أزرا ر - هـنـري زغـيـب - حين الحاكمُ يَـشـتـري كتاباً
في ميلاديات ﭘـاريس هذا الأُسبوع أَنّ الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاّند قصَدَ مكتبةً على بولـﭭـار سان جرمان (وسط الدائرة السادسة) واشترى مجموعةَ كتبٍ لتقديمها "هدايا ميلادية". واعتذَرَت المكتبة لمندوبة "لوموند" عن ذِكْر الكتُب التي اشتراها الرئيس.
وفي ميلاديات واشنطن ذكرَت "لوس أَنجلس تايمز" أَنّ الرئيس باراك أُوباما، المعروف عنه أَنه قارئٌ مدمن، دخَل مكتبة Politics and Prose واشترى منها 17 كتاباً تراوحَت بين كتُب الشبيبة (كانت ترافقُه ابنتاه) وكتُب الأَدب الأَميركي الحديث وبينها المؤلّفات الفائزة هذا العام بـ"جائزة الكتاب الوطنية"، إِلى كتُبٍ أُخرى نـوّهَ بها النقد، وكتُب كلاسيكية في طليعتها رواية الأَديب الإِنكليزي الأُوكراني الأَصل جوزف كونراد "في قلب العتمة" (صدر سنة 1902).
يعنينا من الخبر مدلولُه: رئيسَا دولتَين كُبْريَيْن يتسَوَّقان ميلادياً في المكتبة.
ظاهرةٌ قد تكون عاديةً لمواطنين ذوي اهتمام أَدبي، لكنها تغدو لافتةً حين تأْتي من حاكمٍ يقتني الكتاب و"يُهديه". وأَياً تكن مسيرة الحاكم السياسية يبقى اهتمامُه بالكِتَاب والكُتّاب علامةَ اقتداء.
نادرون هم الحكّام الذين روّجوا للكتاب، والأَندر منهم من تَعاطوا الكتابة مؤَلِّفين تركوا آثاراً بعدهم هي الباقيةُ هويتَهم دون كثير ما حققوه إِبّان ولايتهم في رئاسة الدولة.
أَن يشتري الحاكمُ شخصياً من المكتبة باقةَ كـتُب لإِهدائها إِلى أَصدقاء ومُقَرَّبين، أَبقى وأَرقى من أَيّ خطاب رئاسي يدلي به في مناسبة وطنية أَو دينية، أَو أَيّ هدية أُخرى (صناعية أَو تجارية) يقَدِّمها إِلى ضيف رئاسي أَو زائر ﭘــروتوكولي. والحاكم الذي يفخر بأُدباء بَلَده ومؤَلّفاتهم ويبادر بما يعزِّز انتشارَها وكرامتَهم، يكفَل استمرارَ صدَى حُكْمه بعد انتهاء ولايته. ولا يكفي أَن يزورَ معرضاً للكتاب ويقوم بجولةٍ صوَريّة فيه تفرضها عليه المناسبةُ ﭘــروتوكولياً. الأَساس أَن يقصد الحاكمُ المكتبة. حتى إِيعازُه إِلى موظَّفٍ أَو مستشارٍ بشراء كتَاب (أَو كُتُب) من المكتبة، لا يكفي. الأَهمّ: حضورُه الشخصيّ كي يكونَ للكتاب في يدِه، ومنها إِلى مكتبة قصر الحُكْم أَو لإِهدائه، ما يشجِّع القارئَ والكاتب معاً.
هديةُ الكتاب باقيةٌ مستدامة، وهي أَفضل من باقةِ زهرٍ أَو سلّة شوكولا أَو أَيّ هدية أُخرى عمرُها بضعةُ أَيام ثم تَذْوي أَو تُؤْكَل أَو تُحتَسى فلا يبقى أَثَــرٌ منها ولا من مُهديها بعد حين.
وحدَه الكتاب الـمُهْدى يبقى في المكتبة ذِكْراً لـمُهديه، وذكرى للمناسبة، وذاكرةً دائمةً في مكتبة البيت، وما أَغلاها هدية.
ومتى اعتدنا أَن نُهدي كتاباً، نعتاد أَن نبقى دائماً على مستوى الكتاب.
"الــنُّــعـمـى" التي تُــبارك المكان
مع انغلاق اليوم الأَخير من السنة، أَغلقْتُ نهائياً بابَ مكتبي بعد 37 سنة أَمضيتُها فيه كاتباً وقارئاً، ما لم أَكُنْهُ في البيت.
