عدنان يحي فنان فلسطيني لوحاته منفذ وجع للتاريخ و الذاكرة و بلسم أمل للحرية القادمة
عدنان يحي فنان فلسطيني لوحاته منفذ وجع للتاريخ و الذاكرة و بلسم أمل للحرية القادمة
لبشرى بن فاطمة
"الفن الحقيقي هو ذلك الفن الذي يلتزم بقضايا الواقع الإجتماعي" بهذه المقولة لماركس ننطلق في رحلة فنية مشبعة بذاكرة الجغرافيا الموجعة و مؤسسة على ثنائية المقاومة و الحرية، هي تجربة الفنان التشكيلي الفلسطيني عدنان يحي الذي خزّن من خلالها آلامه و ذاكرته و شكّلها ضمن مشهد مغرق في الأمل و التفاؤل رغم تراكم الأوجاع و الظلم فهو لا يسطيع أن يوقف الموت و القتل
و الجرائم لكنه تمكن بفضل حسه الفني و وعيه و إدراكه أن يعيد كتابة الفعل الطغياني و ينشد ملحمة النضال في تجل فني عميق مكّنه من إضافة إسمه إلى قائمة المناضلين الأحرار الذين قهروا بشاعة الظلم بصناعة الفرح الذي ابتدأ حين دوّى الجسد ليصبح عدنان يحي رائدامن رواد الفن التشكيلي الملتزم بقضيته الأم "القضية الفلسطينية" بكل أبعادها و رموزها و تحدياتها و تاريخها
و اقترانها بفكرة الحرية و الكرامة و الإنسانية، فلوحاته كانت كما عبّر هو عنها "مزيجا من الذاكرة و التاريخ و ديكتاتورية الجغرافيا هي وثيقة ضد العدوان و الغطرسة و السلطة لأن الفنان الذي يعمل وفقا للسلطة في أي بقعة في الكون يخذل نفسه و فنه و يقاتل ضد الأحرار و ضد البشرية".
عزف بألوان المأساة على أوتار الذاكرة الحزينة
ولد الفنان الفلسطيني عدنان يحي بمخيم الوحدات في مدينة عمان بالأردن سنة 1960 عائلته الفلسطينية هجّرت عقب نكبة 1948 لتصبح لاجئة بالأردن و في ظل هذا التشريد و المأساة نشأ عدنان يحي و ترعرع طفلا ناضجا قبل الأوان و شابا ثوريا متحررا و مشبعا بفكرة الوطن و اللجوء و حق العودة فكان الفن سلاحه للتعبير،حيث درس فنون الرسم و التصوير بمعهد الفنون الجميلة بعمان سنة 1979 كما درس بمعهد إعداد المعلمين سنة 1980، قام بتدرس التربية الفنية ثم تفرغ للعمل الفني الذي استطاع من خلاله أن يفجر الأعمال الإنسانية التي سردت تاريخ شعبه و أوجاعه
و وثقت مساره النضالي الشرعي، ففسّر أحاسيسه وفق رؤى تميز الواقع و المحيط و خلفياته التي نبع منها لأنه تجاوز اللغة المجردة بفنه ليبلّغ به أفكاره و يمكّن غيره ممن عايشوا التهجير و النكبة و النكسة و التشريد و المجازر و الإحتلال، و من يلتزمون بالقضايا الإنسانية من إدراك ما يعبر عنه ما يطمح لإبرازه من حجم الألم الممزوج بأمل عميق و متواصل.
استطاع الفنان عدنان يحي أن يمنح الأفكار ما يناسبها من الوجود المحسوس لتحرك الحواس و تأثر في الفهم الإنساني للفن الجمالي العميق فقد قام عدنان يحي بنضال جعل الفن أداة صراع و تمرد شكّلها و طوّعها لتصبح فكرة فنية جديدة وليدة الألم و المجازر و المأساة و الإغتيالات التي أطاحت برموز تحولوا هم أيضا إلى فكرة و كانت حياتهم ثمنا للحقيقة أمثال ناجي العلي و غسان كنفاني... و وسط هذا الحزن الداكن استطاع عدنان يحي أن يعبر بالذاكرة و الألوان إلى الفكرة البصرية المحسوسة ليوصل المعاني و المضامين التي اختزنها إلى شعبه الصابر و إلى كل إنسان حر لتصبح اللوحات منفذا للتفكير البصري و نبش في ركام الحقيقة و المعاناة التي تعايش يوميات الفلسطيني داخل أو خارج الأراضي المحتلة كاشفا عن الظلم السياسي و الإجتماعي.
