نزار قباني (1923 دمشق - 1998 لندن)
تخرج نزار قباني من كلية الحقوق بدمشق 1944 ، ثم التحق بالعمل الدبلوماسي ، وتنقل خلاله بين القاهرة ، وأنقرة ، ولندن ، ومدريد ، وبكين.
وفي ربيع 1966 ، ترك نزار العمل الدبلوماسي وأسس في بيروت دارا للنشر تحمل اسمه ، وتفرغ للشعر. وكانت ثمرة مسيرته الشعرية إحدى وأربعين مجموعة شعرية ونثرية، كانت أولاها " قالت لي السمراء " 1944 .
نقلت هزيمة 1967 شعر نزار قباني نقلة نوعية : من شعر الحب إلى شعر السياسة والرفض والمقاومة ؛ فكانت قصيدته " هوامش على دفتر النكسة " 1967 التي كانت نقدا ذاتيا جارحا للتقصير العربي ، مما آثار عليه غضب اليمين واليسار معا.
في الثلاثين من أبريل/ نيسان 1999 يمر عام كامل على اختفاء واحد من أكبر شعراء العربية المعاصرين: نزار قباني.
الولادة على سرير أخضر
يوم ولدتُ في 21 آذار(مارس) 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة, كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة... و كان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء.
الأرض و أمي حملتنا في وقت واحد..و وضعتنا في وقت واحد.
هل كانت مصادفة يا ترى أن تكون ولادتي هي الفصل الذي تثور فيه الأرض على نفسها, و ترمي فيه الأشجار كل أثوابها القديمة؟ أم كان مكتوباً عليَ أن أكون كشهر آذر, شهر التغيير و التحولات؟
كل الذي أعرفه أنني يوم ولدتُ, كانت الطبيعة تنفذ إنقلابها على الشتاء.. و تطلب من الحقول و الحشائش و الأزهار
و العصافير أن تؤيدها في إنقلابها..على روتين الأرض.
هذا ما كان يجري في داخل التراب, أما في خارجه فقد كانت حركة المقاومة ضدّ الإنتداب الفرنسي تمتد من الأرياف السورية إلى المدن و الأحياء الشعبية. و كان حي (الشاغور), حيث كنا نسكن, معقلاً من معاقل المقاومة, و كان زعماء هذه الأحياء الدمشقية من تجار و مهنيين, و أصحاب حوانيت, يمولون الحركة الوطنية, و يقودونها من حوانيتهم و منازلهم.
أبي, توفيق القباني, كان واحداً من هؤلاء الرجال, و بيتنا واحداً من تلك البيوت.
و يا طالما جلست في باحة الدار الشرقية الفسيحة, أستمع بشغف طفولي غامر, إلى الزعماء السياسيين السوريين يقفون في إيوان منزلنا, و يخطبون في ألوف الناس, مطالبين بمقاومة الإحتلال الفرنسي, و محرضين الشعب على الثورة من أجل الحريّة.
و في بيتنا في حي (مئذنة الشحم) كانت تعقد الإجتماعات السياسية ضمن أبواب مغلقة, و توضع خطط الإضرابات
و المظاهرات و وسائل المقاومة. و كنا من وراء الأبواب نسترق الهمسات و لا نكاد نفهم منها شيئاً..
و لم تكن مخيلتي الصغيرة في تلك الأعوام من الثلاثينيات قادرة على وعي الأشياء بوضوح. و لكنني حين رأيت عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر الأولى منزلنا بالبنادق و الحراب و يأخذون أبي معهم في سيارة مصفحة إلى معتقل (تدمر) الصحراوي..عرفت أن أبي كان يمتهن عملاً آخر غير صناعة الحلويّات..كان يمتهن صناعة الحريّة.
كان أبي إذن يصنع الحلوى و يصنع الثورة. و كنت أعجب بهذه الإزدواجية فيه, و أدهش كيف يستطيع أن يجمع بين الحلاوة و بين الضراوة.
أسرتي و طفولتي
في التشكيل العائلي, كنت الولد الثاني بين أربعة صبيان و بنت, هم المعتز و رشيد و صباح و هيفاء.
أسرتنا من الأسر الدمشقية المتوسطة الحال. لم يكن أبي غنياً و لم يجمع ثروة, كل مدخول معمل الحلويات الذي كان يملكه, كان ينفق على إعاشتنا, و تعليمنا, و تمويل حركة المقاومة الشعبية ضدّ الفرنسيين.
و إذا أردت تصنيف أبي أصنفه دون تردد بين الكادحين, لأنه أنفق خمسين عاماً من عمره, يستنشق روائح الفحم الحجري, و يتوسد أكياس السكَّر, و ألواح خشب السحاحير..
