رشيد نخله أمير الزجل (1873-1939)
يقول جرجي نقولا باز في جريدة المكشوف عن رشيد نخله انه زعيم سياسي تولى وظائف عديدة في ثلث قرن. ألمعيّ. نظم الشعر خمسين سنة. وان أسرة نخله تعود الى بني هاشم ويتصل نسبها بالنبي. نزحت من الحجاز في القرن السابع للميلاد. ولها في لبنان مئات السنين. الى أن جاء من أفرادها الشيخ نخله الهاشم من العاقورا من قصبات بلاد جبيل الى الشويفات ثم الى الباروك سنة 1761. يعلّق أمين نخله في مقدمة " كتاب المنفى" لوالده رشيد نخله على ما يقوله جرجي نقولا باز ويصحّح ويضيف بعض المعلومات عن أصل عائلة نخله. ونحن لا نرى من فائدة في الاسترسال في نسب رشيد نخله وذكر أشياء لا علاقة لها بشعره. ومما يذكره الفيكونت طرازي أن رشيد نخله قد أنشأ مكتبة " الخزانة النخليّة" سنة 1906 في الباروك مسقط رأسه، تضم آلاف الكتب العربية قديمها وحديثها تغلب فيها كتب اللغة والأدب والتأريخ والحقوق وسواها، ثم لمّا انتقل الى بيروت بعد الحرب العالمية العظمى (1914- 1918) نقل مكتبته هذه معه.
ولد رشيد نخله في 6 شباط 1873 وتعلم في مدرسة عين زحلتا ثم في مدرسة سوق الغرب الأميركية. باشر الوظائف كاتب تحرير قائممقامية بلاد الشوف، على عهد الأمير مصطفى أرسلان، في زمن المتصرف نعّوم باشا، ثم في الجندية اللبنانية، فمدير العرقوب الشمالي 1907 خلفاً لوالده، وقائممقام جزّين 1911 . ثم تولى مديرية دير القمر الممتازة 1914، وفي سنة 1915 نفي الى القدس. وفي 1918 تعين رئيس القلم العربي، ومدير معارف لبنان، فمدير الأوقاف والأديان والمصالح العامة في الجبل، وهذه الوظيفة أنشئت خصيصاً له، وألغيت لما انفصل عنها. سنة 1920 عين مفتشاًً للأمن العام وفي سنة 1925 عين محافظاً لصور وبقي في المحافظة خمسة أعوام الى أن أحيل سنة 1930 الى التقاعد.
ولا بأس هنا أن نورد هذا المقطع من مقالة كتبها رشيد نخله بعنوان " السياسة " يظهر فيها فهمه للسياسة التي يرى أنها تفسد أخلاق المرء وترغمه على التخلي أحياناً عن كرامته وعزة نفسه، يورد أمين نخله مقطعاً منها في تقديمه لكتاب والده ننقله فيما يلي:
" السياسة قبر المروءة، وحرفة المصلحة، وصناعة الحيلة! على أن افتراش التراب والتحاف السحاب، مع الاحتفاظ بعهد صاحب، وذمة وليّ، وبهذا السائل الثمين من ماء الوجه لأكرم، عند النفس العزيزة، من لمعة جاه تقوم على خراب وداد، وتقويض مروءة ".
" فيا أهل السياسة: رفقاً بنا! ودعونا نبّر بوعد، وننهض بعهد، ونجيء الصديق في نوبة الضيق، ونمدّ الأصابع العشر في وجه من يمدّ في وجهنا اصبعاً واحدة. واسمحوا أن لا نتزحزح الى صاحب السلطان قيد فتر، اذا هو كان لا يتزحزح لنا قيد شبر ويرحمكم الله!!".
حبذا لو يوجد بين أهل السياسة عندنا في لبنان من يطبّق هذا الكلام الرائع في السياسة التي ما دخلت شيئاً الاّ وأفسدته كما يقول الشيخ محمد عبده!
عاش رشيد نخله أنوفاً، مجاهداً في سبيل الكرامة القوميّة والحريّة. وهذا ما تقوله عنه مجلة الفجر بعد رحيله:
" لقد انطفأ بموت رشيد نخله مصباح من مصابيح الرجوليّة اللبنانية، التي استقوى السلف الصالح بها.
