poets-writers

Anis Freiha

poet and writer

الدكتور أنيس فريحة (1903 – 1992)

ولد في رأس المتن.
تلقى علومه في مدارس عدة، ثم في الجامعة الأميركية – بيروت، وفي ألمانيا وفي شيكاغو حيث نال شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعتها.
امتهن التدريس، فعلّم في بيروت وفي جامعة فرانكفورت في ألمانيا، وفي جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية.
لم يمنعه التعليم عن الكتابة والتأليف، فكان له عدد كبير من المقالات والبحوث في الصحف والمجلاّت، اضافة الى كتب مختلفة المواضيع، جلّها في اللغة والأدب وقد أعار اللغة العامية الكثير من اهتمامه، وكانت له آراء خاصة بهذا الموضوع تنمّ عليها مؤلفاته.

كتبه المطبوعة:
1. اسمع يا رضا – مطبعة الكريم جونيه 1956 – 224 صفحة
2. معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية – مكتبة لبنان – 1972 – 191 صفحة
3. يسّروا أساليب التعليم – الجامعة الأميركية. بيروت 1956 – 86 صفحة
4. محاضرات في اللهجات والأساليب ودراستها – مطبعة الرسالة 1955 – 91 صفحة
5. معجم الألفاظ العامية – مكتبة لبنان – 1973 – 195 صفحة
6. هذا أيسر. رسالة الى وزير التربية شارل مالك.

أنيس فريحة بقلم د. منصور عيد - 23/3/2004

يقول أنيس فريحة في مقدمة كتابه: القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال:

نحن الذين رأينا النور في القرية اللبنانية نحن أبدا الى مرابع الطفولة. فان لها، في أعماق نفوسنا ذكريات حلوة: العين ودرب العين، الكروم ودرب الكروم، العودة ومراح العودة، القلع ومنابت الشيح والوزال، العلية والسطيحة المسورة بتنكات عتيقة صدئة، فيها الحبق والقرنفل والفل، وتفاحة فيها عناقيد من التفاح، والسهرات البريئة تحت العريشة. وأنى ذهبنا، وأنى نزلنا، فان صور القرية تظل عالقة في مؤخرة الدماغ.

ومن مقالة لي عن بلدتي بتدين اللقش بعنوان: رفيف الذاكرة أقرأ: وتسألني بتدين اللقش الحبيبة في وجه ولدي، وفي وجوه العشرات من الأولاد، يتنقلون على الدروب، وينطرحون في الأفياء، ويثرثرون في الزوايا، وتدمى أرجلهم من حجارة ناتئة في حيطان الجلول، وتتمزق ثيابهم من جذع عليقة، يعترض غيبوبتهم في الممرات الضيقة. تسألني حبيبة الطفولة: ماذا بقي مني في اوراقك وكلماتك وعلى رفوفك المغبرة من تراكم الزمن؟

ويتوقف الزمن، وتتجمد الحياة، ويهدأ هديرها الصاخب على الطرقات والأرصفة وفي الاحياء والمعابر ومفارق الطرق. وترتسم حدود في العمر لا تعرف الرؤية مداها، فهي من الاحلام تعبر خلف الأماكن الى ما وراء المدى.

أيها الاصدقاء لست في مجال المقارنة الأدبية مع المؤرخ والأديب الكبير أنيس فريحة، ومعاذ الله أن يكون ذلك، بل أنا معه في محطات الحنين، في لواعج الشوق، في لحظات اللهفة الى تلك الأماكن المزروعة في كياننا، حتى اذا أخذتنا الغفلة عما نحن فيه من صخب وضجيج، وتعب، ومسؤوليات، وارهاق، كانت اللحظة منفذا   لنا الى كوة السعادة المسجونة أبدا  في زوايا الأحلام الحلوة. وكانت البرهة هروبا  لنا الى الابتسامات الغامضة المرصودة على وجه الطفولة المنسحبة أبدا   الى الماضي البعيد.

قلت المؤرخ الاديب، نعم فقد أرخ أنيس فريحة تاريخ القرية اللبنانية التي لم تدونه كتب ابنائها، بل رسخته عاداتهم وتقاليدهم وأعيادهم وفولكلورهم في صفحات الزمن. ولكي لا تنسى تلك الصفحات أو تمزق أوراقها في معمعة الزمن الطاحن أبدا الى الأمام، مزج أنيس فريحة التاريخ بالأدب فرسخ فينا الذكرى الى جانب رعشات الجمال. فاذا خانتنا الأولى عشنا في شوق أبدي الى الثاني، وفي هروب دائم الى شوارد الأحلام.

