تكريم الشاعر محمد الماغوط - محمد الماغوط رمى الشعر بسهامه
مسرح المدينة 23 حزيران 2006 - شوقي أبي شقرا
أيكون قيس الحداثة وليلاه هي، هام بها في صحراء السليقة والفراسة، هذا القادم الى بيروت السعيدة، من بلاده السعيدة وما معه متاعا سوى قميصه وبنطلونه، وشنطة النضارة وسوى بعض الأوراق، سوى قصائد تحزن كل الحزن في ضوء القمر، وما معه سوى صمته جالسا به هادئا ومتطلعا ومرتاحا ومدهوشا لهنيهات من الانتظار والاصغاء في الغرفة المزدحمة.
هذا القادم الذي انما يبالي بالسطور والحروف والكلم ومثلما يضرب زيد عمرا في الكتاب، ضرب الشعر التقليدي مرة جديدة وقفز من هناك الى ما وراء الأكمة حيث تفترض العجائب، وحيث لا يدرك ماذا فيها سوى الشعراء الأقحاح، والذي في ما بعد كان كأنه يفعل فعل المثل، انه يضرب الشعر لكنه قبالة الحبيب هو زبيب. والذي كرر أمره وتمرده، أنه ضرب القافية بحجره الفلسفي، ومن ثم، في مرحلة تالية، أتبع ذلك نحوها مسبة وشتيمة وفش خلقه باختصار ونكهة.
قدم، كما قلت، الى مجلس من خميس مجلة شعر، وكان على تلك الصورة من الهدوء والتريث. والذي أتى به هو الشاعر والناقد نذير العظمة، وهناك الأخرى سيكارته، كما لا شك أنه يوازينا في كوننا نحتاج الى ما يحتاج، الى أن تكون الأموال ليست مواعيد، وكنا جميعنا في ذلك الانشقاق بين المغامرة وبين ما يقيلها وما يغنيها وما ينشطها. وكان ذلك القادم الينا يبدو متحرقا وفي أقصى التباين واقصى الانسجام، ولا أحد أحلى من أحد، كلنا سواء في أن الشعر هو السهم الذي علينا أن نفلته في الفضاء اللبناني والعربي، بل في الفضاء الأوسع، وكلنا سواء في أن الحاجة مطلع المشكلة ومنجبة الاختراع.
وهذا كان دأبنا، نحن أهل الأبجدية أعلاه، في طريقنا وتاريخنا المشترك أننا كنا عصبة الأصدقاء، كنا الصداقة عينها، وأما ما عدا الكأس والسيكارة وما عدا القصيدة، فلا نكاد نحفل بشيء، ونعبر ما نعبر ونكتفي بالرذاذ، بالنقطة على الحرف والنقطة على تاج القصيدة، وهكذا نعتدل مثلما هو الطقس أو نعصف مثلما هو أيضا . وهذه العاصفة الفنية الأدبية الطليعية أنها التي شدتنا بالروابط اليها، والتي لولاها ولولا أنها تدفعنا الى الجنون العاقل والى الفوضى العاقلة، المستحبة، لما كنا حبونا حتى بلغنا بعض الربى ومنبع السيل ولا ادعاء، وعلونا الى ما يقرب من الحلم، حلم الكواكب والنجوم الملقاة والمتهدلة علينا لنسرق رحيقها ونورها لتحرسنا مجانا ، ونتمنى الأمنيات؛ ولما كان محمد الماغوط أقبل علينا بتقليده وثورته وتمرده. ولا ريب أنها تلك العاصفة أيقظته من حيرته الكامنة، وأنه منفرد وعليه أن يكون القادم الى مجلة شعر، ولا ضرورة أن يكون ذاك الآن والعصا في يده، فليس في الحكاية حج وحجيج وانما حفنة بل رهط من الشعراء تلاقوا في مكان من العاصمة بيروت، مكان يدعى يوسف الخال، وزمان يدعى الزمان، يدعى زمان بيروت في منتهى تلك الخمسينات من القرن الماضي؟ وكان محمد الماغوط حر النقلة بين ظهرانينا، بين بحيرة الرفاق والشعراء والكتاب والذي تفتح وانبثق من ذاته شخص يجول في دروبنا في مياهنا، في ليالينا ونهاراتنا جولة القادر، بل جولة المتكيف، وما زلت أعجب كيف أنه كان السريع لينا ومتهكما وقريبا من الضحكة الدائمة ردا على الأشياء، وكان جسدا من ملتقى الرقص والانتفاض ومن النكتة الناعمة والخشنة ومن الحركة التي تصب في نهر الحياة الجاري والهادر والعميم الصخب.
