Article from Nassib Nemer
أديب لحود (1885-1964) بقلم: نسيب نمر عضو المجلس الثقافي في بلاد جبيل
حين سألني رئيس الرابطة الثقافية في بلاد جبيل الأستاذ نسيب عازار: عمن تود ان تتحدث من ادباء بلاد جبيل الراحلين ومفكريها في برنامج تكريم ذكراهم أجبت: عن اديب لحود.
ولو سألني عن السبب لقلت: ذلك انه كان معلما ً الى جانب كونه اديبا ً وشاعرا ً وصحافيا ً ومؤلفا ً مسرحيا ً، وانا من الذين يعتبرون العرب على حق يوم اطلقوا على ارسطو لقب المعلم الأول، والفارابي المعلم الثاني، تقديرا ً منهم للعلماء والمعلمين على ضآلة تقديرهم في عصرنا الذي نعيشه، وهو عصر انحطاط خلقي مريع يلف لبنان كله وينيخ بكلكله عليه ويكاد يفقده كل شأو ثقافي وحضاري بلغه وكل تطور علمي حققه واصابه بعدما ابتعد البشر عن الحضارة بالمقدار الذي تقدموا فيه نحو المدينة او اكثر.
فالمعلم - على نطاق المدرسة الضيق ونطاق المجتمع الواسع ونطاق الانسانية الأشمل - انما هو في مذهبي، الشمعة المعطاء المحترقة عن صدق وايمان لانارة سبيل الآخرين، والبذل السخي الذي لا يطلب جزاء او شكورا ً عندما يفيض على الوجود، والرحيق المعطي من ذاته الى ذات سواه سعيا ً وراء افق حضاري رحيب ونزعة خلقية مثلى هي خدمة المجتمع الانساني افرادا ً وجماعات، وتطوير الحضارة البشرية جزءا ً وكلا ً، ورفع منائر المعرفة ضوء مصباح حكيم وشعاع شمس سني حتى تكون السيادة للعقل قبل الانفعالية، وللمنطق الممتزج بالشعور، والعلم المقترن بالخلق. وبغير قدرة فكرية تنتقل الى قدرة واقعية او تخالطها وتمازجها، ليس لنا توقع حرية تعلو منائرها وتضيء، وترقب عدالة تعلو قبابها وتنير، ورؤية انسان يعي انسانيته بابعادها الكاملة عبر متاهات الحياة المعقدة المتشابكة ووسط تحديات العصر القلق على اختلافها.
واذا كان الفيلسوف معلما ً فخليق ان يكون المعلم فيلسوفا ً، فما يقوم به هذا وذاك واحد من الناحية الكيفية تقريبا ً وان هو على تباين كمي. كلاهما مسؤول عن تفتح عقل مغلق، وانارة دماغ مظلم، وفك لسان مفيد، والانة عاطفة خشنة عنيد، وتعبيد مجال رحب بعيد امام السعادة الملموسة واما السعادة المجردة فلا وجود لها ككل شيء في الوجود حيث الحقيقة ملموسة أبدا ً.
الفيلسوف والمعلم كلاهما مسؤول عن تمهيد الطريق امام الحرية الحقيقية التي تجعل البشر يعرفون الضرورة ويعون ذاتهم وذات الآخرين، ويربطون في علاقة جدلية موضوعية بين المتعة الخاصة لانفسهم والمنفعة الاجتماعية لذاتهم وسواهم، وكلتاهما تنهضان على مرتكز واحد بمعنى ما.
واذا لم تكن هذه رسالة المعلم فما رسالته؟ واذا تخلق المعلم بغير هذه الميزات الضرورية لكونه فبماذا تراه يتخلق حتى يستحق عن جداره وواقعية لقبا ً جعل العرب صاحبه رسولا ً، وجعلوا من يفيدون من علمه وادبه عبيدا ً، رغم اني اعتبرهم له اخوانا ً ولدربه رفاقا ً نظرا ً الى كرهي للعبودية حتى بين الانسان والآلهة ذاتها.
واديب لحود من اولئك المربين الذين نفعوا واجتهدوا وجهدوا فنفعوا، وتعبوا وشقوا فأفادوا، وغزر علمهم فازداد تواضعهم واندفاعهم نحو خدمة نشء في زمن ساد فيه الجهل وكثر الظلم، واستشرت العبودية على اختلافها، وتعاونت الاقطاعيات السياسية والعقارية على ابقاء الجاهل جاهلا ً والامي اميا ً معتمدة في ذلك قول ابن عباس: ما ضل قوم قبلكم الا بالكتابة، فلم يجد وزملاء له غير العلم سبيلا ً للتحرر وطريقا ً للتقدم ودربا ً للحرية، فكان ذلك المعلم الذي تعرفون، والاديب الذي بمآثره نحتفل وتحتفلون، وذكراه نخلد وتخلدون، وهو اضأل واجب واضعف ايمان منا ومنكم نحو الذين حملوا الحضارة على مناكبهم منذ بزوغ فجرها وما يزالون، عنيت بهم المعلمين والمربين ورجال الثقافة والفكر في وجه عام.
الرجل
ولد اديب لحود في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني العام 1885 في بلدة عمشيت قضاء بلاد جبيل، وتوفي في الخامس من الشهر نفسه العام 1964، فكأنه وهذا الشهر على موعد فيه ولد وفيه مات، وبين الولادة والموت اجيال من التلامذة تخرجوا على يديه وفي مدرسته.
كان خليقا ً بالرجل ان يكون مستثمر ارض او مالك عقارات، فالمحيط الضيق المتزمت الذي عاش فيه كان يدفعه الى ذلك دفعا ً ويغريه به كما اغرى سواه، غير ان سلطان العلم اذا تملك الانسان ملكه، واذا سيطر عليه جعله طوع بنانه ورهن اشارته، والعلم الاصيل لا يتفق مع ما كان المحيط الضيق يدفعه نحوه دفعا ً، ذلك ان المحيط الأوسع والأشمل كان في نفسه اقوى مراسا ً واشد تأثيرا ً واكثر سيطرة وجاذبية.
في مدرسة الحكمة انهى دروسه العام 1904، متتلمذا ً على المعلم سعيد الشرتوني، والخوري يوسف الحداد، وعبد الله البستاني، وهم من اثمة الأدب واللغة المعدودين. وكان بين زملائه على مقاعد الدراسة جبران خليل جبران والاخطل الصغير ووديع عقل وامين تقي الدين وغيرهم ممن قذفت بهم الحكمة ادباء ومفكرين وفلاسفة وشعراء خدموا العربية خدمات جليلة، وصالوا فيها صولات ابقت لهم آثارا ً صعب زوالها، وكانوا من اركان النهضة وعصر الانبعاث.
ولعله اقتبس من بعض معلميه - وهم ما هم عليع من ادب وعلم وتأثر بالنهضة الحضارية وعصر التنوير في بلاد الغرب - ما جعله يهيء نفسه واحدا ً في قافلة الادباء والمعلمين والمفكرين اللبنانيين الذين بفضلهم اساسا ً تمكنت العربية، على نطاق عالمنا الرحب هذا، من العودة الى ازدهارها بعد انحطاط وظلام وعبوس استمرت قرونا ً واجيالا ً.
في الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى كان الجهل مخيما ً والتجهيل الموجه هو السنة المعتمدة. فالاحتلال العثماني للبلاد العربية اثر في لبنان وابنائه كما في البلدان الأخرى. الا ان اللبنانيين الذين فتتوا الصخر وذللوه جاعلين منه ارضا ً خصبة معطاء، وفجروا الأرض ينابيع تجود بالغلال واسباب العيش والبقاء، وملأوا الدنيا القريبة والبعيدة نشاطا ً وكدحا ً وانفتاحا ً، لم يذعنوا لسياسة التتريك والعثمنة المسلطة عليهم، فحملوا لواء اللغة العربية خفاقا ً في سماء المعرفة، وجعلوا من الحرف شعاعا ً يضيء الزوايا المظلمة، واستطاعوا هكذا ان يكونوا رواد العصر الأدبي الحديث، ففتنوا دنيا العرب وفتنوا الناس، بعدما افتتنوا بما تملكه العربية من مقومات الحياة ومرتكزات الخلود وبنيانية الابداع.