و كان يعود إلينا من معمله في زقاق (معاوية) كلَّ مساء, تحت المزاريب الشتائية كأنه سفينة مثقوبة..
و إني لأتذّكر وجه أبي المطلي بهباب الفحم, و ثيابه الملطخة بالبقع و الحروق, كلّما قرأت كلامَ من يتّهمونني بالبرجوازية و الأنتماء إلى الطبقة المرفهة, و السلالات ذات الدم الأزرق..
أي طبقة.. و أي دم أزرق.. هذا الذي يتحدثون عنه؟
إن دمي ليس ملكياً, و لا شاهانياً, و إنما هو دم عادي كدم آلاف الأسر الدمشقية الطيبة التي كانت تكسب رزقها بالشرف و الإستقامة و الخوف من اللّه..
وراثياً, في حديقة الأسرة شجرة كبيرة..كبيرة..إسمها أبو خليل القباني. إنه عمّ والدتي و شقيق جدّ والدي..
قليلون منكم_ربّما_ من يعرفون هذا الرجل.
قليلون من يعرفون أنه هزّ مملكة, و هزَّ باب (الباب العالي) و هزَّ مفاصل الدولة العثمانيَّة, في أواخر القرن التاسع عشر.
أعجوبة كان هذا الرجل. تصوَّروا إنساناً أراد أن يحول خانات دمشق التي كانت تزرب فيها الدواب إلى مسارح...
و يجعل من دمشق المحافظة, التقيّة, الورعة..(برودواي) ثانية..
خطيرة كانت أفكار أبي خليل.و أخطر ما فيها أنه نفَّذها.. و صُلب من أجلها..
أبو خلبل القبّاني كان إنسكلوبيديا بمئة مجلد و مجلد.. يؤلف الروايات, و يخرجها, و يكتب السيناريو, و يضع الحوار الحوار, و يصمم الأزياء, و يغني و يمثل, و يرقص, و يلحّن كلام المسرحيات, و يكتب الشعر بالعربية و الفارسيّة.
و حين كانت دمشق لا تعرف من الفن المسرحيّ غير خيمة (قره كوز) و لا تعرف من الأبطال, غير أبي زيد الهلالي, و عنترة, و الزير..كان أبو خليل يترجم لها راسّين عن الفرنسية..
و في غياب العنصر النسائي, اضطر الشيخ إلى إلباس الصبية ملابس النساء, و إسناد الأدوار النسائية إليهم, تماماً مثلما فعل شكسبير في العصر الفيكتوري.
و طار صواب دمشق, و أصيب مشايخها, و رجال الدين فيها بإنهيار عصبيّ, فقاموا بكل ما يملكون من وسائل,
و سلّطوا الرعاع عليه ليشتموه في غدوه و رواحه, و هجوه بأقذر الشعر, و لكنه ظل صامداً, و ظلّت مسرحياته تعرض في خانات دمشق, و يقبل عليها الجمهور الباحث عن الفن النظيف.
و حين يئس رجال الدين الدمشقيون من تحطيم أبي خليل, ألفوا وفداً ذهب إلى الأستانة و قابل الباب العالي, و أخبره أنَّ أبا خليل القباني يشكل خطراً على مكارم الأخلاق, و الدين, و الدولة العليّة, و أنه إذا لم يُغْلَق مسرحه, فسوف تطير دمشق من يد آل عثمان..و تسقط الخلافة.
طبعاً خافت الخلافة على نفسها, و صدر فرمان سلطاني بإغلاق أول مسرح طليعي عرفه الشرق و غادر أبو خليل منزله الدمشقي إلى مصر, و ودّعته دمشق كما تودّع كلُّ المدن المتجرة بوهوبيها, أي بالحجارة, و البندورة, و البيض الفاسد..
و في مصر, التي كانت أكثر إنفتاحاً على الفن, و أكثر فهماً لطبيعة العمل الفني, أمضى أبو خليل بقيَّة أيام حياته,
و وضع الحجر الأول في بناء المسرح الغنائي المصري.
إن انقضاض الرجعيّة على أبي خليل, هو أول حادث استشهاد فنيّ في تاريخ أسرتنا..و حين افكر في جراح أبي خليل, و في الصليب الذي حمله على كتفيه, و في ألوف المسامير المغروزة في لحمه, تبدو جراحي تافهة..و صليبي صغيراً صغيراً
فأنا أيضاً ضربتني دمشق بالحجارة, و البندورة, و البيض الفاسد..حين نشرتُ عام 1954 قصيدتي (خبز و حشيش
و قمر)..