وحملتُ مكتبتي إِلى البيت، مستقرةً فيه ومستقراً معها، فإِذا استقرَّت بي حالةٌ لم أَعِشْها من قَـبْـل في بيتي.
إِبّان إِقامتي سنواتٍ ستّاً في منآي الأَميركي الـمُؤَقّت على "بحيرة الليمون" في فلوريدا، وكانت فتراتٌ صعبةٌ هنا طال فيها القصفُ خليج جونيه وذراعَيْه، لم أَكُن خائفاً على إِصابة بيتي بقدْر خوفي على أَن تصيبَ قذيفةٌ مكتبي فتُحرِقَ مكتبتي. إِلى هذا الحد كان تعلُّقي بمكتبَتي وما في ثناياها من كُتُبٍ لسواي ومخطوطاتٍ لي وأَوراقٍ تنتظرني لأُكمل ولادةَ ما تحتضِن.
وحين قررتُ أَن أُغادر مكتبي نهائياً، كان قراري الـموازي نقلَ مكتبتي إِلى البيت، وسَّعتُ لها فيه ما تستحِقُّ من مدىً مُريح.
وبعدما كان بيتي مأْوى لنَومي أَصبحَ واحةً ليَقظَتي. ولأَنّ في يومِيِّ عاداتي أَلاَّ أَنامَ قبلَ أَن أَقرأ، يكونُ كلَّ مساء حَدَّ تختي كتابٌ أَو كتابان، مما يَصلُني حديثاً أَو ما أَنتَقيه من مكتبتي في المكتب، كي لا أَدخلَ امتلاءَ النوم فارغَ اليدَين من كتاب.
سوى أَنني، منذ نقلْتُ مكتبَتي إِلى البيت، أَمسَيتُ في شعورٍ آخَر: بعدما كان كتابٌ رفيقَ ليلتي، وربما كتابان، أَصبح بيتي احتفالاً يُحيـيه ليلياً ويومياً عشَراتُ الكُــتَّــاب ومِئَات الكُــتُب. وبعدما كنتُ أُغلِقُ الكتابَ على مِـخَـدّتي، وأُطفئُ النورَ في غرفتي، وأَنامُ فأُصبح وَحدي أَكثر مما أَنا والكتابُ بين يدَيّ، باتَ النورُ ينطفئُ في غرفتي وتبقى الأَنوار ساطعةً في غرفة المكتبة، وأُحِسّ بالمؤَلّفين فيها يقِظين أَحياءَ مُتحاورين مُـجتمعين مُنـتدين حول كتُبِهم بين كتُبِهم أَمام كتُبِهم اخترتُ منها واحداً لقراءتي قبل النوم، فأَنام بينهم ولا أَكون وحدي، وأَستيقظُ بينهم يستقبلونَني صباحاً فلا أَنا نمتُ وحدي ولا عُدتُ أَعيش وحدي في هذا البيت.
غريبٌ هذا الشعور، وعذْبٌ في الوقت ذاته.
غرابته أَنْ لم أَكُن أَشعر "بهم" حين كانوا حولي في المكتب هناك، حتى إِذا انتقلوا معي إِلى البيت أَصبح لـلــ"هُنا" مَدىً آخَر.
وعذوبتُه أَنني بتُّ أُحسُّني مُحاطاً "بهم"، محروساً "بهم"، أَتقاسم البيت "معهم" ويقاسمونني وحدتي فتَنكَسِر منها مرارةُ الوحدة.
أَإِلى هذا الحد، يكون للكتابُ مكان؟
كان المكان تباركُه "الــنُّــعمى". تأْتيه حافيةَ القدَمَين فتقَدِّسُني وتقدِّسُه.
اليوم بات للكتاب أَيضاً سُطوعُ مَكانٍ بفضْل "الــنُّعـمـى" التي شاءَتـهُ ينتقلُ معي إِلى البيت حتى، حين تَدخلُه بقدَمَيها الحافيَتين، تُكَــرِّسه وتُـقَدِّسه، وتُبارك مَن فيه و... "ما" شاءَتْهُ فيه.