أنيس فريحة، اليوم، في هذه الندوة، بين قلمي صديقين: أمين زيدان الذي عرفه نسيبا   له، وقارئا   باحثا ، وجماليا   يؤكد أن الصورة في الفن هي جوهر الواحد الذي لا يتجزأ، حتى اذا قرأت الكلمة ايقاعا  ونغما   وتشكيلا ، رأيت الخطوط ترتسم على تمثال، وتحول الحجر وجها  حلوا  ، ووردة فواحة.

أما الدكتور متري بولس فكلامي عنه تعوزه الأمانة والموضوعية مهما حاولت أن أتلبس الشفافية، فالرجل له من دقة أبحاثه، وعمق دراساته، وسعة معارفه، وفسحة منابر الجامعات، والمحاضرات، والندوات ما يكفيه شهادة الحق.

شكرا  للباحثين الصديقين على ما سيعطيان ويضيئان.

أمين لطف الله زيدان

كما لا شعرة   تسقط بغير مشيئة، كذلك لا اسم يضوع على ثغر بغير همس في ضمير. زكريا يشهد.

بورك ضمير سماك، أماه، "سيدة اللويزة!"

وبورك ضمير كل راهب مريمي، أوصاه يسوع بأخذك الى ديره، وقد أضاف الى اسمك لفظة "جامعة".

أمريم، أمي، وقع "اللويزة"، في وجداني، أعذب. ففي كنف سماء تحببا   صغرت، أراني، اليوم، أهنأ بلقاء أحبة "بروح" الى جامعتك دعا. عل ذا "الروح" بلساني ينطق، فلا يغضن لك ولد أمين جبينا  .

الى اليوم، قالت العاربة بواد لعبقر.
وعشية اليوم هذا، أقول برأس لعبقر.

أو ليس الدكتور أنيس فريحة ابن رأس، وأي راس، رأس المتن؟!
ذاك الوادي ملهى للشياطين.
وهذا الرأس مرتع للملائك تتقمص الكثيرين من موحدين حكماء، وموحدين ثالوثيين. يا لسعدهم وسعد ذا الرأس بهم!

وبعد،
لكم، أحبتي، أبوح بدوافع ثلاثة، حتمت حديثي الالماحة فحملتني على ارتضاء القول في الدكتور أنيس فريحة.

الدافع الأول:

كون قربى رضاع تشدني اليه. فروجينا فريحة، جدتي لأمي، جوليا نعيمه، ابنة عم أبيه لحا . حق لي اذا  ، بلغة بني الجبال، ان أناديه: يا خال! ولطالما فعلت.

وحق حرمة القربى يفرض علي استنطاق أقرب الذاكرات منه، وأصدقها مودة له، وأعرفها بخبيئات طباعه والخصال، وان كانت الى زوال. علها لا تزول، ولا تزول ظلال من شخصية الأنيس في صمت زوجه، نللي، وابنته هدى، وصهره المهندس فؤاد.

الدافع الثاني:

كون جوار يقصر بين بيتينا المسافات. فالقصيبة، موطني المفدى، ساهرة أبدا   فويق (كتف ربوة) الى شمال الرأس، وهي تحمل قنديل زيت، وان لم تكن ربوة لعبقر.

الدافع الثالث:

حق الجوار يلزمني بأن أقف الى جانب "الخال" بوجه "حضارة في طريق الزوال"، علني أسهم تأبيد حالات من هذه الحضارة، فلا تنطفىء منائر من حياة "الفريحيي"، ولا تفقد حلقات تواصل سلالات، ولايتوقف اطراد تاريخ، ولا تدكن عتمات تمحو دروبا   يحتاجها الباحثون عن أصول أقوام، وفروع لهم، وعن منابت كينونات جذور...

وبعد ثانية،

ثالوثي أنا. فما يلي من الماحي كر ثلاثيتين من متواضع سبحة ثلاثية أولى:
قطف حلاوات من فم واثنين.
ثلاثية ثانية:
تأبيد حالات لتبقى، ويبقى الأنيس.

ثلاثية أولى: قطف حلاوات

حليوة أولى:

هتفت بنية الأنيس، هدى، فارغة الصبر، موردة الوجنتين، بريئة البسمات:

والذي كان تبع جمال. لطالما كحل عينيه بهاء محيا ، وأسكر سمعه هديل قوام، وسعى، حثيثا  ، جريئا ، يجاور خالبة لب.

