قدموس ثائرا أو جبران ونزعة التمرد - إبراهيم مشارة
من غرائب هذه الدنيا التي لا تنتهي وأعاجيبها التي لا تني تفاجئ الإنسان أن بعض المناطق المعزولة في أعالي الجبال أو المشردة في الفيافي و التي لا تعدو أن تكون قرية صغيرة في أحسن الأحوال تصيب من الحظ ومن الشهرة ما لا تصيبه أكبر المدن في الدنيا وذلك كله بفضل شخصية تولد في تلك المنطقة إذ تبدأ مغمورة في أسرة يائسة فقيرة، يتناوب عليها الفقر والجوع والداء العضال ثم تنتهي تلك الطفولة المشردة سليلة الجوع والعري والمرض إلى كهولة ناضجة تشع علما وعبقرية وعطاء يجتهد الدارسون في فهم أسرار عبقريتها وفي كيفية قهرها للظروف كما لا يفوتهم أن يدرسوا الظروف الحياتية التي أنتجت تلك العبقرية فتنال تلك المنطقة الشهرة ويقترن اسمها باسم ابنها الذي غدا شخصية من شخصيات التاريخ الكبيرة.
كذلك كان الشأن مع ” بشري ” إحدى قرى لبنان المعزولة وكذلك كان الشأن مع فتاها جبران خليل جبران الذي ملأ العالم العربي أدبا وتمردا وشغلا للناس لم ينته برحيله عن هذه الدنيا ، وليس من شأن هذا المقال أن يهتم بالتأريخ لحياة جبران وقد أشبعها الباحثون درسا وتحليلا، ولم يعد فيها ما هو خافي على القارئ العربي إنما يهدف إلى تسليط الضوء على جملة الظروف التي حفت بكاتبنا فأثرت فيه وأثر فيها سلبا وإيجابا ووجدت صداها في كتاباته النثرية والشعرية على السواء وإذا كان لابد من ذكر بعض التواريخ وتتبع مراحل حياة الكاتب فلخدمة غرض المقال ذلك أن الإنسان ابن بيئته وإذا كانت الهندسة التحليلية تعين كل نقطة في الفضاء بفاصلتها وترتيبها وذلك ما يسمونه بإحداثيات نقطة في مستوى فكذلك الشأن مع الإنسان فاصلته الزمان وترتيبه المكان لتتشكل إحداثيات الكائن البشري و أما الفاصلة أي الزمان بالنسبة لكاتبنا فهي العام 1883 وأما الترتيب أي المكان فقرية ” بشري ” من قرى الشمال اللبناني ، وأما الظروف السياسية السائدة في لبنان في تلك الحقبة و في الشام عموما فطغيان سورة الاستبداد العثماني وقد خضع الشام لسلطة الأتراك الذين استبدوا عن طريق ولاته وقد كانت شمس الدولة العثمانية آيلة إلى أ فول منذ انهزام أسطولها في معركة ” نافارين ” عام 1827 ، وقد كانت أوروبا الناهضة تتهيأ لاقتسام تركة الرجل المريض و الحلول مكانه في شرق العالم العربي وفي غربه ، ولم يبق من العثمانيين وشوكتهم آنذاك غير استبدادهم بالعرب وبطش ولاتهم بهم و إزهاق الحريات بل الأرواح و فرض الأتاوات والضرائب على السكان لدفع رواتب الجيش و إغراق ضباطه في النعيم حتى لا يثور الجيش على الباب العالي و ينهي حكمه وتحمل العرب ذل العثمانيين و اضطهادهم بكبرياء و شموخ حتى إذا أشرقت شمس القرن العشرين رأيت العرب في الشام و في لبنان خاصة يؤسسون حركة قومية تناهض الحكم العثماني و استبداده وتدعو إلى الاستقلال عنهم و تناضل في سبيل ذلك سرا وعلانية وقد انتهى شأن الكثيرين من أحرار لبنان والشام إلى الإعدام شنقا وجرائم السفاح جمال باشا في العالم العربي مشهورة ومدونة.
