عمر الزعنّي بقلم : الدكتور جورج شبلي
يرحم الله مَن يعاني ثورة النفس وقسوة الزمان، وما تأجيج الأولى والإصطبار على الثانية سوى نتيجة لوَفرٍ في الإباء وفي الحرية. فصاحب عزّة النفس منحاز الى صيانتها، مفطور على منعها عن مواقع الظنون، وعِدّته الى ذلك إيثارٌ للأنفة وكرامة الحق، وهي العدّة التي توقظ في الخواطر ما غفا من التسامي ومواسم الخِلال.
عمر الزعني الشاعر الغنائيّ الشعبيّ الذي غلبت عليه النزعة العامية ، أرسل سراياه في مفاصل الناس، لا ليقارب ويلاين، بل ليكاشف ويجاهر، لا ليطمس معالم الشّرك، بل ليوضّح معارف الصواب. هو الأديب اللاّذع بدون مواربة، الهزليّ بدون تهريج، والموهوب الذي أغدق على المجتمع إبداعات كانت مثالاً يعتزّ بمحاكاتها كبار النفوس.
لم يكن الزعني حديقة أدب ولا فارساً من فرسان الشعر، فحين يتمّ التأمل بعباراته تبدو بسيطة وساذجة أحياناً، لكنها قوية الأثر، بالرغم من أنّ الشاعر لا يوازن فيها بين الكلمات ولا يزاوج بين الجمل. فشعره يحتاج الى ملاحة البلاغة ورشاقة العبارة، بالرغم من أخذه في الكثير من الأحيان برقاب القوافي. إنّ ما تركه الزعني لم يكن من الشعر الفنّي الزلال ولا من ملائح الأزجال، بل كان ابتكاراً وسطاً بينهما يشكّل قالباً حراً يناسب تدبير اللحن المُغنّى. وفي هذا النموذج لم يثقب الزعنّي لؤلؤ النظم، لكنه لم يُزاحَم في ما نظم، لأنه جيّد ممتع لا تُمَلّ معاودته ولا تنصرف الأفواه عن الرجوع إليه، وقد يكون هذا " الهَوَج " أحياناً أملح من الشعر الصحيح. كما أن الرّجل لم يكن سيمفونياً تفكّ تآليفه الموسيقية عِقد الأوتار، فلغته مع الأنغام محدودة يَعسر الإفتنان في تلوينها، ومع ذلك كانت الآذان تُطرق إذا نطق، والذاكرة تسجّل وتحفظ.
لقد أطاح الزعني بقواعد النّظم لصالح الإبلاغ، فلم تكن همّته في مجد يشيّده بين شعراء العربية في البلاغة وروائع الكلام، لأنه مال الى القول الفصل في بدائع الأفهام، من ثمار خواطره التي اعتُبِرت مجلساً لصوب العقول. لم يكن ما تخيّره من الأسلوب ما يُعَدّ في السّحر، فهو لم يُعدّ قلمه لتنميق الإنشاء، لكنّه شُغِل بطرائف التعبير التي لم يتمكّن غيره من السبق إليه. وهو لم يكن مشغولاً بالتصرّف في فنون الكَلم ولغة التأليف، بل التزم خطة ذكاء القريحة وسرعة الخاطر وصفاء الذهن، ليسكب العبارة السهلة التي تضرم الحرقة وتقدح السخرية.