فاستقصيت فما أثر عنه عمري طبع ولا قيسي هوى . انما حاله بدا حال ذواقة هذب خصاله ألسن رب، فوقف أمام، كمال على لوحة تعرى، فمجد، ولم تثر لديه غرائز.

ألا، لا يضحكن بسر سامع متخابث. أما اعتبر الأنيس وسجل:

كبرى تجليات الله تنحصر في الحب والجمال؟

ولكم تساءل: أي أثر كان للبنان، جماله، في نفس اللبناني؟ وأجاب: محبة الجمال. ومن يحب الجمال يحب الله، لأن الله هو الجمال المطلق. ومن يحب الجمال يحب الخير، ويكره الشر.

حليوة ثانية:

خوفه على مؤلف وليد لما يبصر المطابع.

وأردف الصهر المهندس فؤاد:

ترامى الى سمع عمي نبأ تفجير برج الجامعة الأميركية. فعرته رعدة، وكاد يجن، ومريرا   بكى. فخيل لنا أنه يندب الري معكم، وربما أشباه متحضرين من بني قومه يتوحشون. واذ سئل؟ هادجا   متلعثما  أجاب: ماتت مخطوطة القصص العبري القديم تحت ركام مكتبي. وكم فاه مطبق ضمت ومميت أسى.

أعجبا  يثير، وقد ألف قلبه والنهى، بعد الثواني، تلقيح حروف تتئم ولدا   لخلد؟!

سلوا مليكةً، أماً سوية، فاجأ جناح وليدها المجاور جناحها جهنمي نار، علام العويل؟ علام الصراخ؟

تجيبكم: ما الملك؟ ما الأرض؟ ما السماء؟ وبقية حشاشة قبيل أبدي اغماءة تدوي: ولدي! أخدشك الحرير؟

حليوة ثالثة:

وختمت العقيلة صابرةً، شاردةً الذهن:

أبو رضا لم يكن يقر. لمدات في اليوم ثلاث وأكثر، كان يرود مكتبه سيرا . وبين هذا المكتب، صومعته، ومنزلنا، مسافة دقائق عشرين. وما من مرة عبر الدرب تواً. فأصحاب الدكاكين والمحال التجارية، وبوابو الجامعة، وملافنتها، والمدراء الكبار، على السواء، كانوا يرقبون اشراقة بسماته، وعذب حديثه، وطريف النكات... يا للتواضع يعلي مقاما   رفيعا !

وغدا  أبو رضا أليف السهاد. فكم هب ليلاً لغير كتابة. لصنع ألوان مآكل بها شهر... بها غادى جميل جارة وكريم جار، يقاسم من يغاديهم خبزا  وملحا  ، فكيف بحلاوات تنافح الأزهر أنفاس طيب. وما من مرة غادى لغير حاجة اقتسام قرابين.

... والخبز والملح عندي، أن يقدما مجاناً، يستحيلان قرابين تخمر القلوب محبة، فيكتمل سري جسد ويدنو الملكوت.

بين الثلاثيتين وقفة ومض لغاية في نفس الأمين.

بين اتباعية في بحث مصدر، وانطباعية آن تقييم، يلوح وهم تباعد وحدس تباين. يقيني يقر بمبدأ تجاذب النقيضين يتصادمان فينبثق مبهر شرير يجلو معالم فنً، حرام أن يطول له احتجاب خلف وشائح الجواهر وبراقع المظاهر. كيف لا؟ وبين النقيضين وحدة هدف، تسعى الاتباعية اليه عبر تواصل موضوعيً، وتسعى الانطباعية عبر تناغم ذاتيً.

أمالتني الانطباعية لرغبة في استكمال قسمات صورة الأنيس، برسم ملامح بهرتني وأنا أقيم كتابه: "القرية اللبنانية، حضارة في طريق الزوال"، ولخاطرة له وردت في سياق المقدمة، مفادها:

"هي محاولة محتشمة لا ندعي فيها أننا جمعنا الفولكور اللبناني بكليته. انما أردنا أن نثير الموضوع آملين أن يسد النقص من يعنى بهذه الدراسات، ومن هو أحسن منا اعداداً واستعدادا"ً.

وهي الخاطرة التي زينت لن أن الأنيس يود تخلصا  فطنا  ، ليقا ، من مباحثة الاتباعية والنقد والمساءلة. وهي عينها تكاد تتكرر في مطلع كل باب من أبواب الكتاب السبعة عشر.

