ميخائيل نعيمة
ولد في بسكنتا عام 1889
سافر عام 1906 الى روسيا حيث قضى خمس سنوات في الدراسة والتحصيل
وفي عام 1912 قصد الولايات المتحدة الأميركية والتحق بجامعة واشنطن حيث تخرّج عام 1916 مجازاً بالحقوق
عام 1920 اشترك في تأسيس الرابطة القلمية في نيويورك
عاد الى لبنان عام 1932 وانصرف الى الكتابة والتأليف، وكان غالباً ما يلجأ الى الشخروب حيث يختلي بنفسه للكتابة فلقب بناسك الشخروب
مؤلفاته كثيرة في القصة والنقد والسيرة والمقالة والفلسفة، أبرزها:«كان ما كان» «أبو بطة» «الغربال»، «جبران»، «سبعون» وهو سيرة حياته، «المراحل»، «البيادر»، «مرداد»
توفي عام 1988 ودفن في الشخروب حيث أقيم له تمثالٌ في الصخر
وصفُ الطبيعة
روح الوحدة الطبيعة رفيقه الإنسان، هي أوّل المؤثرات الخارجية في تكوينه، تمدُّ جسده بضروريات العيش من خيراتها. وتصقل حسّه بمباهجها وموسيقاها. وتنمّي خياله بتنوع مناظرها، وتغذي روحه بسحرها واسرارها. فلا يمكن ان يكون الإنسان غير مبالٍ بما يحيط به من مظاهر الطبيعة. فهو تارةً ينظر اليها نظرة متفرج يسجّل خصائصها ويعدد ميزاتها فيأتي وصفه موضوعياً أميناً على الحقيقة المحسوسة، وهو تارةً أخرى يتخطى بنظرته المحسوس الى التأمّل في أسرارها والى بثّ الحياة والحركة في الكائنات فيأتي وصفه ايحائياً يعكس التفاعل بينه وبين الطبيعة بحيث تمتزج حقيقة الموصوف بمشاعره وتخيلاته
الشخروب
يقع الشخروب على بعد خمسة كيلومترات الى الشرق من بسكنتا ويرتفع عنها ثلاثمئة متر. وهو بتكوينه يشكل شبه مثلث تحصره من الغرب والشرق ساقيتان تلتقيان الى الجنوب في واديه، ومن الشمال سلسلة من الصخور الشاهقة تتخللها بعض الفجوات
تكثر في الشخروب الصخور من شتى الأحجام والأشكال، وكلها كلسي، رمادي اللون، صلب الفؤاد منها الضخم المنبطح على الأرض حتى إن ظهره ليتسع لبناية كبيرة. ومنها المتدثر بالتراب فلا يطل منه عليك غير قسم قد لا يجاوز حجم الرأس. ولكنك إذا حاولت اقتلاعه، وجدته يمتد تحت الأرض الى مسافات بعيدة. ومنها المنتصب كالمارد بقامة يبلغ ارتفاعها مئة قدم وأكثر، كتلك الصخور التي تشكل حدود الشرخوب الشمالية، والتي فتتت العناصر شيئاً من قواعدها فبرز البعض منها في شكل طنف بامكانك ان تحتمي تحته من الشمس والمطر
ومثلما تكثر الصخور في الشخروب تكثر الأشجار البرية كذلك، كالبلوط والسنديان والبرقوق والزعرور والبطم وغيرها، وتكثر مع الأشجار الأشواك والأعشاب من شتى الأنواع. وهذه تزهر في الربيع ، ولكل منها لونه الخاص وشذاه الذي يتفرد به
ماذا يجديك قولي إن الشخروب بقعة صغيرة في سفح صنين تكثر فيها الصخور والأشجار والأشواك والعصافير، وأنت لم تعاشر، مثلما عاشرت، تلك الصخور والأشجار والأشواك والعصافير؟ لا عرفت، مثلما عرفت، انها تزخر جميعها بالحياة والحركة ليل نهار؟ ولا أنت تفيأت شجرة من شجرات الشخروب وسكرت بما يدور من وشوشات ما بين اوراقها والنسيم
وأخيراً ماذا يجديك قولي ان صنين يبدو كما لو كان على مرمى حجر من الشخروب؟ فلا عيناك تشبعتا مثل عيني بمناظر أخاديده وأفاريزه ومنحدراته، وبرقصة الأنوار والظلال العجيبة على جبهته، وبجلال النسور تحلق في اجوائه. ولا رجلاك تسلقنا مثل رجلي اضاليعه حتى قمته. ولا أنت أصغيت، مثلما أصغيت، إلى زمجرة أعاصيره وهيمنات نسماته. ولا جلست، مثلما جلست، على الثلج في أعاليه والشمس من فوقك تكاد تشويك شياً. ولا وقفت على قمته وشعرت كانك واقف على قمة الدنيا