في هذه الأعوام العجاف رأينا أديب لحود ينشىء مدرسة داخلية اسمها "المدرسة الوطنية" في مسقط رأسه عمشيت، اخذت على عاتقها تربية النشء تربية وطنية وثقافية وعلمية متفتحة، مسهمة في احياء اللغة والأدب العربيين – وكانا مهددين بتيار الثقافة التركية والاجنبية وسمومها - طيلة ثمان وثلاثين سنة. والى جانب العربية اهتمت بتدريس اللغات الفرنسية والانكليزية والايطالية والسريانية، وتخرج منها عدد كبير من الأدباء والشعراء والمفكرين بينهم من هم على قيد الحياة وبينهم من انتقلوا منها خالدين.
واسهم في تحرير جريدة "الحكمة" وجريدة "بيبلوس" من 1909 الى 1913، وهو من اوائل الذين نقلوا النشاط المسرحي من بيروت الى الجبل بتأليفه فرقة تمثيلية من طلاب مدرسته، ولولا التأخر الذي اصاب المسرح بانتشار دور الافلام المتحركة ولاسباب اخرى، لكان لمسرحياته شأن غير شأنها اليوم. وعين العام 1916 مديرا ً للدروس العربية في المكتب العثماني في بلاد جبيل، كما درس الادب واللغة في المدارس والكليات الآتية اسماؤها: كلية الأباء اليسوعيين في بيروت، مدرسة الأخوة المسيحيين في طرابلس، مدرسة الحكمة في بيروت، مدرسة عينطورة، مدرسة ميفوق، مدرسة الآباء المريميين في جبيل، كلية الشويفات، كلية طرطوس وغيرها.
هذه اللمحة الموجزة عن الرجل تظهر لنا كم هو عميق ذلك الجهد الذي بذله، وكثيرة تلك الأجيال التي تعهدها بالعلم والثقافة والتربية، وكم هو كبير ذلك النفع الذي لم يرض به محدودا ً او حكرة بل اراد له ان ينتشر ما وسعه الانتشار، وهذا اخلاص للرسالة وملازم لها، ذلك ان من قارف حكرة في علم او ادب او فكر ملكه بعد نهي العقل اياه كانت كل عقوبة واجبة عليه وكل قصاص له حياة.
آثاره
لاديب لحود آثار كثيرة متنوعة، ونشاطه لم يقتصر على الأدب والشعر فحسب، بل تعداهما الى التاريخ والجغرافيا والمسرح والاجتماع والعلوم وما شابه.
ولكنه مع تنوع نشاطه وتعدد وجوهه وجوانبه واتساع رحابه، برز في حقل التعليم والأدب، ثم في ميدان الشعر. واما المسرحية فقد أدخلها نطاق الاتجاه التقريري في الأدب مبتعدا ً بها عن الجمالية الفنية الحديثة، اذ تمتاز مسرحياته بلونها الأدبي القديم، ولا تتعدى غائيتها النزعة التعليمية في نهاية الأمر.
وله آثار مطبوعة عدة هي الآتية: الدوحة العمشيتية تاريخ عائلات عمشيت - حضارة العرب في الجاهلية والاسلام: يتحدث عن قبائل العرب وعاداتهم وتقاليدهم وروائعهم وابنيتهم وقصورهم وفنونهم - نيل الأرب في تاريخ العرب كتاب وضع ليكون في متناول كل طالب واديب ويبحث شتى الموضوعات الأدبية. العادات والاخلاق اللبنانية: كتاب اجتماعي يعرض جميع العادات والاخلاق اللبنانية: كتاب اجتماعي يعرض جميع العادات التي درج عليها اللبنانيون في الحفلات المختلفة كالمآتم والاعراس والولادة والعمادة وغيرها وتقاليدهم في الاعياد والمناسبات الدينية والدنيوية - واما مؤلفاته المخطوطة فهي التالية: رفيق الكاتب في ثلاثة اجزاء يبحث الكلمات التقنية في اللغة جزؤه الاول يهتم بالارض والثاني بالسماء والثالث بالحيوان، وللكتاب جزء رابع اسمه فوائد رفيق الكاتب - دروس اشياء حديثة: وضع بطريقة واسعة وجديدة اذ جمع الكتاب بين دفتيه العلم واللغة - جغرافية لبنان الابتدائية والتكميلية: كتاب مدرسي اسلوبه جديدومشوق ومواده وافرة - جراب الادب: كتاب حوى الكثير من النوادر والملح والفكاهات لقتل السأم والافادة في الوقت نفسه. وله تعريبان عن الفرنسية الاول بعنوان تاريخ الالزاس والثاني قصة ابن آوى، الى جانب درجات القراءة الفرنسية للصفوف الابتدائية التي طبعت سنة 1909، وقد جاءت مؤلفاته الفرنسية معززة بالرسوم وهي خاصة بالصغار. ووضع روايات عدة نثرية - شعرية مطبوعة مثل: لبنان على المرسح: قصة ما عاناه اللبنانيون من عذاب والم في الحرب العالمية الأولى - الفتاة المفقودة: خلاف بين زعيمين عربيين يؤدي الى اختطاف ابنة احدهما - الشهامة والشرف: رواية عربية فارسية عن فتاة أبت ان تستسلم لابن زوجها المتيم بها. القديسة برباره العذراء الشهيدة:رواية دينية - امرؤ القيس والفتاة الطائية: رواية عربية تصور الذكاء العربي الفطري -زينب الزباء: رواية تصور الطموح العربي عند المرأة العربية ودهاءها السياسي - بشر بن ابي عوانه: رواية الشجاعة في خدمة الحب والكرامة - كما وضع روايات عدة مخطوطة مثل: خطيب اخته والكندية الحسناء، والحاجة علياء فرنسيس، وحسناء الاندلس، وقاتل اخيه، والشهامة والتضحية، وتيوفان بطل الاستشهاد، والروايات الهزلية الآتية: الاخوان ومعاون طبيب الانسان، وعنفيص الراعي، ودعيبس والجابي والمحاميان، والخادم الأبله، وقرياقوس البخيل، والخليفة الموهوم، وزواج زنزبا، ودعبول وزقزوق.
وقد امتازت آثاره ومؤلفاته بلغتها العربية الاصيلة القوية واسلوبها السهل الذي تسميه العرب بالسهل الممتنع، اما غايتها فالتربية والتعليم والنقد البناء دونما اهتمام بالجمالية الفنية كما ذكرنا، وهي ذات هدف اساسي، شأنها شأن مؤلفاته الأخرى، هو خدمة العربية، لغة واسلوبا، وحمايتها من الضعف والركاكة والعجمة حتى على حساب السهولة والبلاغة احيانا ً.
المعلم
ليس يشك احد منا في ان مهنة التعليم من اشق المهن واصعبها، ولا سيما بالنسبة الى الذين ادركتهم حرفة الادب، ولسنا الآن في مجال الحديث عن مشاقها والخوض في متاعبها، والشوق لا يعرفه الا من يكابده وكذلك الصبابة، الا اننا مضطرون للاعتراف بان المعلمين وارباب المدارس ينقسمون الى انواع عدة، فبينهم من يجعل المدرسة تجارة كتجارة المرء بالبضائع والسلع المختلفة، وبينهم من يعتبرها رسالة تقرب من رسالة الرسل والانبياء، وبينهم من يتخذها وسيلة معاش فحسب.
