مقتطفات من شعر هنري زغيب
مقتطفات من شعر هنري زغيب:
علبة التلوين
أَذكُرُ من طفولتي الْهَنِيَّه تَـــــــوَلُّـهي بِــــلُعبة التلوينْ
في عُلْبَةٍ أَقــلامُها غَنيَّه تَـمُدُّني بِفَرْحَــــةِ التــــكوينْ
أَسحبُ منها قلَماً، واثنين، أَو أَزيدْ
يُطيعني اللونُ كما أُريدْ
بالأَزرقِ الهادلِ، أُفقاً في البعيدْ
بالأَخضر الريّانِ، عُشباً لا يَزيدْ
بالأَحمر الزاهي أُوَشّي شُحبة الغُروبْ
بالذهبِيِّ الغَضِّ، أَغماراً من الحبوبْ
فَتزدَهي سنابلْ
وأَرسُمُ الوديان أَزهاراً من البلابلْ
في أَوَّلِ السَّمَرْ
وفوقَها أَرسُمُ بالفضّيِّ بَسمَةَ القمَرْ
وحولَها تنامُ في سُكوتِها البُيوتْ
وبينها العيدُ يَـمُـــرُّ... يكسر السكوتْ.
وكان يُغريني السفَر
فأَلتقي بنجمةٍ سَمَّيْتُها بِـ"نَجمتي"
لوَّنْتُها أُمنيّتي
فترتدي حياتي
أَرسمُ في سبيلها القطارْ
ينقلني إِلى محطاتٍ بلا انتظارْ
وكم رسمتُ ضوءَ تلك النجمةِ البعيدَه
ناجيتُها
ساءَلْتُها
حلِمْتُ أَن أَبْلُغَها
حلِمْتُ أَن تَبْلُغَني
في صِدفةٍ سَعيدَه !
وكان يُغريني السَّفَرْ
إِلى مَدىً بلدانُهُ مَجهولةُ الوُجهة والأَقطارْ
ينقلني إِلى مَحطاتٍ بلا انتظارْ
يطلَعُ منها حلُمٌ لَوَّنَهُ خيالي
فيها وجُوهٌ حَزَّها التلوين في سؤالي
أَعرفُها، أَجهلُها،
أُحْدِثُها في بالي
مغتبطاً بِفَرْحَةِ التلوينْ
تَعِدُني بِملتقاها نَجمةُ التكوين.
***
وكبُرَ الصبيُّ بِي
وشَمَّسَتْ أيّامُهُ
واستيقظَتْ أَحلامُهُ
وأَبعَدَتْ نَجمتَهُ أَوهامُهُ
وبَرِيَتْ أَقلامُهُ
وأَخذَت تَبْهُتُ في دفتره الأَلوانْ
وتشحُبُ الأَحلامُ والبلدانْ
لَم يَبقَ من أَقلامِهِ إِلا غبارٌ لامس الأَطراف من أَنامِلِهْ
أَزرقُ، أَو أَصفَرُ أَو أَحمَرُ أَو لونٌ بغير كامِلِهْ
ذاكرةٌ ضئيلةٌ من لعبة الطفولَه
صُفوفُها مَكسورةٌ
كعسكرٍ أَشاح عن تَطَلُّب البُطولَه
بات يرى في عالَم الرُّجولَه
حقيقةً عاريةً من حُجَّة الإِقناعْ
وأَوجُهاً حاسرةً عن دُغشةِ القناعْ
وكان في واقعه يُغمض عينيه على قَلَقْ
وكم تمنّى عودةً إِلى سما أَعوامه الأُولى
تعود فيها علبةُ التلوين زهوى من أَلَقْ
لكنما يعود منها عنوةً إِلى الأَرَق
إِلى ثنايا عالَمٍ غريبِ
يصدُمُهُ بالواقع الـمُريبِ
كان يرى الكون بهياً ناعما
فبات يلقاه شقيّاً قاتِما
وحين عاد يرتَجي أَلوانه القديـمَه
يبحث فيها عن سنا نجمته الحميمَه
لم يَلْقَ إِلاّ، لَمحةً، بقيّةَ الغُبارْ
وكلَّ ما مِن حوله غبارْ
فانكفأَت إِلى مَسَاها ذاتُهُ
لعلَّ فيها الشمسَ والبلابلْ
والأَفْقَ والسهولَ والسنابلْ
وذلك القطارْ
يعود فيه نحو عالَمٍ من الحنينْ
لعلّه يُنقذه من أُفْقِهِ الحزينْ
يعيدُهُ إِلى فضاءِ علبةِ التلوينْ
***
وذاتَ كنتُ ذاهلاً... في لَحظةٍ من بَسْمة القدرْ
أَذوق صوتَ لهفتي تَوقاً إِلى سَماءَةٍ جديدَه
أَرى إِليها نَجمَتِي البعيدَه
تَحرَّكَت من حُلُمي بِشَوق سُكناها
واقتربت إِليَّ في سناها
صارت حياةً أَشرَقَت بالحُب عيناها
وغمرَتْني بالحنانِ الجمِّ يُمناها
تُباركُ الحصادَ في أَيلولْ
فجدّدَت قلبي... شَفَتْهُ من صَدا الطلولْ
حُباً أَفاضَت فيه نبضةَ الحياةْ
ولَوَّنَت أَياميَ التَّعبَى من الأَحزان والخيباتْ
جَعَلْتُ من ذاتي أَرى الدنيا بعَين نِعمتي
ها بارَكتْني بالحياة نجمتي
فصرتُ طفلاً أَنتمي إِليها
وعُدْتُ عُمراً شَعَّ من يديها
مُسترجِعاً براءةَ التكوينْ
واسترجعَت إِلى حياتي
كلَّ ما فَقَدْتُهُ
من وَلَعي بعُلْبة التلوينْ !
من مجموعة "على رمال الشاطئ الممنوع"