لبنان على المسرح
تعريف تمهيدي:
هي مسرحية "تاريخية واقعية وطنية أدبية تمثيلية" كما وصفها أديب لحود بذاته، تشتمل على حوادث الحرب العمومية ونكباتها في جبل لبنان من عام 1914 الى عام 1918، والكلام للمؤلف.
والمسرحية هذه ترصد ويلات الحرب الأولى وما خلفته من مآسي، وظلم وجور، واضطهاد، وفقر، وجوع، وفاقة، وحرمان، ومرض، وانتشار أوبئة، وجراد... فيها حس وطني أكيد، لا تشوبه شائبة، ومثالية، مع بعض الشطحات الرومنسية الغنائية، التي تشوبها مسحات حزن وأسى.
أراد المؤلف أن تمرر وقائع الحرب من خلال عائلة، وهذا شيء مهم، وقد نأى بالرواية عن العموميات أو المطب الذهني أو الايديولوجي السياسي، فأتت واقعية من لحم ودم، صارخة، لا تروج لأفكار أو لمبادىء، ولا وعظية، بحيث يجعلنا نتتبع مصير العائلة خلال الحرب الأولى: فخالد هو من وجهاء البلاد وتاجر، وهند اخته، وعارف صهره، وهو تاجر مثله، وله ثلاثة أولاد: ريموند وهنري وسلوى.
وعند عارف مستخدم وهو سعد وخادم وهو عبدو. وهذه العائلة تعيش في محيط في جبل لبنان فيه قائمقام قضاء، وطبيب قضاء، وفلاحون، وأغنياء، وكاهن رعية، وشيخ صلح، ووكيل وقف ومختار، وفيه التجار والمكارية وساعي البريد والمتسولين والعتالة...
ومن ناحية أخرى هناك جاويش القائمقامية، والاونباشي، والجندرمة، والجنود، والضابط ومأمور التفتيش، والمخبر، وجنود ألمان، وجنود أتراك.
وفي مقدمة الرواية يتكلم أديب لحود عن المجاعة، والفتك بالمواطنين عن طريق العسكر الشاهاني، وعن الجراد الذي أضر بالأملاك، والفقر المذري، والأمراض المعدية والفتاكة ويصور المرضى والصرعى في الطرقات الذين قضوا "بلا ضرب ودون طعان"، ويتشكى من جور الترك والألمان، فساموا الموت بالمواطنين وارهقوا كاهلهم بالضرائب. ويطلق صرخة منادياً بالاستقلال مطالباً به، وقد كتب هذه المسرحية عند انتهاء الحرب الأولى، لا خلالها، كمعظم الآثار الفنية التي تأتي بعد، لا خلال، أو أثناء الحروب والمحن وقد أجيز له تمثيلها سنة 1919، وكذلك طبعت سنة 1919 على مطابع جريدة "الهدى" النيويوركية، ونفدت نسخها.
ان هذه العائلة المرافقة لأحداث الحرب، والتي هي ضحية لها في آن، ترتسم ويلات الحرب، فواجع عليها. فيسجن رب العائلة وينكل به، فيهتم أخوه، الذي كلفه تحرره غالياً وبفدية باهظة، بشؤون العائلة، عائلة أخيه، ويموت الابن الأكبر بحمى التيفوئيد، وتموت الوالدة بعده أسىً وغماً، ثم ينفذ حكم الاعدام بالمعيل والوكيل خالد. لقد فقدت هذه العائلة الكريمة في الأصل، والتي كانت ميسورة، كل أملاكها، ومنزلها، وكل ما تملك، وتشرد من بقي منها على قيد الحياة، في الشارع، متسولاً، فبئس هذا الانتقال من الهناء الى الشقاء، وبئس ما خلفته هذه الحرب، ولعنة الله عليها.
مقدمة الرواية قبل البدء بالفصل الأول منها، وضعها المؤلف شعراً، وقد اشتهر بمقدمات الروايات الشعرية، وفيها يبسط أحداث المسرحية - كما رويناها - أمام المشاهدين بشكل مختصر، وبأسلوبه الشعري والسهل الممتنع. وهناك اشارة في خاتمة المقدمة الى أن المسرحية هذه، قد جرى تمثيلها، فور انتهاء الحرب. وفي النشيد الترحيبي الحماسي، يبتهج الممثلون بلقاء أبناء الوطن، بعد أن زالت عنهم الأحزان.
المعالجة الدرامية:
عرض لنا المؤلف في الفصل الأول، التحضير للحرب، واعلانه، وما بدأ ينتج عنه، ويرشح عن قراراته، يتم الانتقال في الفصل الثاني، الى دار الحكومة، حيث نرى خالد وأخاه عارف برفقة نايف الجاويش والجنديين، مما يستدعي تغير في الديكور يحتمه تغير المكان بين فصل وفصل آخر.