وما كان وجود العثمانيين في العالم العربي إلا نزولا به في دركات الجهالة و العماء و قد أدت تلك الحقبة المؤلمة إلى انحطاط اجتماعي تميز بالطبقية الجائرة ففئة من الانتهازيين ناصرت العثمانيين وشكلت طبقتها البيروقراطية في الشام كما شكل لفيف من ضباط الجيش فئة مستفيدة من ريع الحكم الجائر ماديا و اجتماعيا و لعامة الشعب العري والخصاصة و الموت جوعا ومرضا وقد أزهقت الحريات و كممت الأفواه و نصبت المشانق عوض نشر العلم وطبع الكتب و جعل العالم العربي و الإسلامي منارة علم و قطب إشعاع والحق أن الحكم العسكري لا يجلب إلا الوباء الأخلاقي و الفكري و الاجتماعي لأن العسكر حزمة من الغرائز و قبضة حديدية لا تذيبها شمس أغسطس الحارة، وتلك هي ميزة الحكم العثماني الذي كان حكم سيف لا قلم و دولة جهل لا دولة مدنية ورقي .
وقد تسرطنت كل نواحي الحياة بهذا السرطان العام فلحق الحياة الاجتماعية المسخ والتشويه و انحطاط القيم وشيوع الدجل والشعوذة وروح السحر و الخرافة و أخذت العلاقة بين الرجل و المرأة صيغة الحريم التي تنمي في الرجل الشبقية و تختصر المرأة إلى كائن ذي جاذبية جنسية ، وتآمر الإقطاع الزراعي مع الكهنوت الديني ، فغدا الدين الرسمي مباركة للوضع القائم وترسيما له بالنصوص المقدسة وعملا بالقول المأثور ” حاكم ظلوم خير من فتنة تدوم ” و ” ليس في الإمكان أبدع مما كان ” إنها إذا حقبة مظلمة هيأت العالم العربي بعد قرون من السبات والتقليد و الاجترار والاستبداد السياسي إلى الوقوع فريسة للمطامع الأوربية التي اقتسمت عالمنا العربي غنيمة مربحة وزادت من بلائنا و تخلفنا.
هذه هي الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية التي ولد فيها جبران خليل جبران وقد ذاق ككل الأطفال العرب البؤس و الخصاصة و العري في أسرة متواضعة فالأم معدمة مع طيبتها و الأب سكير و الإخوة فرائس لداء الصدر غير أن نور العبقرية لا يلبث أن ينير الحلكات و ترتيب الأقدار سيقوى على الظروف فإذا العزيمة لا تهن وروح المغالبة لا تخمد وهكذا سار الطفل جبران في طريق المعرفة فتعلم ببيروت وأقام أشهرا بباريس ولا شك أن إقامته تلك بباريس قد حسمت مسار حياته بتوجهه إلى الفن و الأدب و باريس كعبتهما فهي موطن الإلهام و ممكن الإبداع ومستودع العبقرية تعج أرضها بعرائس الشعر وحوريات الفن فعلى أرضها يستقر اللوفر ويجري السين و في حدائقها المنسقة والمزينة بالتماثيل كتب موسيه و فيني أشعارهما الخالدة، غير أن الفتى جبران هاجر مع أسرته إلى الولايات المتحدة شأن اللبنانيين في تلك الحقبة هربا من الاستبداد السياسي وقهر الحاجة و تفشي البطالة و الجوع و المرض ، بحثا عن ظروف حياة أفضل في بلد اتخذ للحرية تمثالا ضخما عند مدخل مدينة نيويورك وهو بلد فتح ذراعيه للمهاجرين والمغامرين من كل حدب وصوب فلا مناص من النزوح إليه أملا في غد مشرق وقد استقر جبران مع أسرته في مدينة ” بوسطن ” أو ” باريس أمريكا ” كما تسمى وما أن طفق يكتب حتى أحس بالحاجة إلى التعمق في العربية ودراسة علومها و الإحاطة بأسرارها لأنه أحس بضعف أداته، و عاد إلى لبنان ليقيم أربع سنوات في بيروت متفرغا لدراسة اللغة العربية و التمكن من اللسان العربي ، وفي عام 1908 عاد إلى باريس دارسا للفن على يد النحات الفرنسي الكبير” رودان ” وقد حاز في آخر الأمر على إجازة في فن التصوير . وللسيدة الأمريكية ” ماري هاسكل” فضل كبير على تذليل دروب الإبداع للفتى وذلك باحتضانه والتكفل به بالانفاق عليه في أمريكا و في باريس و في تعريف الأمريكيين به و بفنه و بالمعارض التي أقامتها له ولا ريب أنها كانت تكن له حبا عميقا بدليل مذاكرتها وما باحت به من حقائق وقد بلسمت هذه السيدة جراحه بعد رحيل أخته و أخيه ثم أمه بداء الصدر فكانت ” ماري هاسكل ” الأم و الأخت والزوجة والصديقة أبدلته أمنا بعد خوف و سكينة بعد قلق و بلبال وعيشة لا بأس بها بعد خصاصة و مسغبة، فتفرغ لفنه و أدبه راسما وكاتبا إلى وفاته عام 1931 مخلفا دررا في العربية جددت وجه النثر العربي بتأجج المشاعر وانطلاق الخيال وحلاوة الأسلوب مع سلاسته وقد استعار جبران كثيرا من مفرداته من الطبيعة ففعلت فعلها في القلوب ، بالوقوع على معاني بكر لم تتحقق لكاتب من قبل ، وباقتباساته من العهدين القديم والجديد ، كما أفاد تمكنه من اللغة الإنجليزية الاطلاع على عيون الأدب الأمريكي و الإفادة منه وقد خلف من آثاره باللغة الإنجليزية ” المجنون و” النبي ” و” السابق” أما مؤلفاته بالعربية فأشهرها ” دمعة وابتسامة ” و ” الأرواح المتمردة ” و ” الأجنحة المتكسرة ” و ” المواكب ” و ” العواصف ” وغيرها .