وكان محمد كتلة من المشاعر وموهبة معطاء مدرارة وقدرة على البصر، اذ له عينان تكشفان المدى ويغرق بهما في المدى، في لغة العصر وفي أي موضوع وأي معنى. ولا يلبث أن يكون جديا وأن يكون ذلك العارف أنه لا يهتم بما كان به، من انه شخص لم يكن الا ابن حياته، ابن ذاتيته، ابن نفسه، ومن أنه لا يهتم بالمدارس، بالقواعد فهو، الى درجة ما شذوذ عن القاعدة، وماذا في هذه المساحة، وهل يكون الا أنه كذلك وأنه على سلم من الأنس ومن الارتفاع الى حيث يهلل العلم والعلوم لهذا الفتى وجلبته وصدامه، ولهذا الرجل الذي من معدن لا يلتوي كأنه الرمح، أو كأنه السيف، سيف ينجرد، للحق والأمل دائما في مجتمعه وهنا الجرح والدور لدى الماغوط، الدور العربي الشامل وهو فارس التزام في قلة من الفرسان العرب الشجعان المعاصرين.
وكان محمد ذا عقل سياسي، منذ تلك الأيام، ولا يرتضي أن يكون متأخرا عن الركب من حيث الفهم، ومن حيث الصراع ومن حيث القيم. فهو منذ البدء كان يشتعل ازاء الخطأ، ويشحذ قلمه ويذهب به مذهب العنف ضده. والعنف ربما من سمات محمد الماغوط، لأنه في نصه النثري يجتاح التعابير نوع من الرياح الغاضبة، نوع من الجموح الى صبح المعنى الذي لا يبين الا في آخر الوصف، وهو يطرح هذا العنف لديه منذ أولى الى قصائده. عنف يظهر في السياق مع بعض الطاقة الوجدانية، ويفلسف ذلك فلسفة طريفة وموضوعية في نثره الذي اعتاده القارىء العربي شعاعيا ، ولا يخلص منه الى لون واحد، بل يتعدد السياق والفصاحة الملتصقة بالعبارة ويهوى الامتداد وبسط الفكرة طلقة ومطلقة، ولنا أن نفرح وأن نأخذ من النخلة المجتهدة مشتهانا من العسل حتى وان يكن المر.
والماغوط كان صحافيا في تلك الآونة البيروتية الباكرة، وكان زميلا قربي وجاري في جريدة "الزمان" ذات فترة من انطلاقه هذه الجريدة، وكان مقعده وطاولته زاوية ضيقة من الردهة، ويروح يعلق من هذه الزاوية على الأحداث العربية والدولية. وكان، اذ يفعل واذ يكتب، على قيد نسمة من الابتسامة الذكية، بل قل من الضحكة ذات الرنين التي تكاد تلازمه، وكان بعد في مشواره البيروتي من أوائل المخلصين والعاملين لقضية الشعر. وله أن يفعل ذلك، اذ الحبور على مرماه، واذ مجلة شعر حاضنة له، ونحن معا في الرسالة الشعرية نرفعها أيقونة الى السماء، الى الفضاء الفارغ وعلينا أن نملأه على غرار ما كنا نملأ كؤوسنا وما كنا في صدده من الهوس الابداعي ومن الهموم الباردة والساخنة، ولا بد من المقدام هنا، ولا بد من محمد ليكون العمل خصبا أكثر وغارقاً في الألوان وفي البركات.
وذات يوم دعاني الشاعر خليل حاوي الى الغرفة الخضراء في الجامعة الأميركية في بيروت، وارتاى يوسف الخال، بما أنني المدعو، أن يرافقني محمد ليكون بين الحاضرين ويكون لي نديما ويقظأ ليزداد القول وضوحا ويكون الجواب مهيأ، اذا طرحت علي أسئلة عما هو الشعر الحديث، وماذا هناك من معطيات لتكون في صلب الكون وفي صلب المغامرة، فلا نحيد عن اضاءتها بما ينبغي من المعرفة ومن النصاعة المحكمة ومن الشرح الوافي. ولا أظن أن السهولة سهلة ولا أظن ان محمدا عنده القول والجواب، وانا قرأت بضع قصائد أمام الدائرة المتحلقة وكنا بعد في مقتبل العمر وميعة الانطلاق المبتدىء، وليست لنا بلاغة نظرية ليكون كلامنا خصبا وقائما على النظرة المتينة والرأي المتين.