واذا القينا نظرة على مدرستنا الحديثة الفيناها بحاجة قصوى الى سوط الناصري يلهب اقفية اللصوص وظهورهم على ما يقومون به من تجارة بالحرف والكلمة والكتاب، وما يرتكبونه من جرائم بحق الذين لم تتيسر لهم الامكانات المادية الكافية لانتهال المعرفة وتعلم صناعة الكلمة والحرف.
ولعلنا اذ نحتفل بذكرى معلمينا الاوائل نتوخى ان نجعل من هذه المناسبات مهمازا ً يدفع بالمسؤولين عن الكلمة والحرف في لبنان الى انتشالهما من ايدي اللصوص والكهان والفريسيين حتى تكون لهما قدسيتهما وصوفيتهما في الواقع كما في الضمير الانساني.
واديب لحود، كمعظم المعلمين الاوائل، اتخذ المهنة التعليمية رسالة تقرب من رسالة الأنبياء والمتصوفين والمثاليين، وعندما يكون المعلم من طراز كهذا يصح فيه قول شوقي: كاد المعلم ان يكون رسولا.
فالبرغم من الوقت الطويل الذي عاشته مدرسته الوطنية في عمشيت، وبالرغم من المدارس الكثيرة التي عرفته معلما ً ومربيا ً، لم يستطع ان يجني سوى القليل والكفاف، في حين نرى بعض تجار المدرسة والحرف يتحولون بين ليلة وضحاها من حال الى حال، فاذا هم اصحاب ثروات كبيرة وارصدة طائلة يجنونها على حساب اولئك الذين دفعت بهم الحاجة الى احضان المدارس - المتاجر واوقعتهم في احابيل اصحابها ذوي النفوس المريضة بحب المال والذهب والفضة، حيث لا يلقون غير الابتزاز المنظم والنهب المصان بقوة الحق والقانون، حتى كدنا نقول ان من لا يشبع ليس طالب علم وطالب مال وجمال فقط وانما طالب تجارة وربا حرام من سبل العلم والتربية، وعن طريق المدرسة والكتاب والحرف.
على الضد من ذلك كان اديب لحود ينفق مما يملكه على شؤون مدرسته في عمشيت، فجعل القسط الدراسي السنوي ليرة لبنانية ونصف الليرة، معتبرا ً مهنة التعليم رسالة سامية لا تجارة رابحة، وهدفا ً خلقيا ً يحتذى لا مشروعا ً تجاريا ً يربح ويستثمر، وكلمة تدخل عقلا ًفتنير لا درهما ً يدخل صندوقا ً عميق الجوف فيدفن فيه ويحنط.
واذا نوادر المعلمين كثيرة ذكر الجاحظ معظمها بروحه التهكمية واسلوبه اللاذع، فان اديب لحود كان من الذين استطاعوا الافلات من نوادر جاحظنا، فلم يذكر عنه ان ممارسته التعليم مدة طويلة قربت عاداته من عادات التلامذة، كما لم يذكر عنه انه وقع في خطر فرض الرأي كما يفعل حكم الفرد، وهو خطر يتعرض له المعلمون اكثر مما يتعرضون الى خطر آخر، بل كان يحترم شخصية الطالب وينميها، ويدفعه من ذاته الى الميادين الفسيحة عن طريق الترغيب لا الترهيب، وباستخدام الاساليب الحافزة لا الآمرة الناهية، على ما يتحدث بعض تلامذته القدامى.
فقد كان تعليم العربية يجري عن طريق الحفظ عن غيب والمران على النظم والانشاد، وثمة بين المربين من يعتقد ان هذه الطريقة مفيدة في الالمام بشوارد اللغة ومفرداتها وقواعدها، الا أنني من غير هذا الرأي اذ اعتبر الهضم والفهم هو الأول والحفظ له المحل الثاني، وقد كانت اللغة قبل القاعدة، وارسطو ينتقد السفسطائيين، على جلال خدمتهم للمنطق الفلسفي، بان مثلهم مثل صانع الاحذية الذي يقدم الى صبيانه الجاهز منها بدل تعليمهم سر الصناعة.
كما كانت تجري ندوات خطابية تمرن التلامذة على الالقاء والارتجال والمناقشة والحوار، وهذا اسلوب عصري في ميدان التعليم يساعد على تربية الملكة الفكرية وقوة المنطق وسلامة الحوار ولا سيما ما تعلق منه بالمناقشة وتبادل الآراء والنقد، ويكمل هذا الاسلوب بتعيين اوقات يومية تخصص للمناقشة الحرة، وقد اتبعت مدرسته هذه الطريقة ايضا ً، واما المأثرة التي تذكر باهتمام فهي جريدة صدرت عنها يتولى التلامذة شأن تحريرها، وهي طريقة من افضل الطرق وارقاها للتمرين على الانشاء، كما انها تعتبر حافزا ً ودافعا ً للكتابة والانشاء والجرأة الأدبية ولا سيما بالنسبة الى اليافعين والنشء الطالع.
ولعلنا ندرك القيمة التربوية والخلقية عنده ونعرف كم بلغت هذه الرسالة السامية من نفسه، انه كان شديدا ً قاسيا ً على كل من تصدر عنه حركة استعلاء من التلامذة ابناء "السادة" على التلامذة ابناء الفلاحين او المزارعين، لقد كان يعتبرها خطيئة لا تغتفر ولا تبرر بأي حال، ذلك ان الناس سواسية كأسنان المشط، واخوة البشر فوق أي تمايز اذ متى استعبد الناس الناس وقد ولدوا جميعهم احرارا ً.
واذا لم يكن التعليم والتربية اداة توجه طعنات قاتلة وعميقة الى التمايز الطبقي في المدرسة والمجتمع، فهل تظل البشرية بحاجة اليهما في عملية تطورها وارتقائها وسيرها نحو الأفضل والامثل؟ وهل نستطيع ان نبني وننشىء حضارة انسانية اصيلة؟
ودافع في مقالات له عن مهنة التعليم، وهاجم باسلوبه الساخر اولئك الذين يهزأون بالمعلم والمربي - عن جهل في الأغلب - فيقولون عنه: معلم اولاد.
وعندي ان من نشر هذه العبارة هازئا ً - اذا استثنينا نوادر الجاحظ او ما يماثلها - هم سادة العبيد ورجال الاقطاع الذين كانوا ضد تلقي العبيد وابناء الفلاحين حرفا ً ينير امامهم الطريق ويكون بداية انطلاق نحو الحرية الحقيقية في المستقبل. واخبار محاربة الاقطاع للعلم والمعلم والمدرسة والحضارة كثيرة جدا ً يعرفها ابن عمشيت وجبيل كما يعرفها ابن الجنوب والبقاع وعكار، تماما ً كما عرفها العرب في جميع المراحل التاريخية منذ الجاهلية حتى اليوم، ودائما ً كان الجهل والميثولوجيا حليف التأخر وانظمة الاستثمار والعبودية، ودائما ً كان العلم حليف الانسانية والتطور والحرية، ولهذا عرفت مراحل التاريخ البشري اضطهاد من اراد ان يعلم حرفا ً وينشر فكرة تقدمية ويبني رأيا ً علميا ً متطورا ً ويعتنق مذهبا ً فلسفيا ً او اجتماعيا ً متحررا ً، وكثيرون هم الفلاسفة الذين اضطهدوا - والفيلسوف معلم على نطاق اوسع - فلوحقوا، وسجنوا، وقتلوا، ونفوا، وألحدوا، وزندقوا وحرقت كتبهم او اضطروا الى ابقائها حبيسة لم تر النور الا بعد موتهم باجيال لا لسبب او علة، غير ان قصة التاريخ هي صراع استمراري بين السلفية والتقدم، بين رواد النور ودعاة الظلام، بين حملة لواء الحرية والمتشبثين بالعبودية. انها صراع بين البشر، كما هي صراع بين الانسان والطبيعة... ان قصة التاريخ هذه صراع بين انظمة اجتماعية متقدمة واخرى سلفية تشد بالبشرية الى الوراء او للمكوث في المكان، والمكوث عودة الى الوراء وتأخر في الحقيقة والواقع.