العمائم نفسها التي طالبت بشتق أبي خليل طالبت بشنقي..و الذقون المحشوّة بغبار التاريخ التي طلبت رأسه طلبت رأسي..
(خبز و حشيش و قمر) كانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني و بين الخرافة..و بين التاريخين...
دارنا الدمشقية
لا بدَّ من العودة مرةً أخرى إلى الحديث عن دار (مئذنة الشحم) لأنها المفتاح إلى شعري, و المدخل الصحيح إليه.
و بغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة, و منتزعة من إطارها.
هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.
إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ,و لكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر ..و إنما أظلم دارنا.
و الذين سكنوا دمشق, و تغلغلوا في حاراتها و زواريبها الضيقة, يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون...
بوّابة صغيرة من الخشب تنفتح. و يبدأ الإسراء على الأخضر, و الأحمر, و الليلكيّ, و تبدأ سمفونية الضوء و الظّل
و الرخام.
شجرة النارنج تحتضن ثمارها, و الدالية حامل, و الياسمينة ولدت ألف قمر أبيض و علقتهم على قضبان النوافذ...
و أسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..
أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء.. و تنفخه.. و تستمر اللعبة المائية ليلاً و نهاراً..لا النوافير تتعب.. و لا ماء دمشق ينتهي..
الورد البلديّ سجَّاد أحمر ممدود تحت أقدامك.. و اللَّيلكَة تمشط شعرها البنفسجي, و الشِمشير, و الخبَّيزة, و الشاب الظريف,و المنثور, و الريحان, و الأضاليا.. و ألوف النباتات الدمشقية التي أتذكَّر ألوانها و لا أتذكر أسماؤها.. لا تزال تتسلق على أصابعي كلَّما أردت أن أكتب..
القطط الشامِّية النظيفة الممتلئة صحةً و نضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها و رومانتيكيتها بحريّة مطلقة, و حين تعود بعد هجر الحبيب و معها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها و يُطعمها و يكفكف دموعها..
الأدراج الرخاميّة تصعد.. و تصعد..على كيفها..و الحمائم تهاجر و ترجع على كيفها.. لا أحد يسألها ماذا تفعل؟
و السمكُ الأحمر يسبح على كيفه.. و لا أحد يسأله إلى أين؟
و عشرون صحيفة فلّ في صحن الدار هي كل ثروة أمي.
كلُّ زّر فّلٍ عندها يسلوي صبيّاً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها و سرقنا ولداً من أولادها..بكتْ..و شكتنا إلى الله..
ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر.. و لدتُ, و حبوتُ, و نطقتُ كلماتي الأولى.
كان إصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنتُ إذا تعثّرتُ أتعثّر بجناح حمامة.. و إذا سقطتُ أسقط على حضن وردة..
هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري و أفقدني شهِّية الخروج إلى الزقاق.. كما يفعل الصبيات في كل الحارات.. و من هنا نشأ عندي هذا الحسُّ (البيتوتّي) الذي رافقني في كلّ مراحل حياتي.
إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الإكتفاء الذاتي, يجعل التسَّكع على أرصفة الشوارع, و اصطياد الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال, عملاً ترفضه طبيعتي.
و إذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكادمية المقاهي, فإنني لم أكن من متخرّجيها.
لقد كنت أؤمن أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة, له طقوسه و مراسمه و طهارته, و كان من الصعب عليَّ أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجادّ من نرابيش النراجيل, و طقطقة أحجار النرد..
طفولتي قضيتها تحت (مظلّة الفيْ و الرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في (مئذنة الشحم).
كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي, كان الصديق, و الواحة, و المشتى, و المصيف..
أستطيع الآن, أن أغمض عيني و أعد مسامير أبوابه, و أستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته.
أستطيع الآن أن أعدّ بلاطاته واحدةً..واحدة.. و أسماك بركته واحدةً..واحدة.. و سلالمه الرخاميّة درجةً..درجة..
أستطيع أن أغمض عيني, و أستعيد, بعد ثلا ثين سنة مجلسَ أبي في صحن الدار, و أمامه فنجان قهوته, و منقله,
و علبة تبغه, و جريدته.. و على صفحات الجريدة تساقط كلّ خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء.. كأنها رسالة حبّ قادمة من السماء..
على السجادة الفارسيّة الممدودة على بلاط الدار ذاكرتُ دروسي, و كتبتُ فروضي, و حفظتُ قصائد عمر بن كلثوم, و زهير, و النابغة الذبياني, و طرفة بن العبد..