بل كانت المغامرة في هبوب أولي، وما كنا لندرك هل الحصان قبل العربة، أو قبل القصيدة أو هي قبل العربة والحصان معا . ولنا عذرنا، اذ كيف يكون التساؤل غير ذلك ونحن نزحف الى العنصر الفريد لننظفه من الهجرة ومن الغبار، ذلك الذي يربض على تلة العمر، على تلة الشعر العربي الحديث؟! ولا أظن ان خليل حاوي، الأستاذ في الجامعة الأميركية، أستاذ الآداب آنذاك، هو نفسه عنده اليقين حول السؤال وعنده الأمثلة على أن القصيدة اللبنانية او العربية الحديثة تمتلك جوابها في ردائها الجديد.
فما كانت القصيدة آنئذ على بينة من رحلتها والى أين تقودها العربة المطهمة والحصان الأغر، وكان شيء من النظريات نقل الى العربية، وكانت مجلة شعر تصدر فصلية، وكان أننا خرجنا من لدى حاوي والجماعة من طلابه الى الهواء اللطيف وبنا في قرارتنا ما بنا من الحيرة والطموحات التي تغلي في كياننا وتأخذنا الى المتاهة، الى لون من الحدس ذاك هو المنشود، لون من الحدس أخيرا هو الذي تنامى في قاماتنا، وهو الذي اخترناه منارة لنا في الظلمة، بل قل في مسارنا الشعري.
ويمكن لمحمد الماغوط أن يستريح في مثواه، فهو لا ينفصل عن مجلة شعر، وعن جوهر رحلتها، وعمق مغامرتها، وربيع تساؤلاتها، وان ابتعد قليلا في فترة لاحقة عن عز مجدها، ذلك أنه أضاف الى العطاءات من شعرائها، نصوصا من الشعر ومن النثر، ما يعد انتسابا اليها، بالضرورة، وهكذا لا أستطيع أن أنأى به عنها وان تم ذلك لديه ذات وقت، يظل هو يحفل بالابداعية الثمينة تلك التي ميزتها وكانت علامة لها تلتف بها مثلما يلتف شيخ القبيلة بعباءته، ومثلما يلتف محمد بعصاه في حقبة من المرارة عاشها وطاف فيها، ومثلما يأتزر بالكلمات التي يدجنها في حظيرته، ويحصل منها على الروح وعلى الأوفر من البلاغة ومن البيان والألق المستطاب.
ولا يفوتني عن محمد أنه كان أصيلا داخل محيط المجلة وجمع الملتفين حولها، وخارج المجلة في بيروت مدينة المشاوير والهوى والتسكع في شوارعها من ضيقة ورحبة. وكان في هذا على سجيته منصرفا الى المتعة الماشية وهو بين أصحاب وزوار ومسامرين وفي ألفة قلما عثر على مثلها في موقع غير العاصمة اللبنانية. وأذكره في عداد الذين كانوا ساهرين تلك الليلة الفادحة اللون، ليلة جئت من ضفة الى ضفة، حين قررت أن أغادر حلقة الثريا التي أسسناها، نحن أربعة ادباء، في الجانب الأول من نشاطي ومن اندفاعي صوب الكلمة وشغلها على نول الانسان المفرد ودولاب الغزل والتأليف. ولما دخلت الى منزل يوسف الخال في نزلة أبو طالب – الحمراء، كان محمد في جوقة من المجتمعين الأحباء هبطوا على أرض الصالون، وعلت الهيصة وصيحات الترحيب اذ كان الجميع على علم بأنني في خيار صعب، وأنني في هذه الأمسية اما أن أكون هناك واما أن أكون هنا، ويكون الانفصال بين جماعة وجماعة بين هدوء وضوضاء، بين تجربة تسير على رسلها وفي الهوينا، وتجربة تنطح الوقت وتنطح القصيدة العربية الجامعة، وتنطح الكلاسيكية في عقر دارها. ومحمد الأصيل كان ملء العين والأذن عندنا، وفي أنحائنا، وكان أيضا حين جاء الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ذات فينة ونزل بيننا حيث يشعر شعور الانسجام والسلوك سلوكا بلا قيد أو اسر أو انضباط. وكان بدر واحدا من الضيوف ونحن في مقهى على الروشة ومحمد في وضع من الفرجة على الجميع، ولا سيما السياب الذي هرب جسده العليل منه، وكان يهرب منه في أي لحظة وأي ساعة، مثلما في ما بعد، اعتل محمد وكان جسده يهوذا الذي عانقه لأجل الخيانة، والذي استباح عافيته وقلب قوامه أي منقلب.