واستقلّ، وباهى بها النشء الجديد واعتزّ، تلك الرجولية الحقة السبّاقة المجلّية في ميادين الحريّة والكرامة...".
يقول الدكتور رئيف أبو اللمع :" وأيّ لبنانيّ، أو لبنانيّة، نسي أو ينسى، ذلك الرجل الذي ولد على قمّة من أعلى قمم لبنان، فتتسّم هضابها العالية... وولّدت فيه تلك الهضاب الصلبة الصلابة في العقيدة، فما داجى وما تبدّل، ولا داهن ولا تلوّن، بل كان يلقى الاستبداد بالاستخفاف، والغضب بالرصانة، والقوة القاهرة بالابتسامة الساخرة، فحملته هذه الخلال النادرة الى صدر المجالس، فكان الزعيم المحبوب، والآمر المطاع...".
مارس رشيد نخله الصحافة فأنشأ جريدة " الشعب" في عين زحلتا في 28 أيلول 1912 وهو مقيم في نبع الصفا وكانت توزع مجّاناً في سبيل الحرية ولوجه الأدب. يقول أمين نخله :" وكانت " الشعب" في أول عهدها، تطبع " بمطبعة دير القمر" في دير القمر، وكان مكتوباً في صدرها: " جريدة جامعة أنشئت لخدمة الشعب، توزع مجاناً" وفي 8 من نوّار سنة 1922 أصدرتها أنا في بيروت. ولقد صدرت " الشعب" يومئذ، أسبوعية، فمنعتها الحكومة من الظهور ثلاث مرات، ثم أصبحت يومية فمنعتها أربع مرّات، ثم صدرت أسبوعية فمنعتها مرّتين، ثم صدرت يومية فمنعتها مرّات، لا أتذكر عددها، فأوقفت، مذ ذاك اليوم عن اصدارها. وهكذا يكون كاتب هذه السطور ( أي أمين نخله) قد " وفى بعهد الوفا" غير مرّة...
وهو يشير هنا الى بيتي الشعر اللذين نظمهما والده رشيد نخله يوم عهد بجريدة " الشعب" الى ابنه ووحيده أمين:
لنا جبل الله كافل مجده وفِتيَته، والحق، والعدل، والوفا
فكن أنت برّاً يا (أمين) بعهده ومثلك منّي من بعهد الوفا وفى
ترك رشيد نخله سلسلة من الكتب تدور حول الشعر والزجل والمذكرات والتاريخ والنقد والأدب والاجتماع والرسائل والسياسة. نظم بالفصحى وبالعامية كما كتب النثر. وفيما يلي ثبت بمؤلفاته:
في الأدب والاجتماع: " كتاب الماضي" ( مجموع من فصوله بين الأدب والاجتماع)، و" مذكرات رشيد نخله" ( مجموع من مذكراته الأدبية)، و" رسائل رشيد نخله" ( مجموع من رسائله، وهي في مختلف أطوار المواصلة)، و" غريب الدّار" طبع في بعبدا سنة 1898، و" العواطف اللبنانية"، طبع في بيروت سنة 1910.
وفي الشعر: " ديوان الشاعر السماويّ "، وهو ديوان شعره. اختير له هذا الاسم لقول وليّ الدين يكن في رشيد نخله، وذلك في كتابه " عفو الخاطر" (ص 97- طبعة سنة 1955)، انه شاعر سماوي.
وفي الزّجل: " محسن الهزّان" (رواية)، طبع أوّل مرة في بيروت ، سنة 1936، ثم طبع في البرازيل سنة 1940، ثم في صيدا، وهي طبعة غير مؤرخة، ثم في دمشق، منتحلاً له اسم " هند بنت جفيل". وهذه الطبعة، أيضاً، هي غير مؤرخة. و" معنى رشيد نخله" ( وهو ديوان أزجاله)، طبع في بيروت سنة 1945 ، و" عنتر" ( رواية)، و" تكملة معنّى رشيد نخله" (وهو ما عثر عليه من أزجاله، بعد طبع ديوانه الزجليّ)، و" الديوان اللبناني" ( مجموع من منظومه في مختلف الطرائق الزجليّة الجارية في لبنان).