في مقالة لأديب لحود نشرت في مجلة الحكمة تاريخ 29 تشرين الاول سنة 1910 استوقفتني العبارة التالية: "فلا يحسن حال الأمة الا متى تعلم افرادها، ولا يتعلم الأفراد الا متى انفتحت ابواب التعليم في وجوههم، فان ضمن البيوت الفقيرة والمساكن الحقيرة اولادا ً اذكياء اذا خلق الدهر (ليته قال النظام) منهم الثياب فلا يخلق منهم الضمير لا ينقصهم الا العلم ولا يلزمهم الا الاسعاف". ويقصد من الاسعاف الحق،لأن من المسلمات ان يكون العلم حقا ً لجميع البشر على السواء.
وفي مقالة اخرى له نشرت في الحكمة بتاريخ 4ايلول 1906 استوقفتني العبارة الآتية: "ان من تتبع نظام هذا الكون الغريب وتحفى عن سنن الطبيعة ورموزها لا يتكلف كثيرا ً ليدرك اسرارها التي تدفع بها لغاية هي لديها الى الامام... فالى الامام اذا ً كلمة وان تكن مهملة الحروف لكنها غزيرة المعاني ينطوي تحتها تقدم البلاد بمعارج الفلاح وارتقاء العباد بسلم النجاح فتجري الايام الى الامام... فالى الامام ايها المقبل على العلم ولا يستولي عليك القنوط فالوقت ثمين والعلم نافع مفيد، وان تقاعست عنه حل بك العار".
هذا احد الجانبين الرئيسيين في خط اديب لحود التربوي، الا وهو ان العلم يدفع بالأمة الى الامام، وما دامت سنة الكون الى الامام فلا بد من العلم، فالعلم والتقدم لا يفترقان مهما انكر الجهلة والمتأخرون وانصار العبودية الفكرية والمادية معا ً.
واما الجانب الرئيسي الثاني من خطه التربوي فهو انه يقرن العلم بالعمل. لماذا العلم اذا لم يترجم الى عمل؟ وما قيمة الكلمة اذا لم تتحول الى قوة لاواقعية محركة؟ وهل بامكانها ذلك الا حين تعتنقها الشعوب التي لن تستطيع ان تفعل الا اذا تعلمت ونبذت الاسطورة والخرافة؟ تقول مقالة له نشرتها "العلم" في اول ايار 1955"العلم بلفظه لا يفيد شيئا ً ما لم تجعل ثاني حروفه اخيرا ً فيصير "عملا" " ويقترن العلم به فتحصل الفائدة والنجاح، لأن العلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر".
قوام هذا الخط التعليمي، كما ذكرنا، مرتكزان اثنان: العلم يدفع بالامة الى الامام وسنة الكون الى الامام، ولكن ذلك لن يتيسر الا اذا اقترن العلم بالعمل، وهذا يعني ان الانسان ليس دماغا ً فقط او ساعدا ً فحسب، بل هو ساعد ودماغ مرتبطان جدليا ً، وقد تمكن الانسان بفضل هاتين القوتين معا ً من تبديل الطبيعة وتغييرها وتوطيد السيادة على الكون، واستطاع ان يحقق هذه النجاحات المتلاحقة المستمرة في جميع الميادين الفكرية والعملية على السواء، ولو انه سجل خطوات سلبية معاكسة في الاخلاق والحق.
ولما كان ذلك كذلك فقد رأينا جميع اعداء التقدم وانصار التخلف تقريبا ً يقفون من موضوعة العلم والعمل موقف العداء او العرقلة، فيحاربونها عن طريق الهزء بروادهما حينا ً، ومنع الكافة من استخدامهما حينا ً آخر، وبالسبيلين معا ً أحيانا ً، حتى صح معنا القول المأثور: ان من يغلق مدرسة يفتح سجنا ً، ومن يفتح مدرسة يغلق سجنا ً.
واما رأيه في ان يقترن العلم بالعمل والنظرية بالتطبيق فهو الذي دفعه الى انتقاد المدعين الغرورين فيقول في مقالته "كلمة وطنية" ما يأتي" "انتم ايها المغرورون يا من تدعون الوطنية وهي منكم براء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، تدعون الحرية وانتم اسرى الغايات تنادون بالمساواة وتنشدون الوظائف لتحملكم على اجنحتها الى اوج العظمة والترفع عن الناس وتقولون ما أحلى الاخاء وقد فرقتكم الضغائن ايدي سبا فألبست وطنكم ثوب الهوان".
هؤلاء المغرورون المتاجرون بدلوا المقاييس وغيروها وجعلوا كل شيء حتى المبادىء والأديان سلعة او تجارة تخضع للدرهم في الأخذ والعطاء، وتنمو في مناخات الطمع واساليب النفاق والبغاء. انظروا الى ما كان عليه البلد كما يقول أديب لحود والى كيف جعلوه:
بلد الجبابرة الالى قد دوخوا الدنيا بما اوتوه من اعجابها
هي بلدة أثرى الملوك بارضها فالتبر يسطع من عصير ترابها
لا غرو ان سبت العقول فبابل خلعت عليها السحر من اثوابها
فاين اليوم اعجاب الدنيا، واين التبر يسطع، بل السحر الذي كانت عليه بابل وكنا نحن عليه؟ كل هذا مضى زمانه وعمل فيه فسادا ً وافسادا ً تجار سياسة وعلم وادب ومعرفة وأديان وطوائف ومبادىء حتى وصلنا الى حالة لم تبق نافعة امامها سوى عمليات مبضع يعالج فاسدا ً لينقذ سليما ً، ويقطع اوصال لئيمة وكل لئيم فيها راغب، ومن ثم يصح لنا ان نعيش كما ينبغي ان نعيش، وان يكون لنا ما ينبغي ان يكون. ولعلني لا اتفاءل الى حد الضياع عندما اردد ما قاله الفيلسوف والمفكر الروسي تشر نيشفسكي: ليكن ما يكون، ماذا سيكون؟ مهما يكن فسيكون في شارعنا عيد.
هؤلاء الذين ينشدون الوظائف ليترفعوا عن الناس، نرى اديبنا الراحل قد اصطدم باحدهم فقال فيه:
منعت زيارتي وصددت عني فما كانت زيارتنا تصد
فاخبرت الورى عن فعل مولى فقالوا لا تلمه فذاك عبد
وهذا معنى تناوله الشاعر القروي أيضا ً ووفق فيه توفيقا ً نادرا ً في قوله:
قوم اذا قعدوا في منصب شمخوا ناسين كم قرعوا بابا ً وكم ركعوا
ويقيني ان مربيا ً هذه صفاته، وهذا خلقه، وهذه طريقه، وهاكم تاريخه، لا يجوز ان يحصر في نطاق ضيق من حيث القول عنه انه كان مربيا ً عاديا ً فحسب. ولعل هذا التوافق لديه بين العلم والعمل هو ما جعله قريبا ً مني، وجعلني اختاره من بين ادباء بلاد جبيل الراحلين في نطاق برنامج الرابطة الثقافية هذا.
العلم والعمل، او الدماغ والساعد، قوة لا تقهر اذا اتحدا، ولا نفع منهما اذا تفرقا، فساعد دون دماغ حيوان خال من الادراك والوعي، ودماغ دون ساعد ثرثرة بعيدة حقا ً عن الانتاج وعن شجرة الحياة الخضراء بل عن الوجود كلا ً باعتبار هذا الوجود واشيائه فعلا ً، والعمل انما هو الجانب الواعي المسؤول من الفعل، اي من الوجود ذاته.
