George Mattar

شهدي يا بيو ت بيروت

george-mattar-beirut-houses

ما أجمل هاتين الكلمتين المتشابهتين. كلمتان لا يفرّقهما الا حرف واحد ويجمعهما قدر واحد. قدر الث بات والترحال. قدر الجماد والروح. قدر الجمال والقبح. قدر الحياة والموت. فصارتا كلمتين اثنتين لمعنى واحد ، ولا ضير من الخلط بينهما. فها هي البيوت أو بيروت المسحورة كأنها أشخاص هلاميّة أو أرواح تائهة، وها هي البيوت أو بيروت الهشّة كأنها قابعة على قارعة الطريق. لا فرق بين هاتين الكلمتين وإحلال كلمة مكان الأخرى. فالمعنى هو هو طالما يجمعهما مصير واحد وقدر واحد.

هنا بدأ ا لصراع في داخلي. كيف لا وأنا الآتي من عالمين مختلفين في المقاربات. عالم الهندسة المعمار يّة مع كل علومه ونظمه ومواده من جهة، وعالم الفنّ التشكيليّ مع كل أبعاده الروح يّة والصوف يّة، والتي أحاول أن أعي شها. الأول يدرس صلابة البنيان، جماله، حسن وظيفته وثباته عبر الزمن. أما الثاني يحاول التف لّت من كل هذ ه القواعد الجامدة والهروب نحو فضاءات إلهيّة.

بيوت ثابتة وبيروت راحلة ، أم بيوت راحلة وبيروت ثابتة ؟ هنا يأتي ا لفنّ ويبعثر كل شي ويعيد صياغة الأ شكال وحتى أ نّه يتدخل في تكوين جوهرالأشياء. فما هو الثبات وما هو الترحال؟ من قال أنّ البيوت لا ترحل ؟ من قال أنّ البيوت لا تسافر ؟ ألم ترحل عيوننا يوما ما، وربما ما زالت ترحل كل يو م، الى القدس مع فيروز؟ ولما لا بيوتنا؟ فها أنا هنا أتركها ترحل. ألب س ها أجساداً وأنف خ فيها روحا لتذه ب حيثما تشاء. غير عابىء بصلابة بنيانها ولا حتى بتفاصيل شكلها وجمالها المعماري. أنا الذي كنت مهندسا مهووس ا بجمال عماراتها وتفاصيل خرائطها. كنت أحاول جاهد اً أن تبقى ثابتة في موقعها. أدرس مليا صلابة أساساتها وتفاصيلها المعمار يّة ومقاومتها للزمن وديمومة موادها. هي الآن راحلة من تلقاء نفسها أو ربما هاربة من بطش حاكم، سلب مفاتي ح أبوابها، غير مكترثة لأيّ سؤال.

بيوت ثابتة وبيروت راحلة ، أم بيوت راحلة وبيروت ثابتة ؟ هل إننا أجسام راحلة فعلا ولا شي يث بّتنا ؟ هل حقا نرحل عن هذه الأرض الط يّبة ونسافر الى بلدان غريبة ولا نأخذ معنا شيئا ؟ لا أظنّ . إ نّنا مسكونون ببيوتنا، مسكونون بوطننا. ثابتون ثبات الأر ز والزرع . نأخذ وطننا حيثما حللنا ونتث بّت به. تقاليدنا و عاداتنا لا تفارقنا مهما بعدنا عن أرض أجدادنا. مسكونون بب يت الأهل. وأجسامنا موشومة بضحكات الأطفال وحكايا الجدّات. وسنظلّ نغني مع الس يّد ة فيروز ، خدني ازرعني بأرض لبنان ، مهما طال الزمان وكبر البعاد. ثابتون ثبات الغيم على التلال، ثبات النهر في الوادي، ثبات أ صوات أجراس الكنائ س وآذان المآذ ن فوق سطوح بيروت. بيوتنا نحن. إن بقينا بقيت وإن رحلنا رحلت معنا. ثابتون في ترحال بيوتنا ، وراحلون في ثباتها. وطننا هو نحن، يسافر معنا، يكبر معنا، يبكي ويضحك معنا. يموت فينا ونموت فيه.

يقول فيكتور هوغو للأشجار أرواح. وأنا أقول للبيوت أرواح ولبيروت روحها.

أحبب ت أن أعالج هذا الموضوع وأتجاوز به حدود المنطق. من قال أن منطق الأشياء هو فقط في ما نرى وندرك؟ فها أنا هنا بهذا المعرض أفرّ غ القانون الكوني من جوهره وأعيد صياغته من جديد. وأخلق لبيوت بيروت أجسام. لا أدّعي أنني وفقت   لكنني ارتضيت عناء المحاولة. محاولة الخروج من المحسوس والزمان. محاولة الترحال والثبات بالله.

شهدي يا بيوت بيروت أنني بلغت.

جورج مطر - 19 تشرين الثاني 2021