كمال يوسف الحاج: نتذكّرك بثلاث بقلم أمين ألبرت الريحاني
كمال يوسف الحاج: نتذكّرك بثلاث بقلم أمين ألبرت الريحاني
ليست الأمم بتاريخها وجغرافيتها ولغتها وسياستها واقتصادها وحسب. الأمم كذلك بمفكريها، وعلمائها، وفنّانيها. الأمم بفلاسفتها وأدبائها، بمبدعيها ورُوّاد نهضتها. وفي هذه التحية لكمال يوسف الحاج، الفيلسوف اللبناني المعاصر، إنما نوجّه التحية للعقل اللبناني الحديث، ولمناطق النزال الفكري التي تَوصَّل إلى ولوجها، لا مُتَمَكّناً من فلسفة اللغة وحدها، بل كذلك من لغة الفلسفة، ولا مبدعاً خلاقاُ في منطق اللغة تحديداً، بل أيضاً في لغة المنطق والأداء الفلسفي. في الذكرى الثلاثين لرحيل كمال يوسف الحاج نتذكّره في ثلاث
أولاً: كمال يوسف الحاج باني الفلسفة اللبنانية: نقول ذلك لأنه بدأ بوضع تاريخ هذه الفلسفة، بعد أن صمّم هيكليتها، وبنى سياقها، وحدّد أعلامعا، وأصدر مجلّده الأول في مشروعه الحضاري الكبير، لكن الموت عاجله فترك هذا المجلد يتيماً. كان همّه أن يبني للبنان فلسفة وجود للوطن اللبناني، وأن يُعَمّر للبنان صرحاً فلسفياً شاهقاً، كنا وما نزال بأشد الحاجة إليه، صرحاً يُبنى على علاقات جدلية بين الإنسانية والقومية، الفلسفة والسياسة، الدين والطائفية، اللاهوت والناسوت. تركنا كمال يوسف الحاج وبيده إشارة تدلنا إلى طريق الفلسفة اللبنانية، طريق وجودنا الوطني والحضاري. ترَكَنا، وترك لنا وديعة ذهنية نلوذ بها كلما ظننا أننا "في غرّة الحقيقة.
ثانياً: كمال يوسف الحاج مبدع النصلامية اللبنانية: لا بمعناها السياسي المتقلّب والمتبدل والهزيل، بل بأبعادها الفلسفية التي تشكل إطار تفكّر جاد في مستقبل الوطن اللبناني وفي المزايا الروحية والعقلية التي ترتفع مدماكاً ذهنياً ومنهجاً فكرياً يوظّفه في خدمة اللبنانيين على اختلاف مشاربهم ونزعاتهم وخلفياتهم الإيمانية والثقافية والإنسانية. فخفْقُ الجناح يُكْمِلُه خفْقُ الجناح الآخر بحيث يتواكب الجناحان في صيرورة بشرية واحدة. إنه "زواج حضاري وتناغم" روحي إنساني بين نصرانية الإسلام وإسلامية النصرانية، لا يقوَى على صهرهما وطنٌ كما يقوى لبنان، ولا يُقْدِم على فلسفتهما أحدٌ كما يُقْدِم كمال يوسف الحاج.
ثالثاً: كمال يوسف الحاج النحّات والصائغ اللغوي: عبقري الفكرة المسكوبة في وعاء الكلمة؛ اللغة طَيّعة بين يديه، ترقص على أنامله رقصة الدراويش، بمفرداتها وتراكيبها وابتكاراته فيها، فتدور ألفاظها وتتوالد، وتتمايل جُمَلها وتتجدّد، وكأنها تشق طريقها نحو الأرض البكر في طواف ذهني بلا هوادة حتى الاتحاد بالحق، وصولاً إلى معانقة الحقيقة التي يرسم خريطتها بألوان ديكارتية برغسونية، وبخطوط مستحدثة ومستمدة من طقوس الأمة ومن عراقة القومية. ألم يستحدث، على سبيل المثال، وزن "فَعْلَنَ" لينحت من خلاله مجموعة أفعال فلسفية أدخلها إلى العربية، ومنها: أنْسَنَ، عَقْلَنَ، عَلْمَنَ، قَوْمَنَ، شَخْصَنَ... إنه الفيلسوف الذي ابتدع لنفسه العدّة اللغوية لخوض معاركه الفلسفية التي تشكل إضافة من الإضافات الفكرية في تراثنا المعاصر.
لا نحتفل اليوم برحيل كمال يوسف الحاج. نحتفل بولادة الفلسفة اللبنانية على يديه. ونحتفل بولادة النصلامية اللبنانية على قلمه. ونحتفل بلغة فلسفية خلاقة مبدعة متميزة على مداد يراعه. نحتفل اليوم بذهن متوقّد ما يزال يشق لنا الطريق نحو صرح العقل، وبمعدن بَرّاق لا يزال وهْجه يَلفحُنا كلما استبد بنا وبالوطن صقيع الأيام القاسية، وسيبقى يلفحُنا اليوم وغداً وبعد غد.