الفجوات المسكونة بالكائنات الغيبيّة في أعمال النحات اللّبناني بسّام كيرلس - نجاة الذهبي فنانة تشكيلية من تونس 2020
أيّة مفارقة أجمل من لعبة نستخدم فيها "الحجارة" التي تتدحرج وتُصقَلُ وتُدمَّرْ؟ مادة هي الصلابة والرجم والحيطان والسكون والاختفاء والاختباء حدّ الانفجار أو الاندثار. أيّة حكايات يمكن أن ترويها لنا البنايات المهجورة والمثقوبة والمُهدّمة؟ وأيّة حقيقة سنقف عليها وسط أو على عتبة اللاشيء واللابناء؟
دعونا نتجرد من الصور التي لطالما انعكست داخل أعيننا حول البناء النحتيّ المصقول، ولنحاول النظر عميقا في أعمال النحّات كيرلس. لنحاول بجديّة الإبصار بين الجدران ومن خلال الركام، ربما سنتعرف إلى العالم بطريقة أصدق وربما ستتكشّف لنا تلك الكائنات اللاّمرئيّة وتتحدّث إلينا عن صخب الأمكنة التي تقيم فيها منذ أزمنة غير معروفة. الجميل في فنّ بسام كيرلس أنّه يتعمّد طرح أسئلة عديدة ثم يتبرّأ من الإجابة عنها، فهو يشتغل على الأفكار لا المواد. تنقلب كل موازين النحت التقليديّة التي تعالج ثنائيّة الكتلة والفراغ، عبر ذهابه مباشرة إلى العمل في مكوّنات الفراغ الفلسفيّة ف"كيرلس هو فنان أفكار، يقول الكاتب فاروق يوسف، لذلك فإنه غالبًا ما يتحاشى تقنيات النحت التقليدية. ميزته أنه يتصرف باعتباره نحاتا لا مُركِّبا. عُرف الفنّان اللبنانيّ بنزعته الصفائية لقد عَرف كيف يستبعد العاطفة التي تنفتح على الكثير من المفاهيم الخاطئة".
ينقلنا كيرلس من خلال "أكوانه" المنحوتة من الفظيع إلى الأفظع ومن المريع إلى الأشد رعبًا. يقدّم لنا حالة الأرواح التي تدمّرها الحروب، لا تختلف كثيرًا عن حال الحجر، نفس التشتّت والضياع، كالجثث والأموات التي تستلقي في كل مكان ولامكان، ورائحة الدمّ والعفن والجيفة منتشرة في الأرجاء، يقول كيرلس: "أحمّل أعمالي أحلام الأطفال المهجرة ومآسي الشعوب المقهورة التي تنزح قوافل قوافل دون أن يكون لها القدرة على الالتفات خلفها، وإن فعلت فلن تجد إلا أطلالً تبعثرت فيها كل الإنجازات والأحلام. أنا أنحت أبنية كان من المفترض أن تأوي إنسانًا متمدنًا فإذ بها مغاور شاهدة على همجية البشر".
تحكي منحوتات كيرلس عن هندسة المكان/ "المدينة"/ الركام، ذلك الفضاء الفانتازيّ المركّب بالحجارة، وذلك الفضاء كمنتهى ومربط كل الأشياء/ اللاّ أشياء. يستدعينا النحت للنظر في ما تعيشه المدن وهي في مفترق تاريخي عصيب، وهي تمرّ بأحداث متراكبة ومتنافرة. يوقعنا فراغ المكان/ الفجوة في نوع من البلبلة البصريّة والرؤيويّة التي تحذّرنا من أنّ الفاجعة لم تحدث بعد. يقدّم لنا الفنّان صورة تمثّل هواجسنا ومخاوفنا من كلّ تلك الخيبات والآلام التي تختبئ خلف/ في الجدران المنهارة، المسكونة بالفراغ. مع الاشتغال الاحترافيّ على الدمار والهدم، نجد أيضًا عملً احترافيًّا للحركة والترصيف والبناء، وكأنها منحوتات "تُساعية" الأبعاد، فتلهث أنفاسنا ونحن نتفادى مع بسّام كيرلس طلقات الرصاص من كلّ تلك الثغرات السوداء. ينحت الفنّان عوالم جديدة نكاية في الحرب وفي المجتمع وفي المحسوس، ويتحدّث عن الأرق المزمن للتفكير في العمل، ذلك العذاب الأبديّ التي تحدّث عنه إميل سيوران ليصف به حالاته المستمرّة في التفكير، يقول "إنّ الأرق وعي مدوّخ قادر على تحويل الفردوس إلى غرفة تعذيب".