فكيف لي أن ابحث وأنقد وأسائل؟

رغم ذلك، ها اني أعرج على الاتباعية، مرور كرام فأطرح أسئلةً ثلاثةً تعينني، لا على تخلص من تبعة اتباعية، كمن بعدوى الأنيس أصيب، فميل به جنح الى محاباة "خاله"، فغض الطرف عن مآخذ تحتمل.

لا! وألف لا! وانما تعينني على تأكيد صحة ما زين حي، وعلى تبرئة من اتهام بأحجام وقعود عن مهمة اتباعية زاولتها أربعين عاما  ونيفا  .

سؤال أول:

هل بعض الفضائل اللبنانية، كما ورد في باب من الكتاب، من مثل: النجدة، وكرم الضيافة، والصبر، واحترام كبار السن... الى زوال؟ لعمري لا!

سؤال ثان:

هل بعض خصال "عقلية اللبناني"، كما ورد في باب آخر، من مثل: ألعقل الجماعي، والقناعة، وفن الاخفاء، والصبر، والتحسب، وقف على بني الجبال دون سوى، وتحديدا   على بني جبال لبنان؟ ألف لا!

سؤال ثالث:

لما أطال الأنيس الكلام على "عرس القرية اللبنانية"، وكاد يهمل الميلاد والفصح وذكر الكهنة والقساوسة، وأفاض في ذكر عادات مواطنية الكرام من "بني معروف"، وآثر الاستشهاد بأقوال حكمائهم والأجاويد، ولو حسنا  فعل خير أنموذج للتعايش والتفاعل؟

حسب "أبا رضا" أن قرأ في رأس المتن والجوار من وما احتضنت جواؤهما والأرض ودون، هو الذي أذاب الكثير من نور عينيه في قراءة نقوش وخطوط عهدها قدم، وكاد يبيدها الجهل وتمحوها الأعاصير، بحثاً عن خفي أوصال تربط بين أجيال وفر على القابلين منهم عناء البحث عن مثل هذه الأوصال التي لو ضاعت لقطعت صلات أرحام، وشوهت لوحات رسمها الله في لبنان له ولبنيه.

ليت ملحمة الخلق تكتمل فصولاً، وحقيقة الوجود تسطع فيعرف الخلق هذا حقيقة الخالق:
المحبة فحسب!.

ثلاثية ثانية: تأبيد حالات.

حالةً أولى: عشق الطفولة

حالة الطفولة زاد فريد لزورق اوحد الى الملكوت السماوي يقل. والخوف من فقدانها جرح أول يصيب وعي التائقين الى الجلوس عن يمين "الرب".

والجرح هذا، شافي بلسمه سماع قولة: "تعال رث ما أعد لك قبل انشاء العالم". وانبلل منه على الأرض نذير عافية الى انعدام وحكم طرد قاطع الى أبدي نار.
أو ليس وجع خوف الأنيس فقدان ملكوت الطفولة ما حمله على تدوين ما عاشه في فراديسها، القرى، سراً يجهر به أمام ديانه ليثبت حقه بما وعد به الأطفال؟

نعم! وفى الأنيس عهد طفولته من غوائل مراكب تائهات تعيد زبانيتها الى عدم، وعهد بها الى مواكب هازجة الخطى صوب الجنان، فلأنه صرف العمر طفل انجيل.

أوليست كتب ابن رأس المتن مراقد طفولة تغط، تحت الحروف، في سبات خفيف، وترقب المقيمين من شبه موت، يعلل حشاشتها زيت خصت به سرج غدارى حكيمات؟

على نور هذا السراج الموضوع تحت الاهاب، بصر أنيس بالماوراء، فشاهد ساحةً معقودةً على اسمه توازي مساحة طفولة حافظ عليها طوال احتباسة في محدود رحم الأرض قبيل فراره الى رحاب رحم السماء.

أجل! وحدها الطفولة تدخل الجمال في مخارم الأبر، والأغنياء في معابر السماء.

حالة ثانية: عشق القرية

بلغ عشق الأنيس رأس المتن حدود ايمان بفضلها وفضل كل قرية لبنانية على بنيها، الى أبد يدومان.

... وبجرأة ودالة، عن "الخال" أنوب. فأعلن بعض بنود ايمانه على غير نسق، كما وردت في "القرية اللبنانية"، وسواها من كتب:

أؤمن:

- بأن اطراد الحياة قبلة، أبدا   نصب البصائر تستوي: فاليها كل عاقل، جاهدا   يسجى.

- بأن حال المرء حال روح يعدو بقدر ما تعمق له جذور، ويينع بقدر ما تسلم جذوره هذه من نخر سوس يعيث في فاسد مناخ.