الشاعر
لم يعرف اديب لحود شاعرا ً رغم ان لديه ملكة شعرية بارزة، والسبب، في اعتقادي، ابتعاد النقد عندنا عن الأسس السليمة والجمالية الفنية، فمعظم نقادنا اذ يقومون اديبا ً او شاعرا ً لا يدرسون آثاره على مرتكزات واقعية ولا يغوصون الى معانيه كما هو واجبهم الرئيسي، بل يتبعون المشهور عند من يريدون درسه اذا درسوا او يقومون بتحليل بعض آثاره اذا حاولوا.
وكثيرون من الأدباء والمربين ملكوا ميزة شعرية بارزة، الا ان اشتهارهم بالأدب النثري، او بالتربية والتعليم، حجب عن النقاد ميزاتهم في قطاع آخر.
ولو ان اديب لحود لم يمارس سوى نظم الشعر دون التربية والكتابة النثرية، لكانوا درسوه شاعرا ً، اما وقد اشتهر مربيا ً فاكتفي بذلك دون درس آثاره الشعرية التي هي رغم قلتها دالة على انه ملك ناصية القريض، واستطاع ان يكون شاعرا ً.
لا ازعم انه شاعر تبدو كل آثاره رائعة وفنية، كما لا استطيع الزعم ان ما لديه هو الرديء فقط، فالواقع انه شاعر كمن يغرق من بحر لا كمن ينحت من صخر، تارة يغوص على لؤلؤة نادرة وتارة على صدفة فارغة وطورا ً على شيء هو كاللاشيء.
وليس هو وحده بين الشعراء من يتصف بذلك بل الشاعر الشاعر من يوفق حينا ً ويخفق احيانا ً.
اعظم شعراء العربية، القدامى والمحدثين، من نرى في نتاجهم لآلىء رائعة وجثثا ً محنطة، واديبنا الراحل كشاعر مطبوع لم يشذ عن هذه القاعدة وهذا المرتكز.
ورأيي ان شعره، على قلته، مثل بحر يتماوج رقيقا ً، فلا تثور امواجه مصعدة زبدا ً يمازجه ما في قاع البحر من اعشاب سامة واوساخ، ولا تهدأ حتى ينقلب الى مستنقع ليس فيه الا ما في المستنقعات الأسنة من مواد مهترئة ذات رائحة كريهة على الأنوف.
ولو ان اديبنا الراحل عالج الشعر في غير المناسبات لكان له شأو في الشعر، الا انه اهتم بالتربية والأدب، فكان الشعر لديه مقبلات على الموائد، او ملحا ً للطعام. ودائما ً كان بين التعليم الضيق في المدرسة او الواسع في المجتمع وبين الشعر عداء. يكفي ان نقرأ افلاطون وقد ابعد الشعراء وكان منهم عن ميدان تربية جيل اراده متفوقا ً، حتى نعرف مقدار العداء بين التربية والشعر.
والسبب في اعتقادي، ان الشاعر لا يعيش، احيانا ً كثيرة، في الواقع الراهن، بل ربما في واقع سيأتي او في واقع غابر او في حلم ووهم خياليين طوباويين، ومن كان هذا شأنه كان عدوا ً للمربين العقلانيين الذين يعالجون واقعا ً حاليا ً ينطلقون منه الى واقع يصنعونه هم ولا يتخيلونه تخيل عاطفي حالم او متأله تائه.
والشعر ليس كما قال شوقي، ذكرى وعاطفة او حكمة او تقطيعا ً واوزانا ً، بل ربما هو مزيج من هذا كله مع غيره من الميزات السامية. الشعر، واعني افضله، ما حاكى اروع الموسيقى في اناتها، واجمل الصور في الوانها، وارفع العقل في تفكيره. اي انه موسيقى متسقة تحرك وتبدع، وثورة رائعة تسحر وتفتن، وفكرة موفقة لا تبعد عن الواقع فتتيه سكرى في عالم مجنون خيالي هو عالم اللاوعي والاحلام الخرافية. انه تجربة ومعاناة لا تحصران في قيود ولا تحسبان بين الجدران، مثله مثل اشياء الحياة والوجود تنشأ وتنمو وتتطور دون حصر او توقف. وقد قال حنا نمر عن حد الشعر انه رسم جميل ونغم جميل وفكرة جميلة.
وهذا كله على اجتماع وتوافق لا يكفي، بل على الشعر ان يكون ذا غاية، اي ان يتضمن منفعة اجتماعية الى جانب المتعة الفردية، وانسانية شاملة مع الذاتية الضيقة. انه غائي - اجتماعيا ً وذاتيا ً- في اول تحليل واخره.
وعلى ما اطلعت من شعر مخطوط لأديبنا الراحل وجدت القليل من الشعر الرفيع، نسمعه يقول في تحية الحكمة:
هيفاء ما مشقت قواما ً لا ولا لثمت لثاما ً فوق صفحة وجنة
وهكذا يقرب الحكمة الى العاطفة والجمالية، فيجعل منها هيفاء تفهم الجمال وتضج بالرغبة والفتنة وتعرف الضم واللثم وهي حكمة عقلانية لا تقرب من الجمال اذا ما اخذت علمية مجردة.
واما الصورة عنده فرائعة مثل:
وهلا رأيت الياسمين مدللا ً من الحزن ازرارا ً بمهد الناظر
ولست ارى جمالا ً اكثر من الياسمين المدلل، ولكن من الحزن، وقد جعل ضريحه مهد الناظر.
واذا كان جعل الناظر مهدا ً فانه قد جعل الصدر، في شعر آخر، هو المهد، قال:
عرفتك يا طيف الحبيب وانني يقلبك اثوي ان قضى بالورى عمري
فهيئه لي وافتح كنوز حنانه ودعني كما اهوى اموت على الصدر
واذا هذه الصورة مألوفة في الغزل والنسيب حيث يود المرء، ولو كان شيخا ً أدرد، ان يدفن في صدر لا في تراب وارض، فان ما جاء به جديدا ً طلبه من الحبيب ان يهيء له الصدر، وهذا ما يجعل المتعة معجلة ومؤجلة، معجلة اذ يعيش في عالم التهيئة، ومؤجلة اذ يتصور ان مدفنه سيكون هناك، في ثنايا الصدر الجميل. لست اتمنى الا ان يكون نصيب كل منا، انتم ونحن، ما تمناه اديب لحود لنفسه.