و قد كان لكل هذا الإحساس العميق الذي جسده عدنان يحي في لوحاته كثير التأثير على الفنان نعيم فرحات الذي اقتنى منه عدة أعمال وصلت إلى 15 لوحة ضمّها إلى مجموعة "متحف فرحات"
عرّف بها خارج الوطن العربي و خاصة في أمريكا و من هذه المجموعة التي تضم أيضا أعمالا متنوعة إنسانية ل عدةفنانين عرب و منها لوحتا *الجنرال التي أنجزت سنة 2006 بمقاييس 245/122 و هي لوحة زيتية تمثل سقوط الجندي الأمريكي في مستنقع العراق و هي تقزيم لمن استقبل الجندي الأمريكي في العراق كما تظهر كائنات حشرية شبيهة بروايات ديستوسفكي ذات بعد سريالي رمزي، و *لوحة عن حقوق الإنسان في العالم و خاصة بفلسطين أنجزت سنة 1996 و هي تدل على التكريم و التقدير و الإعتزاز بالوطن و بالفلسطيني الذي استطاع رغم القهر و الإنتهاك
و المجازر أن يستمر واقفا متشبثا بجذوره الراسخة.
و يعتمد يحي في لوحاته على عدة رموز منها لحظة الإنتظار البارزة التي انعكست في الخط و اللون المتسع فوق السطوح و في مقامات الحزن التي تفيض حكايات فلسطينية موجعة تفتح مجرة الألم و تستقوي بالأمل الدفين خلف الوجوه الباكية التي تسترد ذاكرة الوطن و تنفث فكرة المقاومة،
ثم الحرية المجسدة في اتجاهات واقعية تعبيرية رافضة لجميع أشكال الظلم و الجور الإستعماري
و ذلك بتنويع الخطوط و الألوان المتداخلة في مدارات الألوان الداكنة بين الأزرق و الأخضر
و الرمادي الواسعة بحجم المجازر موزعة في مساحات لونية متداخلة مدعمة بنكهة سريالية مفتوحة على الفجيعة الفلسطينية تستذكر المكان و المغتصب في مختلف أرجاء الوطن و تستحضر ما حصل في العراق في فلسطين و في لبنان...
و نجد أيضا صورة الأم الفلسطينية و هي ترد مع جملة الشخوص الفردية الصاعدة من مخيمات البؤس المهمومة في ملامحها و تقاسيمها الجزئية ذات التراكيب الحسية المبنية على إضفاء جمالية للحزن، لقد تمكن عدنان يحي من أن يثبت أن الإلتزام الفني هو تبرع بكل المحبة نحو الإنسان و هو شهادة على العصر الذي يعيش فيه الفنان فعدنان يعتبر أن الإلتزام موسوعة تكاد تكون بحجم الكون و فيه كنز و صيرورة ذاتية و تقدم نحو اللحظة الحاضرة لبناء المستقبل الإنساني الجميل فهو إقتراب من الحقيقة و الحرية في إنجاز العمل الفني الذي يكشف عن قضية مهمة و هوية واضحة.
و من خلال هذا الإلتزام استطاع عدنان يحي أن يسمو بالواقع في رقي تجاوز قسوة الذاكرة الإستثنائية المطبوعة في ذهن كل فلسطيني و عربي و إنسان عانى الظلم و الطغيان.
قساوة تشكيلية جارحة على ايقاع الجمال الانساني بقلم لما فواز حمزة
الجاذب في لوحات عدنان يحيى التي تحمل في مكامنها مذاهب و دلالات و مدارس رمزية و تشكيلية متعددة ان في رمزيتها أو مقاربتها للنحت أو في لحظها فن الكاريكاتور أن لها فاعلية واضحة من التجديد,و هذه قد يصعب الجمع بينها في معرض واحد و في صهرها و دمجها,حيث استطاع يحيى أن يتجاوز هذه المعضلة الفنية على وقع قسوة و حرارة موضوعه الانساني الذي بقي هو الكائن الحقيقي للوحة,و هنا مرارة يحيى في اختزال عمله المتعدد المذاهب و تذويبه في القضية الانسانية حيث المعنى يسبق الصورة ما يفيدنا من أن حساسية الموضوع و مرارته الانسانية رشحت من لوحته التشكيلية ما انعكس على المتلقي سهولة في كشف وجع اللوحة الانساني القائم على تناقض مذهل و مخيف بعدم التساوي الانساني.