- بأن ما من ثروة آن تدوم، وزد ثروة بعد، الا اذا تكدست جنى حلالاً مدى الأعمار.

- بأن كل ولد لا يزيد على قامة الحضارة ذراعاً، يقطع، ويلقى في أتون طرداً ولعنةً.

- بأن النبت بين الصخور ينمو بدفع أخرج المرء من قفر قفر الى قصور جهاد، وقد غسلته زوفاء العرق، ومسحه منديل ورد ما قالت ذاكرة واحدة انها شكت وجع مقصً، وألم مشذب.

- بأن فعل الذكريات يواتي ثماره في بلورة معرفة تبلغ حد سعادة لا تذيق مسبق طعم قيامة الا أو ان فطام عن أمومة تربة عدنية، نقاء، وشطر عن أبوه جواء سماوية سمحاء.

يا لايمان الأنيس! أوليس مثله ما يبدل مطارح الجبال، ويعيد الأرض الى فردوسي حال؟

الحالة الثالثة: عشق لبنان

لم أنس أن العشق لا يقدر، ولا يقاس. وأذكر أنه يقال: عاشق كبير، وعاشق أكبر.

أنيس فريحة من أكبر الكبار، وشهادة دوكتوراه في العشق من أخلد الخالدات.

يشهد على عشقه لبنان:

وضعه: القرية اللبنانية، واسمع يا رضا، وقبل أن أنسى، وأسماء القرى اللبنانية ومعانيها، ومعجم الأمثال اللبنانية الحديثة.
وقوله طي كتابه:"دراسات في التاريخ"، وايماء الى عريق تاريخ لبنان:
"التاريخ اللبناني مديد. يبدأ يوم أرادت الآلهة أن تخلق جنةً غناء، ومعبدا   رائعا ، فانحسرت الماء عن لبنان وظهر فتنةً وروعةً"

وقوله طي مصدر آخر:

"في لبنان استقرت، على توالي العصور، أقليات عرقية ولغوية ودينية مضطهدة، فكانت تندمج بالسكان الأصليين ليشكلوا المجتمع اللبناني".

ولكن، أين ما وضع، وما قال، قياساً بكنيته عن لبنان: "نهاية المطاف".

بربكم، أيها الكرام! أي خيال رحب، وصدر وسع، وفكر ثقب، يمكن أن يرسم للكون هذه الواحة الصغرى، الواقعة على تخوم الشرق والغرب والشمال والجنوب:" نهاية المطاف"؟!

أنا لا أستشف من الرسم هذا، حدود ملاذ أخير آمن لكل شرير هفا اليه من أقاصي الأربع الجهات وحسب، وانما استشف، الى ذلك، شميم نبوءة.

فحكماً، ان لم يحق رجاء الأب الأقدس، يوحنا بولس الثاني، وأمل الكاردينال Lustizier، ولم يغد لبنان رسالةً بها يتعلم بنو الأرض كيف يتعايشون ويتآخون ويتساوون، لرجع الأرضيون الى بربرية أدهى وأخطر مما كانت عليه قبل تجسد. فلأنهم، المرة هذه، سيقتتلون في سبيل حياة الى أبد تدوم، لا في سبيل بقاء بعيد غد يزول.

سيحق رجاء وأمل كرمى لصلاة أرز الرب. على رسالة لبنان سيتتلمذ الآدميون، فيغدون المرة هذه فديةً عن فداء ثان، تخفيفاً عن "القدير" يضيق باحتمال موت ابنه مرتين.

ختاماً أيها النيرون، والمستنيرون،

يتبدل المكان، ويحول الزمان. أما السماوات، مجلدات الحضارات... سجلات الخلود فلا!

لذا، على الأرض لا أتلمس مواطىء أقدام الخالدين، ومطارح ألق لهم تخبو. انما دوماً أروح أصغي الى أصداء نأمات وهمس مما من حشا الله يفلت الهاماً ووحياً، ومما من حنايا أنبياء، ورسل، ونوابغ، وبناة حضارات يعلن فيعلم، وأرقب اطلالات وجوه تلوح فوق، تتراءى حيث لا شع يخبو، ولا صوت يبح. فغداً، آن يبحث في مكامن جواء رصد في أغوارها العلم مجامع كل صوت، وربما رصد، بعد غد معارض وجوه، سيبحث عن صورة لك أيها الخالد، "الخال"، ويصغي الى صوت.

كتاب أسمع يا رضا
Dictionary of Modern Lebanese Proverbs

And many other books