وفي السياسة: " كتاب المنفى".
وقد ذكر المستشرق لو سرف في كتابه " الأدب العاميّ ".
(Litterature Dialectale.TII et III, 1932-1933, le Caire). ما ملخّصه معرّباً (ص166):" نظم رشيد بك نخله 12000 بيت من الشعر و18000 بيت من الزّجل". وهو مبلغ حساب أخذ فيه المؤلف بالظنّ كما لا يخفى.
يقول الشاعر الشيخ أمين تقي الدين عن رشيد نخله الشاعر :
" في مكتبة ( الزهور) شيء يسير من شعر هذا الشاعر المطبوع، وانما هو قليل من كثير لأن رشيداً محبّ للشعر جوّاد القريحة، غير أنه قليل الاكتراث لبنات أفكاره، وعدوّ للشهرة والظهور. يقول الشعر ليلذّ نفسه، ويطرب فؤاده، فاذا ما اكتفى لذّة وطرباً رمى بأوراقه في أدراج مكتبه فليس تنفتح عليها تلك الأدراج ولو ثقبناها بمسمار....".
وأما الشيخ خليل تقي الدين فقال فيه :
" فكان الرشيد في لبنان كما كان ميسترال في فرنسا، الشاعر الذي يستروح الناس في فنّه عبق الأرض، وطهر السماء، ونفحة العبقرية البكر والالهام".
ويقول عنه مارون عبود :
" ان الرشيد خير من حفل زجله بالصور والمعاني والألوان، وقد تجد كثيراً من هذه الصور في الشعر الفصيح، لأن أبا أمين شاعر فصيح واسع الاطلاع، وقف حياته على السياسة والشعر، واني أكتفي هنا ببيتين أؤيد بهما ما أقول، قال رحمه الله:
لمّا الشمس عتقت في سماها شاف ربي الدني بتظلم بلاها
خلق محبوبتي تتنوب عنها وهبها مثل ما بدّا وعطاها".
النشيد الوطني. اذا ما ذكر النشيد الوطني اللبناني " كلنا للوطن" ذكر رشيد نخله ناظم هذا النشيد سنة 1926، وكلما ورد ذكر اسم رشيد نخله كلما تبادر الى الذهن " كلنا للوطن" الذي يدعو فيه الى الالتفاف حول الوطن والدفاع عنه والذود عن كرامته. فلا بأس من أن نورد هنا بايجاز، في قصة نظم هذا النشيد نقلاً عن جريدة " بيروت"، في عددها المؤرخ في 22 تشرين الثاني سنة 1944، فصلاً بعنوان " كيف نظم رشيد نخله النشيد الوطني" جاء فيه: ألّفت الحكومة عام 1925 لجنة تحكيم بين الشعراء المتبارين في نظم النشيد الوطني على رأسها الأستاذ الكبير الشيخ عبد الله البستاني ومن جملة أعضائها الشيخ ابراهيم المنذر والأستاذ عبد الرحيم قليلات والأستاذ وديع عقل والأستاذ الياس فياض وسواهم. وجعلت الحكومة للشاعر الفائز في المباراة جائزة مالية قدرها 1000 ليرة سورية. وقد تبارى معظم الشعراء في لبنان وفي المهجر.
