سليمان البستاني - الأديب العالم
للبستاني منزلة سامية في الأدب لا يسمو اليها الا من خصه الله بمواهب نادرة. ويكفيه فخرا أن يكون واضع حجر الزاوية في بناء النقد الأدبي الحديث ومؤسس مدرسة أدبية عصرية، من تلاميذها أمراء النقد في الأقطار العربية الذين لم يتمكنوا من مجاراة أستاذهم مع ادعائهم أنهم "خلقوا" النقد الأدبي في اللغة العربية ووضعوا "أسسه الثابتة" وابتكروا قواعده المحكمة!
ومنزلته الأدبية تظهر جلية في مؤلفاته، وقد طبع منها: ترجمة الالياذة ومقدمتها الفريدة، الجزء العاشر والجزء الحادي عشر من دائرة المعارف (وضعهما بمعاونة نسيبيه نجيب ونسيب بطرس البستاني) وعبرة وذكرى (درس فيه الأحوال السياسية العثمانية قبل الدستور وبعده) و"ستينوغرافيا" (درس فيه طريقة الاختزال، وهو الأول من نوعه في اللغة العربية). ومن مؤلفاته التي لم تطبع بعد: ديوان شعره، ورحلاته ومذكراته وتاريخ العرب في ألفي صفحة.
وهو أوسع أدباء عصره ثقافة، كان عالما أعظم منه أديبا وسياسيا . ومن دواعي الفخر أن نقول ان اللغة العربية لم تعرف نابغة، قبل سليمان البستاني اللبناني، قرن العلم الواسع بالأدب العربي العالمي وكان مجليا في الميدانين، حائزا قصب السبق في الشوطين، جمع الى الأدب العربي آداب الشعوب الأعجمية، وتضلع من العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخية والجغرافية والسياسية. وكثيرا ما خطب في مجلس المبعوثان بعدة لغات ليفهم أقواله النواب على اختلاف عناصرهم وبلادهم لأنه كان يحسن اللغات العربية والسريانية واليونانية والفارسية واللاتينية والانكليزية والفرنسية والايطالية والتركية ويلم بالعبرية والألمانية والروسية والهندية.
وعلمه وأدبه ظاهران في تعريب الالياذة وشرحها والتعليق عليها، وخصوصا في مقدمتها التي تقع في مئتي صفحة كبيرة. وقد قسمها واضعها خمسة أقسام درس فيها حياة هوميروس (القرن 9 ق.م) ونسبه وأدبه والالياذة وقيمتها وسلامتها من التحريف. ومن المعروف أن بعض العلماء يزعمون أن هوميروس (ناظم الالياذة) شخص وهمي وأن الالياذة مجموعة قصائد متفرقة لشعراء كثيرين ضاعت أسماؤهم. فأسهب البستاني في هذا القسم من المقدمة واستعرض آراء هؤلاء العلماء وجادلهم وفند حججهم ورد براهينهم وأبطل زعمهم. فتراجع المذهب الوولفي أمام الحجة والعلم والمنطق وظهر أن أتباعه - وعددهم في أوروبا كبير- لا يستندون في مذهبهم الى آراء تثبت أمام نور العلم الساطع.
ثم يقابل المؤلف في القسمين الأخيرين من المقدمة الشعر العربي بالشعر اليوناني، واللغة العربية باللغة اليونانية ، وجاهلية العرب بجاهلية اليونان، وملاحم العرب (الشعر الجاهلي) بملاحم الأعاجم. ويستعرض خصائص اللغة العربية واحدة واحدة "كتعدد المعاني للفظ الواحد وتعدد الألفاظ للدلالة على مسمى واحد". ويتكلم على فقر اللغة العربية وغناها معا . ويخص حالة اللغة في عصر الانبعاث بكلمة مقتضبة وافية. ثم يتنبأ عن مستقبل اللغة والشعر، فتحقق الأيام بعض نبوءته قبل أن يخمد الموت أنفاسه.
ومن يطالع مقدمة الالياذة يعجب بغزارة علم واضعها وبعد نظره وثاقب فكره وأسلوبه العربي الخلاب وتعابيره البليغة واخلاصه المجسم للعلم والفن والتاريخ.
وقد عرف المجمع العلمي في أثينا قدر هذه المقدمة فقرر ترجمتها وضمها الى الياذة أكبر شعرائهم. فاقترن اسم النابغة اللبناني باسم النابغة اليوناني وسجلا على صفحة واحدة في سفر الخلود.
ونحب أن نعتقد أن أدباءنا المجددين سيرجعون يوما الى الصواب ويعكفون على دراسة البستاني فيعترفون بفضله على اللغة العربية وبأدبه "التوجيهي القومي"، فيرفدون أدبنا قدرا جليلا من الفوائد تزيد لغتنا ألقا وتوهجا ونماء.
الضاد - رياض عبد الله حلاق