فقد كانت حياة جبران إذن اضطراب و ترحال استهلها بطفولة بائسة معدمة في كنف أسرة يتناوب عليها الجوع و الداء الذي ذهب بأفرادها و أما الأب فمدمن خمر تارك لواجباته ، وحياة اجتماعية متفسخة تعفنت فيها جميع القيم و تنقل بين لبنان و فرنسا و أمريكا بحثا عن ظروف مثلى للعيش و الإبداع ، غير أن ترتيب الأقدار كان في صالح جبران فقيض له السيدة ” ماري هاسكل ” التي احتضنته و احتضنت فنه وأدبه ثم اشتراكه في تأسيس الرابطة القلمية عام 1920 مع لفيف من أدباء المهجر كميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد ورشيد أيوب ووليم كاتسفليس و أمين مشرق و أمين الريحاني ونسيب عريضة و غيرهم ، كانت تلك الرابطة تجدد في الأدب العربي شكلا و مضمونا و تكتسح العالم العربي حاصدة الإعجاب و التأييد من جماهير القراء العرب و في مجلتها كتب جبران ونشر شعره ونثره ، وبفضلها عرف في المشرق و المغرب .
فلا يمكن فهم تمرد جبران بمعزل عن الظروف التاريخية التي نشأ فيها فقد كان روحا وثابة وعقلا بحاثا ونفسا طموحة غير أن بيئته تسعى لأن توثقه بوثاق الرجعية وتشده إلى عفونة الماضي وآصار الحاضر بحبال سميكة فتائلها الإقطاع الزراعي و السياسي و الديني ولهذا صب عليها جام غضبه فاضحا جبروت الحاكم و نفاق رجل الدين و بلادة ملاك الأراضي الذين اصطلحوا على البدن العربي كالسرطان ينهشون لحمه و يمتصون دمه و يجهزون على البقية الباقية فيه ثم أن حياة أسرته ذاتها المترنحة بين انحراف الأب وعجز الأم و مرض الإخوة وقهر الظروف عمق في نفس جبران مشاعر الحقد والكراهية للظروف التي تحاول أن تغتال فيهم الروح الإنسانية والكرامة البشرية وهو نفسه في حياته كان مثالا للتذبذب والاضطراب فمن حياة من غير أسرة إلى عشرة بغير زواج مع ” ماري هاسكل ” إلى تناول المخدرات لتناسي الجرح وقهر الزمن و تسلط القدر الذي عمق في نفسه مشاعر الإحساس باليتم إلى الثورة على السماء التي لا تبالي بعذاب المعذبين والتي تتواطأ بالصمت و اللامبالاة و كأنها بكماء خرساء وقد تشفى جبران منها بإنكارها و التعالي عليها لأنها لا تفعل شيئا لتغيير الواقع فتفضح المتدين المنافق وتغتال السياسي المستبد و تصيب بالشلل الإقطاعي الذي ينمي ثروته من امتصاص دماء الفلاحين و استغلال عرق الجبين .