مستقبلُ اللغة بين الـتـبَـنّـي والـتـجَـنّـي
رفَعَ دعوى قضائية على هيئة الإِذاعة والتلــﭭــزيون اليابانية مُطالباً بتغريمها مليون يِــن ياباني تعويضاً عن أَضرار نفسية يُسبِّبها الإِفراط في استعمال كلمات دخيلة على اللغة اليابانية. إِنه مواطن ياباني في الحادية والسبعين ارتاع من الكلمات الأَجنبية التي يتلفَّظ بها المذيعون أَو ضيوفُ البرامج.
ليس عابراً هذا الخبر: هذا مواطن عادي خاف على لغته الأُم من هجينِ ما يتغلغل فيها ويُنذر بإِفسادها التدريجي، خصوصاً في صفوف النشْء الجديد.
ولعلّ هذه من ظواهر العَولَـمة التي تجتاح كوكبنا وتتسَلّل إِلى جميع لغاته، وبينها لغتُنا. والحريصون على اللغة، لا ككلماتٍ بل كَهُوية، أَتَـخيّلهم ينتفضون كهذا الياباني. ومتى أَدركْنا أَن اللغةَ ناقلةُ الحضارة من جيل إِلى جيل، وعَينا خُطورةَ ما نعاين في مجتمعنا. فعدا ما بات جيلُنا الجديد يستعملُه قاموساً لوسائل التواصل الاجتماعي، من لغة محكيّةٍ بأَحرف لاتينية وأَرقام، تُبعِدهم شَفهياً عن أَحرف لغتهم الأُم وكتابياً عن إِتقانها لغةَ تعبيرهم، نعاين على شاشات التلــﭭــزيون كلماتٍ أَجنبيةً من مذيعين ومذيعات وضيوف يستخدمونها في أَحاديثهم المحكيّة أَو الفصحى، وينعكس ذلك على كلمات الناس في حلقاتهم. فبين عبارة "break ونعود إِليكم"، وبين "اشتريتُ لونيتّاتٍ جديدة" (أَي نظّارات)، و"وضعتُ المفتاح في ساكي" (أَي جزداني)، و"هؤُلاء كوزيناتي" (أَي نسيباتي)، تبدأُ اللغة المحكيّة والمكتوبة بدخول نفَقٍ مُظلمٍ تبدو نهايتُه تاعسة تتجنّى على اللغة وتؤْذي اللسان حامل الهوية.
أَعي تماماً ضرورة أَن تَدخل اللغةُ عصرَها ولا تتحنَّط في القواميس ومجامع اللغة. ضروريٌّ أَن تتبنّى كلمات جديدة لا رديف لها في اللغة الأُم فتزداد هذه غنىً وحداثة. لكنّ من التجنّي استعارة كلمات عادية من لغة أَجنبية حين تلك الكلمات موجودةٌ في اللغة الأُم.
القصد من هذا الحرص مستقبلُ اللغة: أَيّةَ كلمة نتبنى؟ أَيَّها لا نقتبس؟ وما مستقبل اللغة عندئذٍ؟ وكيف نضمن بقاءَها حية على اللسان؟
صحيحٌ أَنّ كلّ لغة تشرّع أَبوابها على فضاءات تُحقِّق تفاعلاً حضارياً وتكون لغةَ حوارٍ ومصالحةٍ مع اللغات الأُخرى. واللغة الأُم هي هويةُ الشخصية الوطنية ومادةُ تراثها الثقافي ويجب أَن تنفتح على سائر اللغات. عندئذٍ لا يعود هجيناً استعمالُنا "تلــﭭــزيون" أَو "إِنترنت" أَو أَيَّ جديدٍ مثلهما، لكنّ المستهجَنَ استعمالُ كلمةٍ من لغة أُخرى أَو ربما كلمتين في عبارة واحدة نَنْطقُها بِلُغَتِنا الأُم.
مستقبلُ اللغة في احترامِها، واحترامُها يكون في تلقيحها بكلماتٍ ليسَت فيها، فنُغْنيها ولا نُشوِّهها ونُشوِّهُنا بفسيفساءِ كلماتٍ أَجنبيةٍ لها أُصولها العريقةُ في اللغة الأُمّ.
قلب لبنان
ما كان مُـمكناً، في هذا البرنامج، تَنَاوُلُ كتُبٍ عن لبنان، من دون التوقُّف عند كتاب "قلب لبنان" لأَمين الريحاني.
