطورة بلبنان بصفاء نفسي وأحلام وردية (ديوانها الأول – بالفرنسية - أزاهير حلم) وتسامح مع البشر وتأمل يفضي الى الخيال. تعلمت فيها الفرنسية والايطالية مبكرا ً فتأثرت بلامرتين ودي موسيه وكردوتشي ، ثم تعلمت الانكليزية في مصر، وألمت بالألمانية والاسبانية. وتذكر أمها التي زرعت فيها الاهتمام بالشعر، ووالدها الذي فتح لها طريق التواصل مع الوسط الأدبي والصحفي من خلال جريدة المحروسة التي ترأس تحريرها بعدما احترف الصحافة، فكتبت "يوميات فتاة" فوجدت احتفاء من كثيرين بها، وانطلقت منها للنشر في "المقتطف" و"الهلال" و "الزهور". وجبران الذي أوكل لها القاء كلمته عام 1913 في تكريم الشاعر خليل مطران.
وكذا أمين الريحاني الذي كان له الفضل الأكبر في خروجها من سجنها في مستشفى الأمراض العقلية. قد تطيل المصادر اللغو حول أزمتها ومحنتها النفسية ومدى تأثرها بوفاة جبران، ثم انقضاض بنيانها بوفاة والدتها في العام التالي.
لقد أصيبت مي زيادة بنكبات عدة الواحدة تلو الأخرى، وحاول كثيرون استغلال فترة الأزمة النفسية التي مرت بها، ربما كان هذا شأنا ً عاما ً لدينا؛ اذ لا نجيد التعامل مع المرض النفسي في حجمه الطبيعي فنروح نكون حوله أساطير لا معنى لها، وربما كان من الأجدى وضعها في حجمها المناسب كمأزق عارض يصيب ذوي النفوس الكبيرة، حين يأكل عقله من جسده ، وبخاصة المجددين منهم.
صحبة الكبار قد تنضجك سريعا ً، ولكنها تحمل عقلك ما لا طاقة لك به، وربما تورث التفكير في الموت.