وهناك شيء لا يفوتنا إغفاله وهو نظرة جبران إلى المرأة تلك النظرة التي لا تختصر المرأة في الجاذبية الجنسية وتلقي بها دمية في مخدع الرجل و لا يفوته أن يعيرها بقصورها و بحيضها وهي نظرة العربي اليوم إلى المرأة ، فعلى الرغم من مشاعر الود التي احتفظ بها جبران لماري هاسكل التي وجد في أحضانها الدفء و الرعاية والحب إلا أنه بعقله النافذ أدرك أنها ربما مودة أملتها ظروفه البائسة هو وإشفاق ماري عليه وهذا ليس بحب حقيقي فاتجه بحبه نحو امرأة أخرى هي “ماري إلياس ” أو ” مي زيادة ” تلك الفلسطينية ثم اللبنانية والمقيمة بمصر صاحبة الحس المرهف و الخيال الجامح والقلم السيال والذكاء الخارق و صاحبة الصالون المشهور وقد كانت تتألق فيه يوم الثلاثاء فتغدو أشبه بالمصباح يحوم حوله الفراش وما الفراش إلا نوابغ مصرفي ذلك الزمان كعباس محمود العقاد و أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وقاسم أمين وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي ومحمد عبده وغيرهم وقد وجد فيها جبران المرأة الحقيقية التي ظل يبحث عنها ويهيم بها امرأة غير نساء الحريم بل إنسان من لحم ودم وروح و كيان متميز وفردية مستقلة ، ليست ظلا للرجل و لا تابعا له، وقد بادلها مودة بمودة رغم البعاد ، فلم يرها ولم تره حتى فرق الموت بينهما برحيله هو ثم التحاقها بشاطئ العدمية بعده .
وربما أمعن حبران في ثورته وفي تمرده وربما بتأثير من المخدر فتوهم نفسه بوذا أو زرادشت يسوق الحكم ويلقي بالمعاني البكر فشط أحيانا عن الصواب وموقفه من الأسرة فيه شطط ومغالاة فهو يقول في العواصف ” إنما الزواج عبودية الإنسان لقوة الاستمرار فإن شئت أن تتحرر طلق امرأتك وعش خاليا ” .
وهو في بحثه عن المعاني ونبشه في بطون الألفاظ وبحثه عن اللباب يغالي في تمرده وفي مواقفه مسفها القيم والمثل العليا معتبرا إياها جسدا بغير روح أو جثة محنطة من بقايا التاريخ فهو يقول في العواصف : ” قلت أؤمن بالله و أكرم أنبياءه و أحب الفضيلة ولي رجاء بالآخرة . فقال : هذه ألفاظ رتبتها الأجيال الغابرة ثم وضعها الاقتباس بين شفتيك، أما الحقيقة المجردة فهي أنك لا تؤمن بغير نفسك و لا تكرم سواها و لا تهوى غير أميالها ولا رجاء لك إلا بخلودها ، منذ البدء و الإنسان يعبد نفسه ولكنه يلقبها بأسماء مختلفة باختلاف أمياله و أمانيه فتارة يدعوها البعل وطورا المشتري و أخرى الله .”
وليس من العسير دحض هذه المقولة التي ترمي إلى إنكار المطلق و المعياري ، وبغيرهما يتسيب الوجود وتغدو الحياة الإنسانية هملا ، وفي التاريخ من الشخصيات من أنكرت “أناها ” وضحت بنفسها في سبيل نصرة الحق و الانتصار للإنسانية وفضائلها ، وجبران يعرف ذلك جيدا ، إنما هي آثار الظروف وجراح الواقع التي لم تندمل حتى وهو في أمريكا .
غير أن في بعض أفكار جبران معاني بكر تعزز الحرية الإنسانية وتستخلص اللباب من القشور وهي تستفز عقل القارئ وتدعوه للتأمل و التفكير في مسار حياته معتمدا على ” أناه” باحثا عن حريته مثمنا قدراته الشخصية ونوازعه الذاتية ولو استلزم ذلك إنكار الماضي و الولوع بالحاضر : “إن بلية الأبناء في هبات الآباء ومن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه و أجداده يظل عبد الأموات حتى يصير من الأموات “.
