غياب فادي براج - الفنان الشاهد والفنان الضحية
غياب فادي براج - الفنان الشاهد والفنان الضحية
1988/01/29 - السفير
من كتاب: كتابات مستعادة من ذاكرة فنون بيروت لفيصل سلطان - الفارابي
خسرت الأوساط التشكيلية اللبنانية الفنان فادي براج (1939-1988)، الذي غيبه الموت منذ أيام (على أثر مرض في الصدر طال أمده)، تاركا ً وراءه تجربة فنية هامة تعود بداياتها الى اطلالته الأولى في بيروت في العام 1967 في المعرض الفردي الأول، الذي أقامه في صالون جريدة"الأوريان".
فادي براج، يعتبر من الرعيل المخضرم لمرحلتي الازدهار والاحتضار التي شهدتها "بيروت - الفن" ما بين العام 1967 والعام 1987، فقد تفتحت بصيرته التشكيلية على حيوية معارض العاصمة بيروت أو مدينته التي حملت لقب المختبر للفنون العربية المعاصرة أو الجسر الابداعي الذي وصل الشرق بالغرب... ومن أجل ذلك، تفرغ كليا ً للعمل الفني (بعد دراسة في مطلع الستينيات في شيكاغو وباريس)، وأعلن من خلال معارضه المتتالية (في"الأوريان" العام 1971 وفي "دار الفن والأدب" العام 1973 وغاليري "مودلار" العام 1974)، عن هاجس الانتماء الى الثقافة الحديثة في مفهومها الانساني العالمي، ليطرح من خلال ذلك تساؤلاته الحادة حيال علاقة الحداثة بالاتجاهين الواقعي والتجريدي.
لم تكن مدرسة "باريس" وحدها تثيره ولا الطروحات التجريدية التي أطلقتها في أواخر الخمسينيات مدرسة "نيويورك"، كان يهتم ويهتم فقط بعلاقة مدينته (بيروت) بالثقافة الحية الجامعة لموزاييك الحضارات المتنوعة.
كان يرسم (كمجمل الفنانين العاشقين لبيروت) ومنذ البدايات الأولى علاقته العاطفية بالمدينة. (أطلعني خلال زياراتي المتكررة لمحترفه في باب ادريس، ما بين عامي 1973 و1975 على مجموعة واسعة من الرسوم السريعة والملونة (بمواد مختلفة) لمشاهداته اليومية لشوارع وناس بيروت وأسواقها ومقاهيها البحرية والمشردين على أرصفتها.. شكلت هذه الرسوم المدخل الواقعي "أو العصب التعبيري" للوحاته التجريدية، التي كانت تتجه في تلك المرحلة الى الأحجام الجدارية الكبيرة والى التعبير عن دوامة هذا العالم الداخلي المغلق والمتوتر والقلق، والتي كانت تظهر اشاراته عبر رموز الدوائر والمفاتيح والأقفال، التي كانت تنتشر وبعفوية في تكاوين أو تفاصيل الحركة الديناميكية التجريدية في لوحاته.
لم يكن فادي براج يرغب أن يصنف كفنان واقعي. كانت "الواقعية" مجرد تمارين في دفتر يومياته أو مشاهداته. فهي المدخل "لواقع الواقع" أي للتجريد الذي تغيب فيه الاشارات التسجيلية والانشائية وتبقى على حرارة اللمسة الخطية أو اللونية التي ما هي الا صدى لحرارة القلب ( أو العاطفة). كان فادي براج، في تلك المرحلة يجمع صور الحياة ليركب من خلال معطياتها تفاصيل أسئلته (أو تجربته) المنفتحة على الحياة (كواقع محسوس، لا كواقع منظور)، فالذين يعرفون فادي براج (قبل العام 1975) لا يمكن أن يفصلوا بين حياته وتساؤلاته وحواراته الثقافية واختياره العفوي للعزلة في محترف واسع (في باب ادريس) يحمل بصمات"بيروت أيام زمان"، ويضعه بصورة مستمرة أمام فسحة البياض الواسع في اللوحة، التي كان يريدها وبشكل متواصل، استجابة لحالة داخلية لا تجد حريتها الا عبر اللمسة المتحررة والتكوين المتحرر الذي يعلن ودون مواربة أن التجريد هو نظرة واقعية للأشياء، كلما تقدمنا بعواطفنا للامساك باشاراتها كلما صادفنا الفراغ.. فالفراغ لم يكن الا التعبير الصارخ عن عزلة الفنان أو خوفه من العيش في مدينة مقفلة أو منغلقة على ذاتها.
فادي براج، كان يحمل في رسومه تنبؤات، ما سيحدث، على الأقل عبر الدوامات والدوائر والمفاتيح والأقفلة التي كان يرسمها، والتي كان يعبر من خلالها عن حالات القمع والتخلف والتحجر، التي خلقت ما يشبه "بأحزمة البؤس" في دفتر مشاهداته، والتي أشعلت نار الحروب التي لم تنته. لم يكن فادي براج شاهدا ً على ما حدث، بل كان ضحية ما حدث، بعد دمار محترفه وخسارته للقسم الأكبر من نتاجه (الموقعة ما بين 1967و 1975 والتي قدرت بحوالي 1500 لوحة من أحجام مختلفة). كان ضحية الحرب وضحية هذا الحريق الرهيب الذي أصاب قلب بيروت. وحتى لا يفقد الحلم، آثر الرحيل الى المدن البحرية القريبة، التي تشبه في بعض ملامحها بيروت. واستقر لفترة طويلة في أثينا، وكادت بيروت أن تنساه لو لم يبادر ميشال فاني الى جمع شتات أعماله وعرضها في أواخر العام 1980 في غاليري "رونكونتر"، في محاولة لالقاء أضواء حول بعض تجارب محترف فادي براج (الموقعة ما بين 1967و 1978)، والتي تفاوتت ما بين التعبيرية والتجريد (تضمن المعرض 64 لوحة، كشفت عن أجواء بعض المراحل التعبيرية الهامة، كان أبرزها "مرحلة الحجاب"- أو "العجوز المحجبة" – و"القفل" و"الوجوه"). بعد ذلك، لم يعرض فادي براج في بيروت الا نادرا ً، وكانت آخر اطلالة تشكيلية له اشتراكه في المعرض السنوي الذي أقامته خلال الشهر الماضي جمعية الفنانين.
فقد آثر فادي براج الغياب الكامل عن معارض بيروت، عندما تحولت "مدينته" الى ما يشبه "الدوامة" و"القفل" و"الانغلاق" و"الاختناق". هكذا آثر الرحيل عن بيروت ليعيش عذابات الهجرة والغربة والضياع والمرض والموت.. الا أن القلائل الذين شاهدوا أعمال براج الأخيرة شاهدوا فيها عودة للتعبيرية ولرموز المدينة الموجوعة والمفجوعة والمحاصرة بالسواد والغياب.