" وكان رشيد بك يومئذ في بيروت، وصادف ذات مرّة انه كان في بيت أحد أصدقائه من كبار رجال السياسة في البلاد، ودار الحديث على النشيد الوطنيّ ومباراته، فقيل في الجلسة انه أصعب شيء ايجاد نشيد وطنيّ عامّ في وطن مقسّم الميول والنزعات والطوائف، أشبه ما يكون بالفسيفساء وبرج بابل. فقال رشيد بك: ولكن الشعراء المتبارين لا يعدمون ايجاد النشيد الجامع لمختلف النزعات في الوطن، كأن يقال مثلاً ( كلنا للوطن) فقيل له: هذا والله أبرع استهلال، فليتك يا رشيد بك تمضي في النظم عليه، وهكذا كان". الى أن قالت: " وكتب على نسخة النشيد ما يلي: اذا فاز هذا النشيد فالجائزة متروكة لفقراء البلاد". الى أن قالت: " وكان رئيساً للوزارة يومئذ فخامة الشيخ بشارة الخوري، فلما أرسلت اليه القصيدة الفائزة وعليها اسم ناظمها قال في مجلس الوزراء هذه الكلمة المشهورة: ( الحمد لله فان صاحب نشيدنا الوطني من أشهر رجالنا الوطنية). وكان في الأصل هذا المقطع:
ما عرانا انفصال في الملمّ العصيب
الصليب الهلال الهلال الصليب
فاجتمع فخامة الرئيس الشيخ بشارة الى رشيد بك، واقترح الشيخ بشاره حذف هذا المقطع، وكان ذلك في جلسة لمجلس الوزراء، كي لا يكون في النشيد ما يذكّر اللبنانيين بطائفية وانقسام، فقبل رشيد بك بذلك وحذف المقطع.
"وكان بعد فوز النشيد أن أرسل وزير المعارف الى رشيد بك كتاباً رجاء فيه ( لقد ذكرتم أنكم ترصدون قيمة الجائزة لمساعدة الفقراء في الجمهورية، فأرجو اعلامنا الجهة التي تريدون أن ينحصر المبلغ فيها) فأجابه رشيد بك بكتاب ، هذا بعضه: ( الفقراء، كما لا يخفى على الوزير الصديق، متكافئون في الحرمان، متماثلون في الخيبة، وفي تأخر رحمة الله، التي وسعت السماوات والأرض وضاقت عليهم. فهو يرى معي، ولا ريب، أنه لا يجوز أن يفضّل بعض الفقراء على بعض، في هذه العطيّة التي هي جهد المقِلّ، والتي لا تغني من فقر، لكنّ معناها يدخل على أولئك المحزونين في ظلّ الحياة شيئاً من البهجة، ويمثّل لهم، في صورة صادقة، صناعة المشتغلين بعواطف القلوب). فوزّع المبلغ على الفقراء في جميع الجهات.
" ومن أطرف ما نقل عن لسان رشيد بك أنه لقي في نظم النشيد سهولة وانشراح بال، لم يعهدهما في منظوماته الأخرى، وأن أكثر ما جاءه يومئذ من الهام قد استدعته لفائف الدخان، فانه كان يومئذ قد ترك التدخين، فلما أقبل على نظم النشيد لم يمتلك نفسه من طلب اللفائف. وأنه نظم أكثر المقاطع في يوم من ربيع سنة 1926، في حديقة داره التي تقع اليوم في محلة (الظريف) في ( شارع رشيد نخله).
"وقد نقلت الجرائد يومئذ أن المرحوم عبد الرحيم قليلات لما وصل القارىء في لجنة التحكيم الى هذا البيت:
أرزه عزّه رمزه للخلود
وكان المرحوم عبد الرحيم بك على لسانه شيء من اللهجة المصرية قال ( دا مش عاوز تنغيم... دا نغمتو منّو وفيه!) يلمّح الى طرب الفرائد والتركيب في هذا البيت".
فكانت مكافأة رشيد نخله لنظمه النشيد الوطني أن أقر مجلس النواب اللبناني في جلسة عقدت في 15 آذار سنة 1948 تشييد ضريح له في مسقط رأسه الباروك.
أمير الزجل. بويع رشيد نخله بإمارة الزجل سنة 1933 فكان أول أمير للزجل في لبنان لفضله في النهوض بالزجل الى مقام الشعر. وقد أقيم احتفال كبير لمبايعته بالامارة، ترأسه الأمير فائق شهاب باسم الحكومة، في نادي الكريستال الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس المصادف 13 نيسان سنة 1933 لم يحضره رشيد نخله لأن ساقه كانت قد بترت بسبب مرض السكر الذي أصابه.