ولعل شاعريته المطبوعة تبدو، اكثر ما تبدو، في قصيدة "السيد المسيح والمجدلية" اذ نرى فيه غواصا ً على معان عميقة، وصور شائقة، واسلوب رقراق هو كالماء الصافي النمير، وعاطفة صادقة، وتوبة خالصة، ووصف للجمال طبيعي غير مجلوب:
وبذا المكان وافت اليه تذرق الدمع مريم المجدلية
هي احدى تلك اللواتي احبت شهوة القلب والفعال الدنية
قد اتته تبل رجليه لكن بدموع الندامة القلبية
ان قلبي يا سيدي فيك يقوى بعد ضعف من جبلتي البشرية
وضميري لم يبق فيه اضطراب حيث أضحى براحة مرضية
كنت بالأمس زهرة لليالي كنت عطرا ً سمومه مخفية
واني اذ انتقي هذه الأبيات من قصيدته تلك لأتساءل: هل يصح ان لا نعتبر من يأتي بمثل هذا شاعرا ً محلقا ً؟ وهل لنا ان نحكم عليه بضعف الشاعرية دونما درس اثاره، او بعضها، في الأقل، كما يفعل هذا وذاك؟
نسمعه يحيي شهر ايار، وهو شهر يحبه الناس لسببين الأول انه شهر الورود والأزهار والجمال والطيب، والثاني انه شهر العمل والنضال، وعيد العمال هو اول ايار:
شهر الزهور تحية وسرما ً فلقد أزلت عن القلوب سقاما ً
ولقد كسوت عري الحقول بحلة فيها غدوت على الشهور اماما ً
والورد رمز محبة سموية تلقي به بين القلوب وثاما ً
واذ نسمعه يحكي قصة المسيح وامه العذراء، نتصور انفسنا معهما وقد بعدت حقبة التاريخ الطويلة الفاصلة بيننا وبين الميلاد. وهذا دليل على انه أحيانا ً شاعر مطبوع لا يتكلف في شعره، كما لا يتكلف في نثره. وعندي ان الانسان الصادق يكون شاعرا ً صادقا ً مطبوعا ً، والمرء الذي يضحك كالطفل من اعماق قلبه هو الذي يخرج الكلمات قلبية دونما تكلف او تصنع. ولعل اديبنا كان مؤمنا ً صادقا ً مما اتاح لشاعريته ان تبرز، اكثر ما تبرز، في قصائده عن اله ايمانه:
فغدا يناغي امه في مهده فتجيبه في ارخم النغمات
"ولدي الهي مهجتي يسوع يا رب ارفقن بحالتي وحياتي"
لم لا تنام وكل حي نائم والليل ارخى للضيا الظلمات
نم يا حبيب القلب واستسلم الى الأحلام فهي خفيفة الوطئات
وتنهدت جزعا ً بقرب حبيها فاذا به في اعذب الرقدات
وهكذا يدلنا اديب لحود على ان عطف الأم وحنانها - ولو سببهما مادي محض - هما الألوهية، وان الاحلام غير الواقعية تبعد المرء عن الواقع الأليم السيء فتعيد اليه نشاطا ً تبدد، وطاقة كسلت، وهل ابلغ من ام تطلب من الهها - كدت اقول تأمره - ان ينام؟ وهل ينام الطفل الا اذا فهم ما تعنيه امه من ان نومه رفق بحالتها وحياتها؟
وتظهر عاطفة اديب لحود الوطنية في شعره، كما تظهر في نثره ونشاطه، نسمعه يحيي العلم اللبناني تحية كفاح لا استخذاء، ونضال لا دلال:
كثر التمرد قبلة وشمالا وعليك شدوا للقتال قتالا
راموا لك التنكيس يا علم الوفا حبطت مساعيهم فزادوا نكالا
علم بعيد لنا سوابق مجدنا ال عالي ويسبق فعله الأقوالا
هذه القصيدة في تحية العلم تبدو كصفحة بيضاء ناصعة لو لم تدمغها نقطة سوداء جاءت في آخر بيت منها وهو:
دومي فرنسة، ولتدم ابطالنا سهما ً يراش على العدى ونبالا
قلت ان هذا البيت نقطة سوداء شوهت صفحة بيضاء، ذلك ان دوام ابطالنا ليس بدوام فرنسا المحتلة عندنا او دوام اي محتل آخر، بل بذهابها وغيرها الى لا رجوع، وهل استطعنا ان نكرم ابطالنا الحقيقيين الا بعد زوال الانتداب واحراز الاستقلال؟ وهل غير الاحتلال العثماني ثم الفرنسي حرم لبنان تكريم ابطال جاهدوا واكثروا من التمرد حتى ارتفع علم نريده ان يظل في سمائنا وحيدا ً لا يعلوه علم؟ الا ان عذره عندنا ان الكثيرين كانوا على اعتقاد - ومنهم اديبنا الراحل - بان فرنسا هي فرنسا ديكارت وفولتير وهيغو وديدرو ولا متري ومارا وسان جوست وجوريس وفورييه وسان سيمون وغيرهم من عباقرة الأدب والفلسفة والثورة، فاذا هي - عندنا - ثعبان ناعم الملمس في انيابه السم والعطب. ولكن هذا الوعم سرعان ما تبدد وزال يوم اهرقت دماء ابناء شعبنا طلبا ً للاستقلال، واخذ يحل مكانه الاعتقاد الصحيح القائل: ليس حرا ً ذلك الشعب الذي يستعبد غيره.
هذه باقة من شعر اديب لحود فاح شذاها فعطر، وتراقصت الوانها فأبدعت، وتمايلت ازرارها تتناغم وتتلائم فدلت على ان شاعرية اديبنا الراحل لا تنقصها عاطفة وغاية وصورة وموسيقى وفكرة ومعاناة، بل الحكاية تختصر في انه عرف كمعلم واشتهر على انه أديب ومرب، فمنعه ذلك من الاكثار في النظم ومنع الكثيرين الغوص معه في البحر الذي فيه قد غاص عائدا ً الينا باللآلىء حينا ً، والحصى حينا ً، وشيئا ً هو كاللاشيء حينا ً آخر.
الأديب
يبدو غريبا ً ان يقلب بعض الناس شفاههم اذا رأوا احدا ً يتحدث عن مرب كأديب، ويتساءلون: ايمكن ان يكون احد مربيا ً ولا يكون اديبا ً؟
وليتهم يكتفون بالسؤال اذ لا بد للجواب التحليلي المبرهن سامعون، الا انهم يتابعون: حديث خرافة يا ام عمرو، وحب للثرثرة عند بعض رجال الفكر والقلم.
رويدكم يا سادة، ومهلا ً مهلا ً، فليس كل مرب اديبا ً، بل ليس كل كاتب اديبا ً، اذا شئنا وضع احكامنا على اسس واقعية ومرتكزات منطقية.
فالأديب غير المربي، وغير الكاتب، وغير العالم، وغير الفيلسوف، وغير الشاعر... الأديب نسيج وحده، كما كل من ذكرنا نسيج وحده. فكم من مرب ناجح يبعد عن ان يكون اديبا ً كما تبعد الرسالة التربوية الاصيلة في زمننا هذا عن معظم مدارسنا اللبنانية.
واذكر، فيما اذكر، ان احد الأدباء اللبنانيين سأل مجموعة من الكتاب والأدباء ورجال الفكر عن الفرق بين الكاتب والاديب، وكان مما قلته في ذلك الحين ان الكاتب اكثر معرفة وعمقا ً وانسجاما ً مع المنفعة العامة، والاديب افضل اسلوبا ً واشرق عبارة والصق بالمتعة الخاصة ولو لم يهمل الشأن العام.
والانسان في ميوله واهوائه وواقعه الحقيقي ذو عالم خاص وعالم اجتماعي معا ً، فالعالم الخاص يعبر عنه الاديب اكثر والعالم الاجتماعي يعبر عنه الكاتب اكثر. واما المربي فقد يكون كاتبا ً وقد يكون اديبا ً وقد لا يكون كاتبا ً او اديبا ً، الا انه مرب، ومرب ناجح احيانا ً.
ولسنا نعود الى اصل الكلمة، لان الذين يحبون السفسطة في اعطاء المدلول يعودون، اكثر الأحيان، الى اصل المفردة اللغوي كي يبتعدوا عن المعنى والمفهوم اللذين اكتسبتهما خلال تطورها التاريخي البعيد، وعبارة ادبني ابي فأحسن تأديبي لا علاقة لها بما نقصد، بل انما نعني الاديب بالمفهوم الذي نعرف وبالمعنى الذي اليه نرمي.
فمن شروط الأديب القدرة على التعبير الفني عن طريق استخدام السهل الممتنع، والصورة الحلوة، والوصول الى الغرض في صورة غير مباشرة، وتحريك الشعور الفياض المعبر، وقد يكون من الأدباء من يستطيع دغدغة الانفعالية والاهواء اكثر من اقناع العقل، ومواقعة الآمال عاطفيا ً وميلا ً اكثر من مواقعة المنطق فهما وتعمقا ً، او قد يكون اسير القلق والضياع، بل ربما كان هو نفسه قلقا ً وضائعا ً، يحسن الرفض ولا يعرف لماذا، وقليلا ً ما يحسن الايجاب وقد لا يعرف لماذا.