وفيما كان السياب شاعرا على نحول فيزيائي، وشاعر قافية دسمة، وشاعرا يطلع من قلب هزال ونحافة، كان محمد يزداد نضجا ويتفاقم لديه الوزن الكلامي الوجداني. وكلاهما، وهما في العلة، أعطيا النص العربي الشعري والانشائي صعدا تطول وتطول. ومحمد خاصة كان الذي تحرر مديدا من قبل وبدد ما هو شؤون ملزمة عبثا .
ولئن أتيح له أن يكتب المسرح وأن يبثه ما بثه من أفكار ومن نقد ومن أنفاس ملحمية، فانه لم يغادر أرض الشعر، ولابأس أنه لم يغادرها، فهو على مر العمر سكن أبدا عرزال الشعر، وسكنه الشعر في كل مرة ولم يفترق أحدهما عن الآخر وهنا بكونه بارزا في مجاله جمع حوله خصب الأطراف واستمر استمرار دالية وعناقيد وكان المشتاق الى التغيير، والى أن يفعل حسنا حيث ينبغي الحسن والجمال، وكان الذي لا ينسى، لا ينساني ولا أي شاعر من رفاقه، وأرسل الي، قبل مدة من يطلبني للحديث عنه وعن دواليه الملهمة التي لا يعبث بها أحد وانما يحين قطافها وكلما ذهب عنقود قام آخر. وتدلى على القوم وعلى العطاش وعلى القارىء العربي جملة.
هذا العربي السوري، هذا الفتان انما أرسى دعائمه وعالمه في الذاكرة الكبرى، وأرسى حرفته الدمشقية الشرقية لتكون لنا مجازا الى التراث من خلال جسرها الطويل والرحب، ونحن في انبهار الحرقة، وفي كون نثره بشقيه الشعري والفكري، غذاءنا الثابت وفي أن حزنه كان مضاعفا . كان زوجا من الحمام الأسود والمأساة، اذ خسر زوجته الناعمة والكلية الرقة الشاعرة سنية صالح، واذ المت به الوعكة فكان المتعب والمريض كما يقول. ولا مفر من القدر، من قضاء أحكامه، فمضى الشاعر الى مثواه الى محترفه الأخير في ظلمة الختام، ومضينا نحن الى ينبوع من صنعه نستسقي مياهه الهادرة، وندعو الجميع الى أن يرتووا وان يمسحوا الجباه بها، دليلا على أن الرجل موجود وحي وأقوى من الدهر في وجهيه، حين يكون العادل وحين يكون المغفل.
وعساي أرضيتك يا محمد، وأنت في ملاذك حيث الظلال ومآل الانسان أن يكون في جنة، وأن أكون نطقت عنك بالتعريف المتقارب والدلالة على قلمك وكيف كان الناطق الملسان، وكيف أن الأمة تحبك لأنك مصلح وبيدك معولك أي قلمك الذي لم يرحم ما هو شاذ ولا يقود الى الغد وبابه المنفتح. ونحن نحبك وأنت تنتسب الى النحن، هؤلاء، وكنت لا تبارح الموقف الشعري وجمهوره من الأصدقاء والخلان، ولا تبارحنا، ونهديك الآن سلامنا ولا فض فوك ولا فض قلمك وانتاجك. الا أن جسدك كان أن تركك وحطك في المشقة والحسرة، وكنت الذي لبث في الصحو وفي ضجيج الخلق وفي الفكر المتنور الى أن سبقك وتسبب لك بالرحيل، وأنت في ضحكة تتلوى كالعادة وفي مرارة وفي اشراف على مصير يختلف لديك بأنك كنت الواعي له، وأنك كنت كبيرا هكذا أيضا كالعادة.