المهم في سيرة عدنان يحيى أن قضيته الفلسطينية لم تحول لوحته الى خطاب سياسي مباشر لا بل عالج هذا الموضوع أولا بمفهومه الانساني دافعا به الى أقصى درجات الفن,و قد مزج القلق بالرموز,ليعبر عن انفعالات و خلجات النفس البشرية المتألمة و ما تعانيه من قلق و صراع,فجاء فنه كرسالة للعالم الخارجي:في هذا العالم ظلم..قساوة..ألم و دمار...
من يتأمل في لوحات عدنان يحيى,انما يتأمل في تاريخ شعب بأكمله.فتجربته الانسانية مشبعة بالذكريات و بتسلسل الأحداث:المجازر التي شهدها,التهجير,القتل ,النفي..الاضطهاد و الظلم المتواصل عبر عنها يحيى بالرموز و الخطوط و الألوان التي تبدو لاذعة و محرقة أحيانا,و ساخرة كاريكاتورية أحيانا أخرى,و مجدولة على ذاتها ككتلة مشدودة يتداخل فيها التشكيل بالنحت لتأتي كأنها عمارة فنية مجسمة و منمنمة بأناقة القساوة الجمالية الجارحة.
أما في الخزفيات فقد اتجه الفنان التشكيلي الى لغة نصبية خزفية عامودية التشكيل مبنية من الأسفل الى الأعلى مرتكزا على مجازر تاريخية ارتكبت بحق الفلسطينيين و اللبنانيين(غزة-قانا-جنين-القدس-صبرا و شاتيلا,وخزفيات مستوحاة من قصائد الشاعر الراحل محمود درويش).
هذه الأنصاب اعتمد الفنان على بنائها تدريجيا من قاعدة حولها الى شاهد قبر مذكرا بتاريخ المجزرة معتمدا الألوان القاتمة للدلالة على الواقع المأساوي لهذه المأساة,ثم شيد فوقها منصة متصلة تشي بتحول من جراء هذه المأساة الى حروفية متشظية كما في نصب-قانا-و نصب-جنين- المتشابهين في التأليف ووحدة الموضوع ليشيد في أعلى الأنصاب هذه آنيات متنوعة لكل مدلولها التفاؤلي المتصل بالضوء و الخروج الى الأمل و الى الحياة لاعادة رفض الظلم و القهر الذي لحق بأطفال و نساء و شيوخ القضية الفلسطينية و اللبنانية.ففي لوحة قانا الآنية التي جاءت على شكل تمثال الحرية الذي يمثل العالم الحر و التي تحولت الى خوذة عسكرية باسمها ترتكب المجازر بحق الطفولة و الانسانية,بينما الآنية في نصب جنين حولها التشكيلي يحيى الى جغرافيا أرضية و الى طائر يستغيث الى سماء,بينما حروف جنين تتشكل كخارطة أمل لفلسطين,أما في نصب القدس يستغل الحرف للدلالة القسوى على عروبة القدس من خلال صياغة حروفية تاريخية و محولا الآنية العليا بتجريدها الدائري الى قبة تجريدية دائرية,و كذلك في الخزفيتين المستوحاة من شعر درويش.أما نصب صبرا و شاتيلا و التي تمثل و تجسد فكرة الفنان التشكيلي يحيى و ان بمقاربة قاسية و جميلة مختلفة عن الآنيات التي ذكرناها,بحيث نرى الآنية الخزفية تتصدع لتخرج منها اليد الطينية البيضاء و كأنها تبعث من جديد للبحث عن حقيقتها ضد الموت الظالم.
ينحو التشكيلي يحيى في نصبه الخزفية الى تشكيل جديد غير مألوف,فالنصب عنده خارج اطار الجمال المعلق في الفضاء ,لا بل اتخذ منحى و توجه مرتبط بمجازر وقعت ضد الانسانية و أعاد تشكيلها من تحت الى فوق,من موت الى أمل,من قهر الى حقيقة...كأنه يعيد تشكيل المأساة بأمل جديد.
لوحات و خزفيات التشكيلي عدنان يحيى طالعة من تجاربه و مراحله المتصلة بدراسته ووعيه و يده,ما جعل من معرضه تجربة تتشكل كمحطة بارزة في مسيرته الفنية المصاغة بتقنية عالية