أن المسرحية تدور أحداثها وتتسلسل نثراً لا شعراً. ومن خلال الحوار نرى بأن خالد وعارف ينتظران منذ يومين القائمقام. وقد سمح الانتقال من فصل الى فصل بمرور الزمن، وبرره.
ونتعرف هنا على تصرف أولئك المسؤولين حينذاك بشكل دقيق، وبارز، ونقدي.
لقد ساق أديب لحود الأحداث بمقدرة وبراعة فائقين، فأعطانا فكرة واضحة، وجريئة، من خلال الفعل المسرحي، عن المواقف والتصرفات عند أولياء الأمر، والمهتمين بشؤون العباد، آنذاك. فكان كل فصل ينتهي بحدث مهم، لا بعبارة طنانة رنانة، يجعلنا ننظر بشوق، الى ما سيأتي. كما أنه استطاع أن يمرر في خطين متوازيين: الشأن العام، ومصير أفراد العائلة؛ فاذا بنا نرى عبر تطور حياة العائلة اللبنانية، ما كان يكتنف البلاد من أحداث ابان الحرب، وانعكاساتها على العائلة وأفرادها.
لم يتخل أديب لحود حتى في قلب المأساة عن روحه المرحة، فأدخل هنري أحد الأولاد ( أولاد عارف) منتخباً لأن محمد أفندي ضربه، حينما لم يحسن لفظ عبارة تركية معناها "اغلق الباب"، ويتابع "يضربني كل يوم لا أريد أن أتعلم التركية". وضمن هذا الجو، تعلمنا هند والدته، بأن الحكومة أقفلت المدارس الوطنية، وأبدلتها بمدارسها التركية. نجح المؤلف في أن ينقل لنا، مأساة الحرب، و"تسلبط" الدولة، بأسلوب لا تنقصه أحياناً الفكاهة، في عرض هذه الأمور على لسان الشخصيات المسرحية، وفي مواقف - على مأساويتها - أمتعت المشاهد، وفرجت عن كربته، فباتت هذه المشاهد تذكرنا بمسرحية "السلام" لأريستوفانس، حين وجدنا بائعي الأسلحة، وترسانة الحرب وأدواتها، يدللون على القطع، ويسعون لبيعها حين لم تعد تجدي نفعاً...
ثم يعود، المؤلف، كي لا ننسى الأوضاع التي كانت مستشرية، ومضاعفاتها، ليصف لنا دخول الجنديين نبهان ومحمود، بأمر من القائمقام، على العائلة، في المشهد السابع، ومطالبتهما أن تقدم كل عائلة، ستة ألبسة، وستة أقمصة للعسكر الشاهاني، مع فرشة أيضاً وحرام لمأوى الأيتام. وفي المشهد التاسع، من الفصل الثالث نرى كوة في هذا الجدار الأسود، فتحها أديب لحود بروحه المرحة، حين أورد قصة دير البنات، التي وجدوا فيها أن الترجمة مغلوطة، وكان المقصود، ليس انزال جرس وحديد دير البنات، بل حديد الدور والبنايات. وذلك أتى تهكماً على مأموري القضاء، الذين غالباً ما كانوا يخطئون في ترجمة الأوامر التركية. أما نهاية الفصل الثالث، فتأتي على شاكلة، حدث غير منتظر أو Coup de Théatre. ففي المشهد الرابع عشر، يأتي سعد المستخدم من قبل عند الخواجا عارف، ليخبر هند، بعد أن ينطق بمعميات الأشعار، كمن مسه جنون أو خبل، بأن ابنها ريموند، وأثناء وجوده في حمص، اعتقلته حمى التيفوس، يوم وصلها، وقد قطع الطبيب منه الرجاء، وهو بحالة خطرة جداً. وقد قضت هذه الحمى على الكثيرين أثناء الحرب الأولى، اضافة الى الجدري وغيرهما من الأوبئة. وهكذا يسدل الستار على الفصل الثالث وسط وهلة وهلع العائلة، وصراخ الأولاد، والخروج المفاجىء والسريع لهند. وقد شعر المؤلف هنا، بوطئة المأساة، وضرباتها المتتالية، وهذا الصعود الحراري المفاجيء، والقاسي؛ فوضع بين الفصل الثالث والرابع نشيداً على لحن الغصن نأى مكللاً بالذهب ترطيباً للأجواء، بغنائية ورومانسية، وينهي هذا النشيد، برسالة من أم لولدها، ومن زوجة الى زوجها، من أجمل الرسائل الشعرية. لقد تابع أديب لحود الأحداث، بحس مسرحي، تمثيلي، أكيد، ولم يهمل شخصية واحدة، ولم يخفف من أهميتها، ولم ينس أو يتناس