يشير الى قطع ساقه ما قاله عيسى اسكندر المعلوف:
كنت بالساقين سبّاقَ الورى وبساق فزت في خَصلِ السباقِ
يا رشيدَ القوم للتاريخ قل: ليس تحيا نخلة الاّ بساقِ
وكان يعاني من مرض السكري ومرض القلب فكان يتناول الأدوية باستمرار وفي ذلك يقول:
" أنا ولبنان حقلان للاختبار: لبنان لتغيير الوجوه وأنا لتغيير الأدوية" .
قبله كانوا ينظرون الى الشعر العامي على انه مظهر من مظاهر الانحطاط في الأدب، والضعف في الشعر. فلما أرسل رشيد نخله أزجاله النابضة بالحياة، وغنّى أناشيد الحب والوطنية والأرض، غناء قروي خالٍ، يصدر عن طبيعة سمحة، ونطق بلسان الراعي السائر مع الفجر وراء قطعانه ، والفلاح المنحني على الأرض فوق محراثه، والجبليّ العائش في إطار الطبيعة الفتّان، تغيّر رأي الناس في هذا الشعر، وبدأوا ينظرون الى الزجل نظرهم الى فن من فنون القول الجميل" .
يقول رشيد نخله عن نظمه شعر الزجل:
" عرفت منذ أول عهدي بنظم الزجل أن هذا النوع من التعبير هو لغة المهد، وعرفت فوق ذلك أن الأديب العربي انّما هو يترجم خواطره ترجمة، أي على عكس الشاعر العاميّ الذي يلقي فكرته الى لسانه دون حاجة الى الترجمة، اذ انه يفكر باللغة التي يكتب فيها. أما الأديب العربي فهو يفكر بالعامية ويكتب بالفصحى" .
وقال في موضع آخر:
" كان الزجل في لبنان، لبضعة أعوام، وقفاً على المديح والرثاء والغزل والفكاهة. أما اليوم فقد اتّسع، والحمد لله، مجاله، حتى لقد صار في مستطاع الزجّال اللبناني أن يطرق أبعد المواضع، دون أن يخاف من تراجع قراء الزجل عنه! ويلذّ لي أن أقول هنا إني نظمت، منذ سنتين، زجليّة كان موضوعها " قدح عمر الخيّام"، ولقد تذوّق الناس تلك الزجليّة، وطربوا لها، ولم يجدوا بابها غريباً عن باب الزجل. وإني لأسرّ أن أرى الزجل وقد أصبح في هذه الأعوام القليلة، على درجة عالية من العمل الجديّ. ولقد ظهرت في بيروت، وفي الجبل، جرائد زجلية، ومجلات زجلية، وأفسحت الصحف العربية، حتى اليومية منها، مجالاً رحيباً للزجل والزجّالين" الى أن يقول:
" لم أتأثر مباشرة من أدب أجنبي فإني لا أعرف من اللغات إلاّ العربية".
يقول رشيد نخله عن أهمية شعر الزجل ناقلاً كلام الكاتب لفرنسي Maurice Barres (1862-1923) في " كتاب المنفى" (ص130)، وكان قد دعاه الى الباروك عندما جاء في زيارة الى لبنان:
" الآن عرفت ما كنت أجهله، فإنكم، أنتم جماعة الشعراء الشعبيين، تعيشون في بيوت الناس، ونحن نعيش في كتبهم... فلا بدع إذ نراكم أشد حرارة منّا".
ثم يتناول (ص131) الشاعر الفرنسي الزجّال الشهير ميسترال Frederic Mistral (1830-1914)، إمام الزجالين في فرنسا، غير مدافع، والفائز بجائزة نوبل للآداب سنة 1904، والذي كان ينافس شاعر فرنسا الكبير فيكتور هوغو Victor Hugo(1802- 1885)، مبيناً أن لميسترال الفضل في انبعاث اللغة البروفنسية في فرنسا.