وأما الثورة التي أحدثها جبران في الأدب العربي فتمكن في أسلوبه الأدبي الذي تجاوز به مدرسة الإحياء في النثر العربي خاصة أسلوب المنفلوطي، وفي نثره شعرية وموسيقى داخلية وروح رومانسية حالمة ثائرة باحثة عن الحرية متعطشة إلى الكمال أو هي ناسوت باحث عن اللاهوت وهنا تمكن عظمة جبران ككاتب و أي إنسان لا يقرأ هذه الكلمات و لا تحرك وجدانه و تستفز عقله وتقع الألفاظ المستمدة من الطبيعة موقع الرضا و الاستحسان من القارئ ..” أنت تنظر بعين الوهم فترى الناس يرتعشون أمام عاصفة الحياة فتظنهم أحياء وهم أموات منذ الولادة ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم فظلوا منطرحين فوق الثرى ورائحة النتن تنبعث منهم ”
ولقد تأثر جبران بالشاعر الإنجليزي الرومنطيقي وليام بليك بعد أن قرأ شعره و تمثل روحه وهو القائل : “اذهب وطور قابليتك على رؤية الرؤى حتى تصل بها إلى أفضل ما يمكن أن تكون عليه”
فكان في أدبه صاحب رؤيا و كأنه عراف انسدل شعره، وعبثت الريح بأطراف ثوبه الأبيض وتحركت الطبيعة و هدر الوجود بحفيف شجره وخرير مائه ولمعان برقه وهزيم رعده و امتدت نظرة الشاعر وثابة نحو الآفاق لا تنكسر و لا تلين باحثة عن عالم تزداد فيه إنسانية وشهامة وعدلا .
و أما جبران في شعره فكان ناظما أكثر منه شاعرا فلقد تكلف الوزن والقافية فوقع فيما أنكره على غيره ، وفي شعره حاول أن يبدي موقفه من الوجود وجدية العلاقات الإنسانية ومضمونها ، وهو متأثر بنيتشه وببوذا وزرادشت ومحي الدين بن عربي ويسوع فاقتبس معاني كثيرة عنهم وسجنها بين حيطان البيت وسقف القافية فجاءت أدنى مستوى من نثره ذي الروح الشعرية واللمسة الإنسانية .
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا
و أكثر الناس آلات تحركهـــــــــــا أصابع الدهــر يوما ثم تنكســـــــــر
فأفضــل الناس قطعان يسير بهــــا صوت الرعـــاة ومن لم يمش يندثر
والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا به ويستضحك الأموات لو نظـــروا
فالسجن والموت للجانين إن صغـــــــروا والمجد والفخر والإثراء إن كبروا
فسارق الزهر مذموم ومحتقر وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر
والحق للعزم و الأرواح إن قويت سادت و إن ضعفت حلت به الغير
ففي العرينة ريح ليس يقربه بنو الثعالب غاب الأسد أم حضروا
و تأثر جبران هنا بفيلسوف القوة ” نيتشه ” صاحب كتاب “هكذا تكلم زرادشت” واضح لا ينكر. وبعد فماذا يبقى من جبران وماذا يثمن من مواقفه ؟ لقد كان جبران ظاهرة أدبية حقيقة بالإعجاب و التقدير مستحقة للخلود الأدبي، تجاوزت شرطها الحياتي بفاصلته وترتيبه كما يقول علماء الرياضة وقهرت ظروفها بعبقريتها و عطائها ومعاناتها الإنسانية ولعل من أثمن مواقفه دفاعه عن الحرية الإنسانية وهي لباب الوجود الإنساني وحملته على التقليد ومقته للتعصب ودعوته إلى التسامح الديني وحربه الشعواء على الإقطاع السياسي والزراعي و الديني وتنديده بالطبقية الجائرة تلك الموبقات التي هدت عافية العرب و أسلمتهم لقمة سائغة إلى القوى الإمبريالية الأوروبية ثم الأسلوب الساحر بروحه الشعرية وتراكيبه البديعة وخياله الخلاق و إيقاعه الشعري تلك الميزات التي تعرج بالقارئ إلى سماوات الفن والهيام على الرغم من بعض سقطاته اللغوية و يشفع له اضطراب حياته وحياته فيما بعد في المهجر يتكلم بغير لغته الأم، وعلى الرغم من إسفافه أحيانا وتعاليه على قيم الدين والحياة وتسفيههما وهذا كله يفهم بالاستناد إلى الخلفية اللاشعورية فقد تركت ظروف القهر ندوبا في نفس نابغتنا لم تقوا أمريكا و لا الزمن على محو آثارها و لا بلسمة الجرح أو تضميده ، لهذا كله حق لنابغة لبنان والعرب أن يخلد في دنيا الإبداع و الأدب وحق لقريته ” بشري” أن تنال حظها من الشهرة وهي تلك البلدة الصغيرة المعزولة في شمال لبنان.