معرض - بسام كيرلس في "آرت سبايس" حيث المنحوتات المقفرة هي حياتنا المقبلة - لور غريّب - النهار- 2015
مضت سنوات كثيرة منذ معرض النحات بسام كيرلس الأخير في المدينة. ها هو اليوم يعود الى جمهوره اللبناني في "آرت سبايس" )الحمراء( بمنحوتات، هي مجسمات ومعلبات تصب كلها في مشاريع سكنية تشبه العمارات على العظم، حيث لا شقق ولا نوافذ ولا أبواب ولا اضواء تدل على ان الحياة تتسرب داخل الجدران وتولّد الشعور بالانفراد والحميمية والحرية في مسكن او مكان او مخدة يسند اليها الرأس تعبه في ايام الشدة.
نحن امام اللون القاتم للباطون المسلح، الالمنيوم او المواد المختلفة، وهي كلها تصب في النتيجة نفسها، اي البناء المتشابه. لكأننا امام قوالب محيّة للذهن، حاملة مأسوية فرضية تتقاسم المشاعر الدرامية. نسخ متشابهة تختلف فقط برؤوسها المقطوعة وفق تقسيمات عشوائية احيانا، او مدروسة احيانا اخرى. نسكنها أو سكنّاها؟ الجواب في رؤية النحات الذي يحذّرنا من مسكننا المقبل، عندما يحين الزمن للاختباء في اللامخبأ.
المعرض الذي تتوزع بناياته القاتمة على ارتفاعات متفاوتة وبعيدة بعضها عن بعض، متكئة او مسترخية على قواعد لا تدّعي الارض والثبات والامان والموقع في خريطة تقوم بدور المدينة او المنطقة المختارة في قلب ذلك الوطن. الصالة مريحة، فسيحة، لماعة، ومضيافة. التنقل بين المعروضات سهل ويحترم خصوصيات كل منحوتة او مجسم، حتى ولو بدا بعضها ناقصا من حيث تخطيطاته وتقسيماته الافقية والعمودية. نذكر ان بعضها يشبه قليلا خيم الاجداد او الشعوب البدائية في اقاصي العالم فيعيد بعضا منها الى الاذهان او يفرغ اخرى من اقسام دمرتها الحروب والكوارث الطبيعية بحسب مزاجية مفاجئة متأثرة ببصمات الزلازل والعواصف والعداوات الحربية القاتلة.
المعرض، الذي يستمر الى نهاية ايار، يذكر صفحات من معاناتنا القديمة والمتوقعة في مواسم متلاحقة تنطوي على القليل من الفرح والكثير من المستقبل القاتم والفراغ في العصب الحياتي داخل صناديق تختزل مآسي شعوب ترزح تحت وطأة الحوادث الطبيعية او المصطنعة. كأنها تريد فتح مزدوجين كي تدخل في طياتها كل المتوقعات. لا اعرف لماذا قفزت اليَّ رؤيا تتوقع فاجعة ما او تتنبأ بقدر ما، قد يترجم عمارات كيرلس المفرغة من الداخل والممزقة من الخارج.
الطرح التجاذبي والمأسوي سيزول لتحل مكانه شلالات من الضحك داخل مربعات مفتوحة امام الهواء الذي يهذي ويصرخ ويصمت وفق أمزجة مقبلة من خلف الخرافات والأساطير والوقائع او من صور ناطحات السحاب وبرجي مركز التجارة العالمي اللذين تساقط في 11 أيلول 2001 ، او تركيبات أو أشكال مفككة تصب في تشكيلات حديد صدئة تقترب هيئاتها من مخلوقات محرومة من صخب الحياة.
الأعمال مرتاحة في الطبقة السادسة من مبنى عرفناه جميعا في الحمراء، استقبل في طبقته الأرضية مقهى "هورس شو" وشهد للحركة الثقافية التي عمت بيروت في الستينات.
نعيشه هو الحقيقة البحتة في عالم هو الوحيد الممكن. كيان إنسان كيريللس خلع آنيته، تخطى جسده بعد أن عاش ظلماته القصوى ليتغلغل في جسد العالم مصفحا بوعيه التام بأن العالم بالصيغة الرديئة التي نعيشها قابل في أية لحظة ولأي أدنى سبب للتحول، ليس إلى نقيضه فحسب، بل إلى ما لا يتسع الخيال البشري لتلقفه.