الى أن يقول :
" بقي شيء آخر أرى التبسّط فيه، اليوم، لزاماً عليّ، وهو ما يقوم في الأذهان من أن الزجل بمثابة حرب على الفصحى. فأستغفر الله ألف مرة!! ما كان الزّجل في الأندلس أمس، ولا في مصر، ولبنان، اليوم، ليَزجّ بنفسه هذه الزجّة! فإنما الزّجل، فخره، كلّه، في أن يرى وجهه في زاوية من مرآة الفصحى، ويكون عليه شيء من روعتها، وشيء من طلاوة ألفاظها، وحلاوة حواشيها، ولباقة الأخذ بين خافيها وباديها! والعربية، حين يقال ( إن الشاعر الزّجلي يخرج فكرته، وهي بعد حامية، طلقة، كما تمخّضت بها قريحته...) فمحاسنها لا تعد، وحسناتها، الى صاحبها، لا تحصى. وإذا كانت هذه حسنة الزّجل الى الزجّال، فما ترى يقال في حسنات الفصحى الى الشاعر، وعنده منها كفّتا ميزان العرب: البلاغة والفصاحة؟!
" فالزّجل إذن، عيال على العربيّة، من قديم الزمن الى اليوم، فضلاً عن كونها لسان الأمّة، والزّجل لسان طوائف منها، يوم تترك فصاحتها بعض الحين، وتقبل على عاميتها! وإني ما اخترت العاميّة، بدلاً من الفصحى، كما وهمت (له نوفل ليترير)، بل أراني أقبل على العاميّة، حين أترك الفصحى، وأقبل على الفصحى، حين أترك العاميّة، ميلاً مع الخاطر العارض، أو المناسبة الحاتمة" .
يقول أمين نخله في المقدمة الوافية التي وضعها لديوان والده " معنّى رشيد نخله" ما يلي:
هذا كتاب جمعت فيه قصائد والدي، رحمه الله، في الشعر العاميّ- أي المعنّى في اصطلاح بني قومنا في بلاد الجبل- وقد اخترت بعضها من لجج أوراقه، التي سلمت من الضياع، واخترت بعضها الآخر من قصاصات الجرائد التي كانت تتناقل أقواله وهو في الحياة، ومن رواية الرواة الذين عاصروه، وسمعوا منه. وقد احتطت في ضبط المخطوط أشد الاحتياط، وحرصت على التثبّت من المنقول، والتّمحيص من المرويّ أشد الحرص، نازعاً في ذلك الى التقريب من الأصل، الذي استقام على ذوق والدي، في المعنى وفي المبنى، ثم رتبت الديوان على سبعة أبواب:
أوّلها: " المرأة والجمال" وهو في وصفها وتشبيهها من خلال الشعور بها.
الباب الثاني: " الحب والطبيعة" وفيه القصائد ذات التوصيل بينهما.
الباب الثالث: " الغزل وما يتّصل به"، وقد جمع هذا الباب حاشيتي عمر والدي. ففي هذا الكتاب
قصائد نظمها وهو في مقتبل الصّبا، وقصائد نظمها وهو في السن العالية. ولم أشأ أن أبيّن الدواعي التي قيلت فيها هذه الأغزال، ولا أن ألّمح الى الأعزّة الذين تعرّض بحبهم، ومنهم من غبر، ومنهم من لا يزال في الحياة، وذلك لأسباب تدرك بأدنى تأمل! ولكنني أقول ها هنا إنه لا يوجد في هذا الباب بيت واحد قاله والدي في غير مناسبة... قلت في بعض مقالاتي، التي نشرتها من بضع سنين، بعنوان: " تحت قناطر أرسطو" ، في الكلام على " الشخصية" في الأدب، وما ينبغي لها من صدق وطلاقة: " ترعرع والدي على الماء والضياء، في الجبال. فكان عود شبابه يورق عند ضفة، وتخفق أوراقه على رابية، أو على حفاف وادٍ. فيسابق ذلك الشاعر الصبيّ موجة الصبح، حين تندفق على مباسط الهضبة، ويصرخ في عصفة الريح، ويطلق قدميه في حقل السنبل! فنشأ على الطلاقة في ريف من أجمل أرياف الدنيا. وكان أن استهلّ النظم بالزّجل. فظلّ ينظم الأزجال في بعض الصبايا أعوامًا لا تعد على الأصابع ، لكثرتها- كان شأنه يومئذ شأن " ميسترال" في " مايان"، قبل عهد "ميسترال" بالقصائد البعيدة الأغراض، من مثل " ميراي"- فإن لوالدي ديوانًا يدور من الدفّة الى الدفّة على خدود الصبايا، وخدود الصباح في " الباروك"، وهاتيك الجهات، كلما حرّكنا أوراقه عبقت في البيت روائح العرعر والشيح والشّفاه والوجنات... حتى لقد بات والدي، بعد أن شطّت به الأيام عن الصّبا، هيهات أن يفتح باب تلك الجنّة الموصدة، الاّ إذا خلا بنفسه.