في بعض هذه الحدود كان اديب لحود اديبا ً، فقد نرى عنده لغة سهلة، وصورا ً حلوة، واسلوبا ً رشيقا ً، ودغدغة لأهواء وعواطف، ومواقعة لآمال تتلاعب بها ريشته عندما يخط تلاعبا ً رقيقا ً، كما كان ذواقة لادب القدامى والمحدثين، وعندي ان من يختار، فيما يختار، من الاساطير الهندوسية اسطورة المرأة، لا يكون الا ذواقة ادب يحملنا على الاقرار بذلك حملا ً والاسطورة هي: ان الله اخذ خفة الورقة، ولفتة الظبي، واشراق الشمس، ورطوبة الندى، وتقلب الريح، ووداعة الأرنب، وصلابة الجواهر، وقوة النمر، وحلاوة العسل، وحرارة النار، وبرودة الثلج، ثم مزج هذا كله وخلق المرأة".
وكتابه "جراب الأدب" الذي تضمن هذه الاسطورة، دليل على تذوقه الأدب وممارسته. كما ان مقالاته المنشورة في الصحف والمجلات تحكي قصته كأديب الى جانب قصة مدرسته بل مدارسه كمرب، وقصائده على قلتها كشاعر.
ولم يستخدم ميدان الأدب للمتعة الخاصة فقط، بل ان كتابه هذا هو "مجموعة بعض صفحات ادبية علمية مع حكم ونوادر وفكاهات للتسلية والمطالعة" كما يقول، ثم نقرأ في كتابه الآنف عبارة مؤلفة من ثلاث كلمات الا انها تختصر كل نتاج الفكر في مختلف ميادينه وقطاعاته، يقول "اول المعرفة الاختبار".
هذه العبارة تجمل النشاط الانساني كلا، اذ تجعل التجربة محك الحقيقة فلا حقيقة بدون تجربة وعندما اقول الحقيقة اقصدها بشقيها النسبي والمطلق، اذ لا حقيقة نسبية صافية ولا حقيقة مطلقة خالصة، فالحقيقة المطلقة مجموعة حقائق نسبية كما ان المطلق في النسبي والنسبي في المطلق على ما تحدد الجدلية او الديالكتيك. وهذا التعريف يعطينا المفتاح الكبير لولوج ابواب التاريخ ونوافذ المجتمع الانساني والفكر من ارحب آفاقها ومنطلقاتها.
كان ينتقي الأمثال الاجتماعية والتربوية والتعليمية انتقاء غائيا ً، انه فيما ينزع الى الأدب يعود فيحن الى التربية، وهو القائل" العلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر" و "اما اداة التعليم فهي الأدب الذي يقوم على العلم الصحيح لا العلم السطحي".
ومما انتقاه في جرابه - جراب الادب - ما سنقرأ: "اثنان لا تقربهما ابدا ً: رجل كل رأسماله المال، وامرأة كل رأسمالها الجمال"و"احذروا اثنين:صولة الكريم اذا جاع، واللئيم اذا شبع" و "الناس في الدنيا رجلان: رجل باع فيها نفسه فأهلكها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها" و "ثلاثة لا عيب فيها: الفقر والمرض والموت".
وحاول اخضاع الفلسفة، او بعض لمحات منها على الاصح، الى الادب، فاخفق كما يخفق كل من يريد ذلك، فالأدب والفلسفة لا يجتمعان بمعنى الاجتماع الحقيقي ومدلول الكلمة الحرفي، واذ كانا قد اجتمعنا عند افلاطون فقد انتقده تلميذه ارسطو في ما انتقده على انه استخدم الاسلوب الادبي في بحوثه الفلسفية، وما زالت اراء فلسفية عدة لافلاطون غامضة تثير الجدال بسبيب اسلوبها الأدبي او الشعري احيانا ً.
الا ان عذر اديب لحود عندنا كونه لم يقم ببحوث فلسفية بل جمع بعض اقوال منها في الجراب تحمل اراء يمكن اعتبارها فلسفية بمعنى ما، مثل المقولات العشر وغيرها.
ورأيه في القصص المروية على السنة الحيوانات في توطئته لقصة ابن آوى المترجمة هو "ان جميع القصص التي تروى عن السنة الحيوانات، والتي تتضمن الحكم الادبية والنصائح الأخوية، ترمي غالبا ً الى مغزى ادبي ودرس اخلاقي ذي فائدة للمطالع والقارىء".
واما مؤلفه "رفيق الكاتب" فهو يقدم الى الادب خدمات ذات اثر، لأنه مبحث علمي في الكلمات الاختصاصية في اللغة العربية، منها ما يتعلق بالانسان، ومنها ما يتعلق بمفردات اللغة ومرادفاتها واضداد الفاظها، ومنها ادبيات متفرقة في الشعر والامثال، ومنها ما هو غير ذلك مما لا يستغني عنه الاديب.
واما نهجه في فهم دور الأدب وتحديده فهو الذي تحدث عنه في مقدمة مؤلفه "نيل الأرب في تاريخ وآداب العرب" اذ الهدف ان يكون "بابا ً يدخلون منه لاغتنام ما في بيت هذه الأمة من النفائس الادبية والعلمية" وفي مقدمة الجزء الثاني من المؤلف نفسه ربط بين النظرية والعمل اذ يقول ان القصد هو العمل "على تخليد لغتهم بقلمهم وعلمهم وجهادهم"... اي تخليد العربية بالقلم والعلم والجهاد، وليس بالقلم وحده. ومثل هذا النهج هو الذي حفظ لنا العربية من الضياع، وجعل ادباء هذا الوطن الصغير لبنان يحملون لواءها في زمن الانحطاط، ويقومون بالدور الأساسي في انبعاثها كما هو مشهور ومعروف.
وكيف لا يقوم رعيلنا الماضي، وهو ما شبه برعيل اهل بدر، بمثل هذا العمل الجلل، ولسان كل منهم ما قاله اديب لحود: "المعلم الذي هو كالشمعة يحرق نفسه لينير غيره بمعارفه".
واذ ارى الى تجاهل ناسنا اليوم ذكرى ادباء الامس، وقد كانوا ما كانوا عليه من علو شأن وصدق خدمة، لا بد لي من ان اهتف مع البدوي:
اين اين الرعيل من اهل بدر ذهب الفتح واستبيح الرعيل
اذا لم احترق انا، ولم تحترق انت، اذا لم نحترق نحن فمن ينير الظلمات؟ هذه ابيات لناظم حكمت، الشاعر التركي الراحل، تذكرتها في هذا المجال لأنها أول أبيات سمعتها منه في منفاه، وكنا في العاصمة الفنلندية، بعدما انتزع من مخبأ امين في صدره صورة طفله البعيد عنه، وهو يقول لي: لولاه ما احسست اني عن بلادي بعيد، ما يعني ان الانسان اغلى من الأرض بل اثمن الأشياء. ولعل اديب لحود اراد في قوله ان يبين كم بذلنا من انفسنا حتى حفظنا العربية الصحيحة من التتريك والعجمة ثم من التفرنس والعامية ومن كل مذهب غريب يرمي للقضاء عليها ودفن تراثها في اعماق مظلمة، افليس انشاء مدرسته في عمشيت، وقد انشئت رغم الارساليات الاجنبية وظلت حية رغم منعها من مواصلة التدريس الثانوي قوة واقتدارا ً وقيامها بدورها في خضم عداء اجنبي انتدابي ظاهر، من الأدلة على ان مفكري لبنان هذا، ومنه قطعة غالية هي بلاد جبيل، يعرفون ان يحرقوا انفسهم لاضاءة الظلمات؟
يقول اديبنا الراحل الذي نحتفل بذكراه، من نشيد وطني في روايته "الشهامة والشرف":
بدمانا والجهاد نحن حررنا العلم
وفي ذات الرواية يقول:
وقد غدا وطني بالبأس مرتفعا ً أأرتضي ان اراه اليوم منحدرا؟
واذا كان خدم بلاد جبيل بمدرسته وتربيته الناشئة، فقد خدمها ايضا ً باظهار وجهها التاريخي العظيم، وله ابحاث في تاريخ جبيل القديم والحديث في مجلة "الحكمة" التي كانت اول مجلة انشئت في جبيل لسليم وهبه عام 1909، كما كتب في صحيفة مدرسة النهضة الوطنية العام 1909 وغيرها ما يجعله صحافيا ً أيضا ً، الا انه صحافي هاو لا محترف، ولو احترف لاحتفلنا بذكراه الآن صحافيا ً لا مربيا ً وادبيا ً.