كان الزعني "إبن الشعب" يترصّد ما قصر عنه مجتمعه المحتاج الى التنقية، لكنّ الناس كانوا ضعيفي الهضم. من هنا، لم يكن يرغب في نشر ما يقول برفق ولطف، وهما باب من أبواب التملّق وضرب من ضروب الخداع، بل كان غرضه مكشوفاً قاسياً، أراد به تدبير الصحيح في المجتمع لئلا يزداد مرضه. لقد كشف عن أسرار الغرائز والميول، وعن الإرتياب الذي كان يدبّ في أهل زمانه، ولم يذهل ذهنه عن الموبقات التي تنزّ من أنفاس " كبار وصغار واقعين بحبّ الكرسي". من هنا، فإنّ أهميته ترجع الى شغله بنزوات الرؤوس والنفوس، فثنايا كلامه تبيّن أنه خَبِر الناس والمجتمع، وعرف ما ترزأ به من بلايا الوصوليّة والطمع والبغض والبؤس واصطراع الشك واليقين. فقدّم لأهل زمنه المشهد الذي يشبههم، ولمَن أتى بعدهم تأريخاً لمرحلة لا تشبه النعيم إطلاقاً، وكأنّ الفضائل لم تنبت في لحم الشعب وعصبه، في مجتمع زرفت أعيُنُ عِنَبِه فَقْد كَرْمها.
لم يكن الزعنّي عازلاً نفسه عن واقعه، وهو يخوض في بحر من اللّهب، فنصب فخّاً ليزيل العَكر في مجتمع صارت نار كرامته رماداً، وكان للضعف فيه نصيب وافر، وللتراجع حظّ ظاهر. فالشرف مُتَكَلَّف، وصورة المهانة وانحلال الخلق أفظع من صورة قبض الأرواح، وعبادة الرؤساء المفتونين بثناء أتباعهم تُندي ما تبقّى من جبين. فشهوة المجتمع الآنس الى السكون، والماضغ المرّ في ركاب فساد آمريه، جعلت الشاعر يشارك الناس في العلّة والشكوى، ليس بطروق العِظات بل بالتدليل العالي النبرة إيقاظاً لهم من سُنّة الغفلة.
كان الزعنّي المُشاغِب من أركان الشعر النقدي في زمانه، وإن كانت الكتب لم تتحدّث عنه إلاّ قليلاً، لكنّ شعر هذا المغبون يكشف عن علوّ محلّه في كيمياء الأدب السياسي الإجتماعي، وعن تفرّده في التشريح الواقعي بعيداً عن حَذَق الخيال. وهو في نقديّاته لم يكن متزلّفاً ولا متحاملاً، ولم ينتحل لنفسه إعلان أن شعره حَبّ الغمام، أو أنه من فحول شعراء عصره وآحادهم في النباهة والرصانة، ومع ذلك ازدحم ضمير الوطن على درسه وحدّث بأسرار ما سافر عن خاطره الى شفتيه.
كان الزعنّي يترجم حالة في نصف قصيدة، أو في نصف أغنية من دون مقدّمات، وهذه مغامرة مقسَّمة الحظّ بين النجاح والإخفاق. لكنّ الظّرف والسلاسة الّلذين يزيّنان جملته الكلامية المُنَغَّمة، بلغا به دائماً ساحل إعجاب الناس وتقديرهم. وقد كانت مقطوعاته التراجيدية الكوميدية "مولييرية" المنحى، تتخطّى الزمان والمكان وتنمّ عن إحترافية عالية المستوى في رسم مشاهد تجمع بين المرح والتأمل العميق. فهل هناك أسهل وأبلغ من إختصار واقع حال بهذا الكلام : " الدنيا قايمة والشعب غافل، راحت بلادكم وما حدا سائل "، وكأنّ الزعنّي لمّا يزل في الحيّ.
كان الزعنّي هادئ النفس متين الأخلاق، ومتانة الأخلاق قوة مُرعِبة يُرعَد لها الذين ابتلوا بالطمع وألفوا التزلّف واطمأنوا الى التودّد والإستكانة. لكنه مع ذلك كان جريئاً وقّاح اللسان، لا يتستّر اتّقاءً لسخط أحد، فلم ينادم رئيساً ولم يخفض رمشاً أمام سلطة أو انتداب، وأجرى مبضعاً مبرحاً في رجال الدسائس والمكائد، وأحدث رجّة عنيفة في أوساط المتنفّذين والمحكومين على حدّ سواء. وقد ساعده القالب الكوميدي على وضع عيوب المجتمع على حدّ السكين، وكان ذلك عنده رياضة نقدية لها ضجيجها الجذّاب، وللوطن كنزاً لا ينفد.