سهيل إدريس بقلم الدكتور جورج شبلي
لم تكن نِيَّة الرواية يوماً إلاّ أن تبسط وساطةً بين الحياة والتلذّذ بها. وكان لأثرها المحتوم خطة خطرة على التاريخ، إذ استعيض بها عنه. فبالرغم من غلَبة الأدب عليها، كانت في العظيم من المرّات تلائم شروط إبن خلدون أكثر ممّا يلتزم به منها مشاهير "التأريخيّين".
سهيل إدريس لم يكن "الدمع المرّ" بين رجال اللغة والرواية، بل كان أديباً طليق العقل وحيَّ الإحساس وحرَّ الوجدان في ما يكتب. فعندما ألقى الكثيرون من أترابه بأنفسهم في تيار الجمود، لم يُمِت إدريس ذوقه ولم يغمض عينيه عن ضروب الجِدّة في الفنون. وهو لم يكن بنجوة عمّا تخضع له النفس من مطامح وحاجات، وعمّا يخطر في الحياة من ظلال ظلّت أثيرة لديه طول عمره، وكان بها ما شاء فيه القنّاص من أسباب. وقد أمدّته الحياة من فعلها، ونشّأته على أنواع العلوم ما صار به فيها علَما،ً وعلى أصناف القِيَم ما صار به فيها عالَماً.
لم يلقِ إدريس عصا المسافر في دروب الكلام، بل وسّع التجوال في رقعته، حتى تقلّد أدبُ العرب من يده. إنّ المعارف الجمّة في مستواها الموروث وفي مُتلَقّاها الوارد من أصواب الدنيا، أخرجت ادريس من أهل الصوامع فجعلته يعاقر خمور الحداثة، ولكن من دون أن يضيع رشده، فتُساكن نفسه الدنيا سيراً لأحاديث ماضيها وباقيها.
كان إدريس والرواية أخوَين متصافيَين بينهما طول صداقة، ويجمعهما الطلب والمُكتسَب، حتى أن الواحد منهما يشهد لصاحبه، وفي لَبس التعقيد يوجِد له مخرجاً. فعندما يصادف بطل ادريس قلباً مقلوباً فيخمد لهب الحبّ ليصبح داء مبرحاً، وهذا الّلهب هو فاصل دقيق بين الجحيم والجنّة، يصبو الأديب بالبطل الى الثقافة بديلاً فينبض فيه عرقُ الفهم ويدرّ له شريان المعرفة. ولما كانت سُنَن الدّهر متنقّلة وكثيرة الذّيوع من باب الى باب، كان ادريس مُجيداً في تصفّحها وحسن الأخذ من تصنيفاتها، لتأتي كتبه جيّدة الفصول والإبانة عن تقدّم صاحبها في صنعة الكلام.
عندما راجت رحلة الثلاثية في الرواية العربية، كان إدريس من فرسانها الثلاثة مع توفيق يوسف عواد ونجيب محفوظ. فأطلق " أصابعنا التي تحترق " و " الخندق الغميق " و " الحي اللاتيني "، وهي سياحة أديب في مسارح الزمن. أمّا الممثّلون الذين حمّلهم ادريس التعبير المشرق، فهم إنسٌ اصطفاهم بنفسه ليسخّرهم في مهمّة التّعريض بالحياة، فلكلٍّ منهم في عِرفه ملَك وشيطان.
غالباً ما يُلجَأ في التأليف الروائيّ الى أرض الخيال، فكما أنّ للشعراء شياطين كذلك فبعض القصّاصين يجيء على رجليه الى وادي الجنّ، ليُخصب مرعى رواياته بالأخيلة. أما سهيل ادريس فخالُ الواقع على خدّ أقاصيصه بالولادة، لأنه شَرِه الحواس وليس من لُعّاب النرد في انتقاء موضوعاته وشخصياته، فهو يجالس صِلات الحياة تواصُفاً لسِيَر أهلها، وتمثيلاً بين ما شهدوه منها وأخبروا عن أحوالها. فالواقع المقسوم على أكثر الألسنة هو مادة ما يروي وعِدّة ما يحكي، بقوة حسّ ودقة ملاحظة وتعقّبٍ للأحداث والتمييز فيها بين جيّدها ورديئها.
إنّ ذخيرة سهيل ادريس الوطنية عمّمت جبهة الشباب لديه ومفرق الشيب، وبالرغم من كونه خفيف الظلّ مع القلم والأصحاب، غير أنّ علامته كانت مدموغة وبعمق في " معترك القومية والحرية " أي نطاح الكِباش. فمفهوم الأمة معه تجاوز العبث المُستهلَك، ليتربّى بمنأى عن الخُطب، ويرتدي علمانية بعيدة عن آفات الملفِقين من أصحاب النفوذ الذين ليس لرضاهم عند ادريس موضع. أما الوطنية فقد سدّت أذنيها عن التواءات المتاجرين بها وهم فيها أميّون، فكلّما تنطّح واحدهم للكلام فيها أساء إليها وشوّه نفسه.
سهيل ادريس، هذا العقلانيّ بامتياز، فتّق نسيج الحضارة بشقّيها الشرقي والغربي، فوجد تَضادّاً بين ما تدلّ عليه الحكايات من أحوال الغرب وطِباعه، وبين معاشرة هذا الغرب نفسه وجهاً لوجه. كما أن وُفور النِّعَم في الشرق، لا سيّما الإجتماعية منها والأخلاقية، قد ضرب التقليدُ الوارد حسنَ شِيمها فضعف فضلها. ومع ذلك، لم يحجب ادريس وجه مودّته لرقيّ الغرب في أدبه وتطلّعاته الفكرية، فقد احتكّ به ودلّ على فضل قدمائه ومحدَثيه، ودافع عن تياراته الفكرية ولا سيما الفلسفة الوجودية كما نقل الى العربية مؤلّفات قَيِّمة لِ "سارتر" و"كامو" وغيرهما، إستحسنها العرب وأفادوا منها.
سهيل ادريس كان خصباً في اللغات فلا التواء في أبواب التعبير عنده أو صنوف التركيب، إنّ " منهل " العربية عنده فيّاض، يقتحم المعاني ويُنطِقها، وكذلك الفرنسية السيّابة أرخت له رقّة جوّها وأودعته ما يحتاجه من أجناس البيان. واللغات التي لا تُنقصك إذا زدتها، تعاطى ادريس معها بسياسة نهضوية موسوعية في شقّ النقل وفي شقّ القومسة.
سهيل ادريس صاحب العقلين، عقل الطبيعة وعقل التجربة، يحرص على تمثيل نهجه في الأداء والأسلوب ويلقي الى فطرته القِياد في ما يكتب. وإذا كان الأدب حقاً مُشاعاً لكنّه لا يلامس إلاّ صدور الأقلّين.