ومثلما ذكرت فهو اذ يحاول الربط بين الأدب والفلسفة يصيبه الفشل، كذلك اذ يحاول الربط بين العلم والادب يصيبه الاخفاق. ففي تعريفه للانسان من انه "مخلوق مركب من نفس ازلية عاقلة، ومتجمل بالنطق الذي يجعله مخلوقا ً ممتازا ً مترفعا ً على سواه، ولا يتعلق بالمملكة الحيوانية سوى بتركيب هيكله فقط" مغالط علمية واضحة ظاهرة كان على اديبنا ان يتجنبها بتجنب ميدان ليس من اختصاصه، وكذلك قوله عن تركيب يد الانسان العجيب لتناول الطعام، ذلك ان الانسان لا يتناول بيده الطعام فحسب بل يحول بها الطبيعة أيضا ً. ولا يرتبط بالحيوان في تركيب الهيكل كلا فهو يختلف عنه من حيث انتصاب القامة رغم ان هذا اختلاف غير اساسي، كما يختلف عنه بان اعضاءه نتاج عمل واع وليست فقط أداة عمل، وهذا اختلاف اساسي ظاهر. واختلافه عن الحيوان ليس لأنه يمتلك نفسا ً أزلية فنفس الانسان ليست ازلية او سرمدية وانما هي وعي وادراك ومعرفة عقلية الى جانب المعرفة الحسية وهذه الأخيرة يتملكها الحيوان الا انه لا يتملك الأولى، والنطق - او اللغة - انما هو نتاج الوعي أو المنظومة الثانية للتنبيه بالاشارة التي يمتلكها الانسان وحده فيما يتشارك مع الكائنات العضوية في المنظومة الأولى للتنبيه بالاشارة، وقد اكتشف بافلوف هاتين المنظومتين وأدى في ذلك خدمة جليلة الى عملية المعرفة.
هذا ولو كان بحثنا في اصل نشوء المعرفة والوعي، وتكون الانسان، ودور العمل في تكوينه، ونشوء المعرفة العقلية من المعرفة الحسية وعلى أساسها وارتباطهما الديالكتيكي، وفي الخصائص التي تجمع بين الانسان والحيوان والجماد وما تفرق، والاختلاف الفسيولوجي بين الانسان والكائنات العضوية الخ... لكنا افضنا وتعمقنا، الا انه اولا ً: ليس البحث بحثنا الآن، وثانيا ً ان بحثا ً كهذا يحتاج الى مؤلفات عدة وهو من نطاق الفلسفة والعلوم الطبيعية لا من نطاق محاضرة عن مرب واديب.
وقد ابرز في كتابه "دروس الأشياء الحديثة"، وهو ما زال مخطوطا ً، نظرية علمية صحيحة الى جانب النظريات الخاطئة التي ذكرنا هي ان تركيب الجسم هو من الكلس وكربوناته مع مادة غروية هي الهلام الموجودة في اللحوم. اقول انها نظرية صحيحة لان العلم الحديث حولها الى قانون مؤكدا ً ان ما قام بدور اساسي في تكون الانسان هي المادة الزلالية او الآحية او "البيلوك" الموجودة في اللحوم، اذ اثر اكل اللحوم كثيرا ً واساسا ً في تكون الانسان، والمواد الكيميائية الاساسية في نشوء الخلية هي في الانسان - نسبيا ً- اكثر من الحيوان، وفي الحيوان اكثر من النبات، الخ... مع اعتبار ان الحياة بمفهومها العلمي موجودة في الانسان والحيوان والنبات والجماد أي في الموجودات كلا ً، وكلما تعقد النوع كانت المواد الآحية وغيرها فيه اكثر كميا ً فتؤثر كيفيا ً في تطور الكائنات والانواع التي لا تعد. وقد قال العلامة شيفر رئيس مجمع تقدم العلوم البريطاني عام 1912 في خطبته أمام المجمع ذلك العام اننا صرنا نأمل مجيء يوم يتمكن فيه الانسان من تركيب النواة الحية تركيبا ً اصطناعيا ً بعدما خطونا خطوات واسعة في سبيل معرفة اساس الحياة الكيماوي.
خاتمة
اعترف انني مررت بهذه الابحاث مرورا ً سطحيا ً عابرا ً كي اثبت ان اخضاع العلم للادب صعب كما هو ممتنع كذلك اخضاع الفلسفة للادب.
غير ان هذا لا ينفي ان يكون اديب لحود اديبا ًمطبوعا ً وذواقة استطاع ان يجعل الادب في خدمة التربية، والتربية في خدمة الادب، فكان مربيا ً اولا ً، واديبا ً ثانيا ً، كما يبدو ذلك جليا ً وبوضوح، في رواياته التمثيلية حيث يعتبر من رواد مؤلفي المسرحية في لبنان. ولعله اراد ان يوسع ميدان اداته التعليمية فكانت المسرحيات التي هي اوسع تعليما ً من المدرسة وان كانت المدرسة ارسخ تعليما ً وتربية.
يكفيه مأثرة انه، في مدرسته ومسرحياته ومؤلفاته، وجه عناية كاملة الى اللغة العربية في وقت برزت فيه ضدها انحرافات خطرة ترمي الى اضعافها او القضاء عليها بدل تطويرها لتكون لنا تلك اللغة العربية السهلة الملطفة البعيدة للمثال عن وحشية الجاهلية وتهافت العامية معا ً. ولعلنا ننشء في جامعاتنا فروع تخصص في اللغة العربية كي نحافظ على تراثنا الطويل كما وصلنا منذ العصر الجاهلي الى الوقت الحاضر. ويقيني ان استمرار هذا التراث رهن بالحفاظ على اللغة مع اخضاعها الى مقاييس العصر من حيث جعلها ملطفة قريبة مما يسميه العرب السهل الممتنع، كما هو رهن بان تظل ارضنا تنبت رجالا ً مثل اديب لحود وغيره من ادباء بلاد جبيل ولبنان كلا ً، يحملون اللغة على مناكبهم وكأنها من ابنائهم، وينفضون الغبار عن التراث كما يزيل الصائغ المواد الغريبة من الجواهر، ويغوصون الى الاعماق مثلما يفعل الغواص في البحار العميقة.
واخيرا ً فعذري، ايها السيدات والسادة، اذا اقللت لأن الوقت ضيق ومحدود، وعذري اذا اطلت فأديب لحود يستحق اكثر مما فعلت، ولعل الظروف تسعفني في المستقبل فانصف الرجل وغيره من ادباء المنطقة اكثر مما انتقدت، وهذا من اولى واجباتنا نحو من علمنا حرفا ً فكنا له اخوانا ً، اعلى نطاق لبنان كان ذلك ام على نطاق بلاد جبيل، وهي المنطقة التي حرمت في الماضي حتى ان يقوم ادباؤها ومفكروها بتكريم ذكرى ادبائها ومفكريها. واملي ان نتمكن في المستقبل من ايفاء بعض ما للرعيل الأول الذي هو كرعيل اهل بدر من حق يملكونه علينا، ودين لهم في ذممنا وضمائرنا، لقاء ما قدموا بتواضع كتواضع الفلاسفة والعلماء والمفكرين الاصيلين من مآثر ناطقة حية هي جزء من تاريخنا العظيم، وتاريخ قطعة غالية من هذا الوطن الملهم والملهم.
نسيب نمر