هذا البيت-المظّلة ترك بصماته واضحة على شعري. تماماً كما تركت غرناطة و قرطبة و إشبيليا بصماتها على الشعر الأندلسي.
القصيدة العربية عندما وصلت إلى إسبانيا كانت مغطّاةً بقشرة كثيفة من الغبار الصحراوي.. و حين دخلتْ منطقة الماء و البرودة في جبال (سييرا نيفادا) و شواطئ نهر الوادي الكبير..
و تغلغلت في بساتين الزيتون و كروم العنب في سهول قرطبة, خلعت ملابسها و ألقت نفسها في الماء.. و من هذا الإصطدام التاريخي بين الظمأ و الريّ..وُلِدَ الشعر الأندلسيّ..
هذا هو تفسيري الوحيد لهذا الإنقلاب الجذريّ في القصيدة العربية حين سافرتْ إلى إسبانيا في القرن السابع.
إنها بكل بساطة دخلتْ إلى قاعة مكيّفة الهواء..
و الموشحات الأندلسية ليست سوى (قصائد مكيفة الهواء)..
و كما حدث للقصيدة العربية في إسبانيا حدث لي, امتلأت طفولتي رطوبة, و امتلأت دفاتري رطوبة, و امتلأت أبجديتي رطوبة..
هذه اللغة الشاميّة التي تتغلغل في مفاصل كلماتي, تعلَّمتها في البيت-المظّلة الذي حدثتكم عنه..
و لقد سافرت كثيراً بعد ذلك, و ابتعدت عن دمشق موظفاً في السلك الديبلوماسي نحو عشرين عاماً و تعلمت لغاتً كثيرة أخرى, إلاَّ أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي و حنجرتي, و ثيابي. و ظللتُ ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كلَّ ما في أحواض دمشق, من نعناعٍ, و فلّ, و ورد بلدي..
إلى كل فنادق العالم التي دخلتُها..حملتُ معي دمشق, و نمت معها على سريرٍ واحد.
أيها الناس
أنا المسؤول عن أحلامكم اذ تحلمون
وأنا المسؤول عن كل رغيف تأكلون
وعن الشعر الذي – من خلف ظهري – تقرأون
فجهاز الامن في قصري يوافيني
بأخبار العصافير وأخبار السنابل
ويوافيني بما يحدث في بطن الحوامل
أيها الناس أنا سجانكم
وأنا مسجونكم فلتعذروني
أنني المنفي في داخل قصري
لا أرى شمسا ولا نجما ولا زهرة دفلى
منذ أن جئت الى السلطة طفلا
ورجال السيرك يلتفون حولي
واحد ينفخ نايا
واحد يضرب طبلا
واحد يمسح جوخا
واحد يمسح نعلا
منذ أن جئت الى السلطة طفلا
لم يقل لي مستشار القصر كلا
لم يقل لي وزرائي ابدا لفظ كلا
لم يقل لي سفرائي ابدا في الوجه كلا
لم تقل احدى نسائي في سرير الحب كلا
انهم قد علموني ان ارى نفسي الها
وارى الشعب من الشرفة رملا
فاعذروني ان تحولت لهولاكو جديد
أنا لم أقتل لوجه الله يوما
انما اقتلكم كي أتسلى
باقة زهـور من جـنـيـنة نـزار الـشعـرية
من يوميات كلب مثقف..
مولاي:
لا اريد منك ياقوتأ.. ولا ذهب
ولا اريد منك أن تلبسني الديباج والقصب
كل الذي أرجوه أن تسمعني
لأنني أنقل في قصائدي إليك
جميع اصوات العرب
جميع لغات العرب..
إن كنت- يا مولاي
لا تحب الشعر والصداح
فقل لسيافك أن يمنحني
حرية النباح…
قرص الأسبرين
لا..
ليس هذا وطني الكبير
لا
لا ليس هذا الوطن المربع الخانات كالشطرنج
والقابع مثل نمله في أسفل الخريطة..
هو الذي قال لنا مدرس التاريخ في شبابنا
بأنه موطن الكبير.
لا
ليس هذا الوطن المصنوع من عشرين كانتونأ
ومن عشرين دكانا..
ومن عشرين صرافا..
وحلاقا..
وشرطيا..
وطبالا.. وراقصة..
يسمى وطني الكبير..
لا...
ليس هذا الوطن المحكوم من عشرين مجنونا
ومن عشرين سلطانا...
ومن عشرين قرصانا
ومن عشرين سجانا
يسمى وطني الكبير …
لا...