وهو كتابٌ أَساسيٌّ للتعرُّف إِلى لبنان، تعدَّدَت طبعاتُه ودُورُ النشر التي أَصدَرتْهُ، لِما في مضمونه من إِشراقٍ على طبيعة لبنان وشعب لبنان وتاريخ لبنان قديمِه والحديث. ولم تكن مُصادفةً أَن يهدي الريحاني كتابَه إِلى لبناني آخرَ عريقٍ في التشبُّث بحضارة لبنان ودورِه: الشاعر شارل قرم.
فاتحةُ الكتاب رسالةٌ من ميخائيل نعيمه إِلى ناشر الكتاب أَلبرت الريحاني الذي عُنِي بآثارِ شقيقه الأَمين ونشرَها تباعاً، وبينها "قلب لبنان" الذي أَصدره سنة 1947، سبعَ سنوات بعد وفاة الأَمين. ومن كلمة نعيمه: "إِنّ لبنان الذي أَحبَّه أَمين حُباً يداني التقديس، يَسفِر في صفحات هذا الكتاب عن وجهه الحقيقي".
هُوية الكتاب كما حدَّدها الريحاني: "سياحات قصيرة في جبالنا وتاريخنا"، وهي رحلاتٌ داخليةٌ قام بها الريحاني بين 1907 و1938، زائراً قُرىً وبلداتٍ وجبالاً، على صعوبة ما كانت عليه وسائلُ التنقُّل في تلك الأَيام.
الكتاب من تسع رحلاتٍ كاملة وستةِ تصاميمِ رحلاتٍ إِلى الشوف وجزّين ومرجعيون وجبل عامل تُوُفي الأَمين فلم يُتَمِّمْها.
مطلعُ الرحلات إِلى الأَرز على ظهر بغْلة محبوب، انطلاقاً من الفريكة فنهر الكلب فأَعالي كسروان مروراً بجبال جبيل وصولاً إِلى غابة الأَرز التي وَجَد فيها الريحاني "صفحةً من التاريخ، وبَخوراً في مبخرة الزمان".
وتتابعَت رحلات الريحاني إِلى بيت شباب جارة الفريكة، فبكفيا فبتغرين فوادي الجماجم فبسكنتا فصنين فشخروب صديقه ميخائيل نعيمه، ثم إِلى زحلة وصوفر حيث حصلَت له الحادثة الشهيرة في الكازينو الكبير الذي سماه "القصر المنيف".
وفصَّل رحلةً إِلى بلاد جبيل وأَرز جاج وما لاقاه من حفاوة استقبال وتكريم، وما عاينَه من سهرات فولكلورية ممتعة على ضوءِ قمَرٍ يرافق الساهرين في لَهْوِهم وَزَهْوِهم. وأَكمل إِلى اللقلوق فضهر البيدر فالبقاع الواسع. وفي رحلة أُخرى ذهب إِلى أَفقا فالعاقورة فيحشوش فوادي نهر أَدونيس الذي فيه اشتُهرت احتفالات الأَدونيسيات في الأَساطير القديمة عن عيد الـحب.
في رحلته إِلى عمشيت توقَّف طويلاً عند مكتشفات إِرنست رينان إِبّان تنقيباته وإِرسالِهِ قطَعاً أَثرية غالية من أَرضنا إِلى متحف اللوﭬــر حيث لا تزال حتى اليوم.
وكانت له رحلة إِلى غرزوز وجوارها: من الطوق الأَقدس إِلى صخرة الرويس إِلى سطح مار شربل فشيخان فكفيفان الحرديني فَــجْران خيرالله خيرالله.
وختام رحلاته الكاملة كان في غياهب الزمان مسترجعاً من التاريخ السحيق عراقة بيبلوس البيتِ الأَوّل والأَبجديةِ الأُولى ومجدِ فينيقيا ومملكةِ جبيل ومُلوكِها وقلعتِها وجوارِها وما فيها من آثار محفورة في صدر الزمان. وختم جولته بعبارةٍ لافتة: "بعد هذه الرحلة في غياهب الزمن وفي كتُب التاريخ والآثار، نَعود إِلى مرابع الشمس، إِلى الكتاب الأَوحد الخالد، إِلى أَجمل فصوله: إِلى لبنان.
كتاب "قلب لبنان" لأَمين الريحاني خُــبْــزٌ لازمٌ لِـجيلِنا الجديد يَكتشفُ فيه كَبيرَين: وطناً بحجْم القلب ينبُض وسْعَ الدنيا، وكاتباً تَوَلَّه بوطنِه حتى بات، هو الآخَر، نَبضةً ساطعةً من قلب لبنان.