ويدرك إنسان كيريللس، الحاضر في جميع منحوتاته بشكله البشري أو في هيئة صروح ومبان وساحات متعرجة، أن هذا الوعي كان سيستحيل حدوثه لولا وصوله إلى مستوى متقدم من التطور.
وما التطور إلاّ هذه الحالة الهجينة التي انصهر فيها الروحي مع التقني، وهكذا أصبحت الشيفرات الإلكترونية والتيارات الكهرومغناطيسية في عالم الفنان لغة الإنسان الأكثر إنسانية وليس العكس على هوى ما يراه معظمالحذرين من التطور المعلوماتي والتقني.
صمت متقع
تذكر أعمال الفنان اللبناني بسام كيريللس بأفكار الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، لاسيما تلك التي تتعلق بكوننا كبشر نعيش في عالم تحكمه صور هيولية كاذبة لا تعكس واقع الوجود، أو على الأقل لا تعكس إلاّ نسخته الرديئة. وفي حين يبني جان بودريار صرحه في كتاباته وفي مجموعة صور فوتوغرافية رائعة، يصيّ كيريللس عالمه بالمادة، “المادة” الصلبة كالباطون والمعدن والنحاس والألومنيوم، أما بلاغتها -أي بلاغة الأعمال- فمُتأتية من أنها في كينونتها وتجلياتها البصرية أثيرية/ مفهومية/ فلسفية/ روحية مجسدة من، وبعقر دار المادة الأكثر برودة وصلابة، ومن هنا أيضا نعثر في أعماله على تلك الخصوصية المعاصرة التي تلفح جميع أعماله.
المكان عند كيريللس هو الوجود وليس الجغرافيا ومن هذا المفهوم بشكل خاص تنطلق أعماله خارج ذاتها لتلامس المُجرد والغيب لتحتفي بحضورهما حضورا طاغيا.
أما الزمن فهو عند كيريللس بسرعة الضوء التي “تلوي” المعدن والمواد الصلبة وتتكثف في قطع نحتية متقاطعة ومنفصلة عن بعضها البعض لتؤرخ زمنا مضغوطا ومتوسعا في آن واحد، هكذا تبدو أعماله كلها وكأنها انبثاقات وليس تحقّقات دنيوية ملزمة بقوانين أرضية.
ويتمثل هذا الانبثاق فنيا في حالة التفجر الدائمة في أعماله حتى في تلك الأعمال التي توحي بأنها ثابتة وغائصة في صمت متقع، تفجرا يذكر بتشظي القنابل وبحدة رؤوسها التي لا يعتريها تبدل مع مرور الزمن وتحمل في مشهدها آثار الجراح التي سببتها أو أخفقت في تحقيقها.
تأخذنا أعمال بسام كيريللس إلى الفيلم الشهير “سفير” أي “فلك”، حيث يصبح الإنسان صانعا لعالمه لحظة التفكير فيه، فما يشعر به يراه وما يخاف منه أو يتمناه يتجسد في هيئة واقعية تامة، واقعية تفرض عليه الشكوك وسلسلة من المواجهات النفسية مع الذات بغية السيطرة على قدره والخلاص من حتمية العوالم الجحيمية التي يخلقها عقله وتنشئها مخاوفه الأكثر عمقا في لاوعيه.
وكما في فيلم “فلك” يعطي الفنان اللبناني للمطلق جسدا ويهب للشك وجها، ويعطي للافتراضية قالبا معدنيا صلبا، أما الشفافية التي لا بد من وجودها في عوالم تتحدث عن الخفي والمستقبلي والغيبي فيفوّض الفنان أمرها وأمر تظهيرها لمادة “الرزين” التي تكاد تكون “مادة” الوعي في نص بسام كيريللس البصري.
ولا ينحى الفنان في مجمل أعماله إلى التشاؤم، فنفحة الأمل مُتأتية من وسامة الوجوه أو الأقنعة التي ينحتها، حتى أقنعة كيريللس هي حقيقية وصادقة وهي خلافا لما تعنيه الأقنعة تبدو كأنها “زبدة” لروح وقد طفت إلى سطح الوجوه.
ونذكر هنا العمل الذي ينحت فيه وجها في فلك يمثل كوكب الأرض وقد أنسنه بسام كيريللس وأعطاه وشاح النبل والأمل، فإذا به ينطق وكأنه يقول “أنا المادة التي تفكر”، إنها معجزة الحياة في لوحاته المنحوتة وقد تخطت حدودها المادية/ الآنية.