ليس هذا الوطن السادي.. والفاشي
والشحاذ.. والنفطي
والفنان .. والأمي
والثوري.. والرجعي
والصوفي.. والجنسي
والشيطان.. والنبي
والفقيه ، والحكيم، والامام
هو الذي كان لنا في سالف الايام
حديقة الأحلام..
لا...
ليس هذا الكائن المحكوم بالإعدام..
والمصاب بالفصام،
والجالس مثل الكلب تحت جزمة النظام،
والممنوع من حرية التعبير
لا...
ليس هذا الجسد المصلوب
فوق حائط الأحزان كالمسيح
لا...
ليس هذا الوطن الممسوخ كالصرصار،
والضيق كالضريح..
لا..
ليس هذا وطني الكبير.
لا...
ليس هذا الأبله المعاق.. والمرقع الثياب،
والمجذوب، والمغلوب..
والمشغول في النحو وفي الصرف..
وفي قراءة الفنجان والتبصير..
لا..
ليس هذا وطني الكبير..
لا...
ليس هذا الوطن المنكس الاعلام..
والغارق في في مستنقع الكلام،
والحافي على سطح من الكبريت والقصدبر
لا...
ليس هذا الرجل المنقول في سيارة الإسعاف،
والمحفوظ في ثلاجة الأموات،
والمعطل الإحساس والضمير
لا...
ليس هذا وطني الكبير.
لا..
ليس هذا الرجل المقهور..
والمكسور ..
والمذعور كالفأرة..
والباحث في زجاجة الكحول عن مصير
لا...
ليس هذا وطني الكبير..
يا وطني:
يا أيها الضائع في الزمان، والمكان،
والباحث في منازل العربان..
عن سقف وعن سرير
لقد كبرنا.. واكتشفنا لعبة التزوير
فالوطن المن أجله مات صلاح الدين
يأكله الجائع في سهولة
كعلبة السردين..
والوطن المن أجله قد غنت الخيول في حطين
يبلعه الانسان في سهوله..
كقرص أسبرين!!..
بيروت 85/1/8
من قصيدة : الــتــأشـيـرة
في مركز للأمن في إحدى البلاد النامية
وقفت عند نقطةالتفتيش ،
ما كان معي شئ سوى أحزانية
كانت بلادي على بعد ميل واحد
وكان قلبي في ضلوعي راقصاً
كأنه حمامة مشتاقة للساقية
كلن جوازي بيدي
يحلم بالأرض التي لعبت في حقولها
واطعمتني قمحها ، ولوزها ، وتينها
وأرضعتني العافية
وقفت في الطابور ،
كان الناس يأكلون اللب والترمس
كانوا يطرحون البول مثل الماشية
من عهد فرعون إلى أيامنا
هناك دوماً حاكم بأمره
وأمة تبول فوق نفسه كالماشية
في مركز للأمن في بلادية
وليس في الكونغو ولا تانزانيا
الشمس كانت تلبس الكاكي ،
والوردة كانت تلبس الملابس المرقطة
كان هناك الخوف من أمامنا
والخوف من ورائنا
وضابط مدجج بخمس نجمات وبالكراهية
يجرنا من خلفه كأننا غنم
من يوم قابيل إلى أيامنا
كان هناك قاتل محترف
وأمة تسلخ مثل الماشية
في مركز العذاب ، حيث الشمس لا تدور
والوقت لايدور
أين أنا ؟
كل العلامات تقول :
هذه ( أعرابياً )
كل الإهانات التي نسمعها
كل الدروب ، كلها
تَفضي لسيف الطاغية
أين أنا ؟
ما بين كل شارع وشارع
قامت بلد
ما بين كل نخلة وظلها
قامت بلد
في مركز الجنون ، والصداع ، والسعال ، والبلهارسيا
وقفت شهراً كاملاً
وقفت عاماً كاملاً
وقفت دهراً كاملاً
أمام أبواب زعيم المافيا
أشحذ منه الإذن بالمرور
أشحذ منه منزل الطفولة
والورد ، والزنبق ، والأضاليا
قلت لنفسي وأنا
أواجه البنادق الروسية المخرطشة
واعجبي واعجبي
هل أصبح الله زعيم المافيا ؟؟
وقفت عمراً كاملاً
وعندما أصبحت شيخاً طاعناً
ووافقوا على دخولي وطني
عرفت أن الوطن الغالي الذي عشقته
ما عاد في الجغرافيا
ما عاد في الجغرافيا
ما عاد في الجغرافيا
الدمية
أخاطب عقلك من غير طائل..
أخاطب فكرك من غير طائل..
أخاطب فيك الثقافة..
من غير طائل..
و لكنني, لا أرى غير جسم مثيرٍ
و أسمع في قدميك
رنين الخلاخل.