الباب الرابع: " قصص الحب"، وفيه القصار من الحكايات والوقائع، أمّا المقصّدات " كمحسن الهزّان" و " عنتر" فليست في هذا الديوان.
الباب الخامس: " التجاريب والعظات"، وفيه أيضاً قصائد تدور على الحياة والغيب، وتطرق أشهى مقامات القول في هذا الموضوع السنيّ.
الباب السادس: " اللبنانيات"، وفيه قصائده في حب لبنان، ووصفه، وذكر أيامه، بين متقادمة وقائمة.
الباب السابع: " الخصوصيات"، وهو في أحاديث والدي عنّا، نحن أهل بيته، في مختلف أيامنا بأحوال العيش. ويجد القارىء في هذا الباب رأي والدي في تحجيب المرأة، واستحسانه لذلك، واستقباحه لاختلاط النساء بالرجال، وما أورد في تأييد رأيه من براهين وحجج. وهو رأي في التأديب النسوي انفرد به في النصارى، وقام حوله جدل كثير.
أمّا منظوماته في " القرّادي" و " العتابا" و " الميجنا" و " أبو الزلف" الى غيره من الطرائق الزجلية في الجبل، فهي ليست في هذا الديوان. وكذلك لا يجد فيه القراء منظوماته في " الشروقي" و " الموّال البغدادي" و " الموّال المصري" و " المواليّات" الى غيرها من فنون العامّة. ولسوف أجعل ذلك، كلّه، في ديوان مستقل.
يقول عنه صلاح لبكي :
" لقد استقام عنده الشرطان الضروريان لخلود كل صنيع فنّي: لغة عذبة أنيقة في سذاجتها، ومعان متصلة اتصالاً وثيقاً بالنفس البشرية".
الى أن يقول: " إن في شعر أبي أمين صورة حيّة للبنان بما فيه من سماء عالية وأودية وجبال وعيون ماء نسجت عليها الطبيعة، وبما فيه من عادات وتقاليد، صور حيّة للبنان الأنوف ، المجاهد البائس الجميل".
يقول رشيد نخله في مقابلة أجراها معه سليم أبو جمرة سنة 1932 أعادت نشرها " المكشوف" في عددها الخاص برشيد نخله:
" انه ينظم الشعر في أية سانحة وفي أي مكان، ولكن ليالي ضوء القمر أحب الأوقات عنده للنظم".
ويضيف أن أبدع أزجاله الذي يقول فيه:
خمستعشر عام أهنا من الغفا مرّت مرور الريح عا حفة قنا
عندما توفي رشيد نخله فجأة، صباح نهار الجمعة 10 تشرين الثاني سنة 1939 في الباروك، تسابق الشعراء الى رثائه فقيل في رثائه شعر كثير أكتفي هنا بذكر بعض الأبيات.
قال خليل مطران:
إذا ما روضة الآداب باهت بعالي الدّوح باهينا " بنخله"
وقال في مرثية ثانية له:
أمير القول: بعدك من يقول بلغت الشأو، وامتنع الوصول
وقال شبلي ملاّط:
الواسع الصدر، إلاّ أن يقال له لبنان قد مسّه ضيم فيحتدم
وقال بولس سلامه :
....