تنتمي أعمال كيرلس للإنسان بكل تناقضاته النفسية والاجتماعية والأخلاقية، وتعبّ بوضوح عن التحضر الزائف وعن كل تلك "المسوخ المفرّغة" من إنسانيتها، تلك التي تسكن الأرواح والنفوس والفراغات فينا تماما كالمسوخ الذين أشار إليهم ساراماغو في روايته "العمى" للتعبير عن فاقدي البصر الذين يتصارعون من أجل البقاء. يعطينا النحّات محاولة إبداعيّة لإدراك قيمة البصيرة داخل عالم فسيفسائيّ، ومن ثمة محاولة التخلّص من خوف "المعرفة المطلقة" ومواجهة هواجسنا الغيبيّة بالاندماج في عالم "الفراغ" كليّا. ووفقًا لكيرلس، فإنه الجمالية التي تجمع المادة بالفكرة والجسد بالروح والذاكرة بالتذكر والحنين بالمكان والزمان وهو ما يخلق التنوع والتفرد في تجربته وتعبيراته النحتية فهو يتعامل مع أعماله بابتكار وموهبة ومحبة صادقة التنفيذ تأخذه من الانطباع إلى التجريد والتشخيص والواقعية والمعاصرة بلمسات مدهشة تبعث في الخامات الحيوية والحركة والحياة من الحجر إلى الرخام والغرانيت والبرونزوالطين والاسمنت تتجادل من النحت النافر والغائر تنعتق وتتعتق بالأسطورة لتحلق كطائر الفينيق المنفلت من صليبه.
إن أبرز ما يميز أعمال بسام كيرلس في العملية النحتية هو الجوانب الجمالية التي تصقل الفكرة بدرجات متفاوتة البناء في تجسيد المباني والعمارة انطلاقا من الرمز إلى عملية الهدم المادي والترميم الفكري التي تتناقض مع تعبيرات المكان والطمأنينة والسكن كرمزية تعكس تلك الصورة الطبيعية لفكرة المسكن التي تحتل المشاعر والوجدان الحنين والذاكرة غير أن المباني والعمارات في أعماله تبدو مهدمة ومحطمة بشكل يحول الفكرة من الأمان إلى الخوف تعبيرا عن السلام المفقود وهنا يحول الجماليات إلى مواقف إنسانية تجادل الرتابة في تذوق الواقع والوجود فالهدم عنده هي الحروب والفوضى والتهجير هي الابعاد وانقلاب المعايير الحياتية كمحامل تشحن المشاعر.
في نحت أعماله عدة أساليب من بينها النحت الناتئ أو النافر حيث يجتمع الرسم مع النحت وهنا يتبع أسلوب ينتظم جماليا ليتشكل على بعدين فيتشابه العمل مع اللوحة معتمدا على الظلال والايهام بالبعد الثالث حتى يساعد على التوغل في العمق من خلال توظيف المفردات التشكيلية وقد طوره بأسلوب حداثي معاصر فالسطوح تتشابك في تكويناتها.
تتباين الخامات وتتوافق مع الدورة الطبيعية التي تلامس الوجود في هندسات محبكة تجمل الفكرة وتحول الصدمة إلى فراغات مضيئة تبحث عن الاكتمال بالأمل في عفوية تتشبث بالتاريخ في ميثيولوجيا تعيد النحت إلى أصله الأول بروح معتقة بالأساطير بالقوة بالصدامات الخالدة بين عناصر الطبيعة.
لا يكتفي بسام كيرلس بتقديم فكرته وموضوعه في المنجز الفني بشكل فرداني متحكم في ذائقة المتلقي بل يتجاوز ذلك باستفزاز مخيلته ونبش أفكاره التي تنعكس على المجسم وتحاكيه وتطرح معه تساؤلاته وتناقضاته الجمالية كمحاورة ثنائية يعتمدها بينه وبين منجزاته والمتلقي وبينه وبين تناقضات الطبيعة والوجود.