تفصيلاً، متسلحاً بمعرفة عملية، وبخبرة، وبحس بالايقاع، متقناً فن المفاجأة، ووقع الحدث، متحرياً عن مكانه الحقيقي، وزمنه أو توقيته الحقيقي. وقد شعر أن هند المعذبة بلغت درجة من المأساتية، خولتها أن تنطق شعراً، وهي في ذروة تألقها الدرامي، فتطلق صرخة في بداية الفصل الرابع، وكأني بها الخنساء ترثي أخاها صخر، وينهمر دمعها مدراراً على ولدها ريموند. وقد مزجت الشعر بالنثر في مرثية هي من أجمل ما كتب، ثم تتبعها بندب على طريقة المسرح الاغريقي، شبيه بهذا الترسل والاسترسال الذي كان الكورس بارعاً فيه، في اللحظات المأساتية الحرجة، والمؤثرة والفاجعة، وفي بلدنا لبنان تراث كبير، عززه الطلب الى الباكيات، والندابات، والى فرق الزجل، وأصحاب الأصوات الشجية، والمؤثرة، للقيام بهذا الدور، بغية مساعدة أهل الميت على تفريغ ما تراكم في داخلهم، وعلى التنفيس عن الاحتقان، والافراج عما في صدورهم من أسى وغم وحزن. ونرى هنا في هذا المقطع، النادر في أدبنا المسرحي، كل العائلة تشترك في هذه اللحظات، فيرتقي الحدث الى مستوى التراجيديا الحقيقية، ويأخذ معه الجمهور بكامله وهذا مؤشر هام وأساسي، على البعد المأساوي الذي سيتضمنه الفصل الرابع هذا. ما ترويه سعدى هو صورة مهمة عن الحرب، ومن الصعب البوح بها، لكنها حقيقة صارخة، أراد الأديب أن يجاهر بها، على لسان المتسولة التي حط عليها الدهر. شخصيات عديدة، ومتنوعة، وغنية، رسمها أديب لحود، لتمثل بمهارة، ودقة، والكثير من الخيال والشعور، بغية التأثير بالمشاهدين وتطهيرهم من ويلات الحرب، ونتائجها، وأحداثها، ومآسيها، وضحاياها، ونفسيات المشاركين فيها، والضالعين في مكائدها وأحابيلها، والمستفيدين من مضاعفاتها. فهلا جاءت هذه المسرحية تجيب على نظرية الكاثارسيس؟!
لقد بلغت المأساة ذروتها بموت هند، وظل أديب لحود، يتتبع مصير أفراد العائلة الباقين على قيد الحياة، مقتفياً أثرهم، واقفاً على أحوالهم، في الفصل الخامس والأخير من مسرحيته. ويجري هذا الفصل - بحسب اعتقادي - في الشارع، مما يتطلب صياغة مسرحية جديدة للفضاء الخارجي، فالعائلة التي تشردت، وتشتت شملها، جاعت، وشحذت، فتطيشرت. نرى سلوى لوحدها، في المشهد الأول من الفصل الخامس، تبكي يتمها، بأبيات شعرية، لها قيمة أدائية كبيرة، وقد كتبها أديب لتمثل، هذا اذا لم يكن قد كتبها خصيصاً للممثلة التي لعبت هذا الدور، ونراها بمفردها على قارعة الطريق، فيزداد حجم المأساة، وهول اللحظات التراجيدية. هناك اشارة في النص، تفضح المكان، وتشير اليه، فتؤكد اعتقادنا، ألا وهي قول سلوى له: “اذاً أمكث يا أخي هنا بقارعة الطريق”. ثم تتركه حيث هو وترحل.
المشهد الثالث نرى فيه هنري لوحده، يستعطف الناس شعراً مستعطياً. وفجأة يسمع غناءً لطيفاً معزياً من وراء الستارة، وهذا استعمال للصوت الخارجي أو ما نسميه في المسرحVoix off . ربما - كما يقول هنري، بايمانه المسيحي - هو صوت ملاك يناجيه، أو ترانيم سماوية. المشهد الرابع هو لقاء هنري بكاهن يعرف العائلة ويعجب لتبدل الأحوال من عائلة ذات يسر الى عائلة مشردة. طبق أديب لحود هنا شرعة التراجيديا أي الانتقال من السعادة الى الشقاء.
والحدث الآخر غير المتوقع وغير المنتظر يتم في المشهد الخامس، الذي يشهد - بعد فقدان الأمل - عودة عارف من الأسر. ويؤكد عارف على المكان بقوله لهنري ولده "كيف هجرت البيت واستعضت عنه بقارعة الطريق؟" والجواب أن لا بيت للسكن، فقد جاء الزلزال ولم يبق عليه.