نشيده جبل الباروك متشحاً بالوهج فوق ظلال الروح والسحبِ
فيا له وطناً كان الرشيد له غضنفراً ذائداً عن غابه الأشبِ
لئن رأى غيره في الأرز مجتمعاً لشائخ السرح والبالي من الحطبِ
أبو امين عرين الليث مجلسه وطلعة الهاشمي المغرِقِ الأربِ
يحكي فتخشع إجلالاً لحكمته وهو الأنيس فلا عذر لمضطربِ
منزّه القلب عن جبن وعن حسدٍ منزّه القول عن فحشٍ وعن ريبِ
أرسى من الطود إما سَرّه زمن أعلى من الطود عند الحانق الحَزِبِ
تظن لبنان في برديهِ منطوياً كأنما أنت بين الطَلِّ واللهبِ
هذا هو رشيد نخله الشاعر الذي نشأ وترعرع في بلاد الجبل الشوفي، في تلك الهضاب العالية بين نبع الصفا ونبع الباروك حيث الينابيع الصافية والماء المترقرق والنسيم العليل!
كان شاعراً مبدعاً جعل الزجل فناً من فنون القول الجميل والشعر الراقي، وزعيماً وطنياً ومجاهداً استقلالياً، وكاتباً عظيماً ووطنياً كبيراً.
وفي ختام هذه المقدمة عن الشاعر رشيد نخله آمل أن يبقى اسمه خالداً ومشعاً في ذاكرة الشعب اللبناني، وهو الذي عمل في سبيل استقلاله ووحدته قصارى جهده، وكرّس حياته لتحقيق ذلك.
إنّ أهم تكريم لرشيد نخله يكون في أن نكون " كلنا للوطن".
في تاريخ الشعر العربي الطويل لا أجد شبيهاً بالمتنبي الذي نجد في أغلب قصائده الشهيرة بيتاً سائراً هو بيت القصيد أو معنى مبتكراً، أو قولاً رائعاً، سوى رشيد نخله في أجزاله، التي تتضمن العديد من الأبيات الرائعة ذات الخيال الواسع الخلاّق والمطالع الفخمة الضخمة.
وفيما يلي أبيات مختارة من " معنى رشيد نخله" مع ذكر الصفحات التي وردت فيها وأغلبها في الغزل:
إن بكيتِ الكون من أجلك بكي وإن اضحكتِ انهزّ عرش الملكي
وكل شيء ربّي خلق لطف وجمال أعطى البشر قيراط والبقوي لكِ
(المعنى ص 85).
من قوله يخاطب البحر:
يا بحر: حق الساجنك في موضعك روحي على موجك بتتموّج معك
حطيها يا بحر فوق قطعة خشب وحلّفت عيني انكان بعد بتقشعك
(المعنى ص 113).
من قوله يخاطب القمر:
يا مليعِب العِشّاق عحبال الهوا تلاتين ليله والقلوب تركض وراك...
(المعنى ص 115).
لا عدت تقشعيني ولا عدت اقشعك ولا عاد ينفعني الحكي ولا ينفعك
بكرا متى قبالك مرق نعش الحزين منّو لحالو بينحني تيودّعك
(المعنى ص 126).
قالت حرام تشيب انت وشيب أنا ولا من الهوى شبعنا ولا من بعضنا
(المعنى ص 137).
قرّبت من قلبي جِفِل منّي ونَفَر وقللي معك ما بروح رَح برجع مَعو
(المعنى ص 210).
يا ريت لي قلبين قلب بعيش فيه وقلب تاني في هواك بعذّبو
(المعنى ص 216).
جيت للدني بغير خاطري يا أهل الوهام اتركوني عيش فيها بخاطري
(المعنى ص 235).
حب الوطن هَيدي وصيّه من الاله يا ابن أرز الربّ لا تِعبَد سواه
لبنان عروس الكون كيفما رِحت روح لا متل أرضو ولا سَما بتشبه سماه
( المعنى ص 266).
إنَّ شعراً فيه مثل هذه الأبيات هو شعر خالد لا يموت لأنه صناعة المشتغلين بعواطف القلوب، صناعة اللواعج والمواجيد!
هذا شعر أجمل من الجمال!
د. ميشال خليل جحا، أعلام الشعر العامي في لبنان، دار العودة، دار الثقافة، بيروت.