فالشخروب كان، وما برح «الجرد» الذي إليه نلجأ في الصيف لنستغل من ترابه ومائه وهوائه ما استطعنا من العافية وضروريات العيش. وقد شاء لي ربّان حياتي ان استغل منه ما هو أثمن حتى من العافية ومقومات العيش
ميخائيل نعيمه
(سبعون – الجزء الأول)
البساط الابيض
أطلّت شمس كانون الثاني من فوق صنين، فخرجت أتقبّل سلامها وألقي عليها سلامي. وكانت الأرض مفروشة ببساط من زبد البحر، وقد شدّ الصقيع لحمته وسداده، فبان درعاً من لجين. وكانت السماء مرآة مقعَّرة جلاها الصقيع. فماؤها اصفى من ماء عين الرضيع
رحت أهيم على وجهي، فآنا اصعد وآونة اهبط، والثلج يخشخش تحت قدميَّ خشخشة فيها من الألحان أعذبها وأطربها. والهواء الصقيع يدخل صدري فتصفقُ له رئتاي جذلاً. واحسُّني كالمحمول على اجنحة، والبساط الأبيض أمامي يتلألأ بأشعة هي السحر بعينه. فكأن مارداً بذر الأرض حجارة كريمة، ثم صوّب عليها الشمس، فاشتعلت بكل الألوان قوس قزح، حتى أني خشيت على عيني تبهرهما تلك الألوان المشعشعة، وتذهب بنورهما. فكنت بين الفينة والفينة أرفعهما الى زرقة السماء، او أمضي بهما بعيداً الى خضرة الصنوبر والسنديان، او الى شواهق الصخور الغبراء التي ما استطاع الثلج ان يلفها كلها بوشاحه
ألا ليت لي اذناً تسمع دبيب عصير الحياة في عروق الدوالي المتدثرات بالثلج تحت قدمي! أيا ليت لي عيناً تبصر حبيبات العنب تتلوّن الآن في أحشائهن لتنتظم فيما بعد عناقيد مدلاة من اذرعهنَّ ومن أصابعهنَّ!
ميخائيل نعيمه
رسالة الشرق المتجدد
ليس عليك ان تكون نبياً، لتقرأ ما تخطه إصبع القدر على جبين هذه الحقبة من تاريخ البشرية. فالمدنية الغربية المسيطرة على العالم، منذ اجيال وأجيال، تتخبط اليوم في شباك من المشكلات المعقدة التي خلقتها من نفسها لنفسها، وتفتِّش عن باب للخلاص، فلا تهتدي إليه. ذلك لأنها صرفت جلّ اهتمامها الى العقل، وترويضه، وننظيمه. فكانت هذه الطفرة الباهرة في دنيا العلوم النظرية والتطبيقية، وكان هذا الفيض العارم من الاختراعات العجيبة، والاكتشافات المدهشة. أما القلب الذي تصطرع فيه سود السهوات وبيضها، فما احسنت ترويضه وتنظيمه. فكان هذا الطغيان الذي نشهده اليوم، من أنانية ،وحقد، وبغض، وتنابذٍ وجشع مكرٍ، ودهاء وغيرها من الشهوات السود. ومن شأن هذه الشهوات، إذا استفحل امرها، ان تعبث بنتاج العقل، فتجعله اداة تخريب بدل التعمير، ومصدر شقاء لا هناء، ونقطة انزلاق لا انطلاق . وها هي تقوّض اليوم أركان هذه المدينة. مثلما قوضت اركان ما سبقها من مدنيات
وأني لأسأل : اذا انهارت المدينة الحاضرة- ولسوف تنهار- فمنذا الذي الذي سيرفع للبشرية مشعل الهداية، ويقيلها من عثرتها، ثم يقودها في الطريق السوي، الى الهدف السني المعد لها منذ الأزل؟
إن للأزمنة دلائلها. ودلائل زمان نحن فيه، لا تترك في ذهني اقل الشك في أن الشرق مدعو للقيام بهذه المهمة الخطيرة من جديد. فهو الذي انبرى لها مرةً بعد مرة، منذ فجر التاريخ، فما أفلح الإفلاح كله. ولا اخفق الإخفاق كله، وما الديانات التي نشرها في الأرض، على اختلاف اسمائها ومسالكها، سوى مناهج ترمي الى ترويض القلب، عن طريق الخير والشر، على تذليل شهواته السود لشهواته البيض. كيما يتاح له أن يبصر طريقه الى الهدف الأبعد والأسمى، ألا وهو المعرفة الكاملة، والقدرة الكاملة، والحرية الكاملة التي من شأنها ان تعود بالإنسان الى مصدره الإلهي، فتجعل منه إلها
تلك في خطوطها الواسعة، هي رسالة كل دين من الأديان التي جاء بها الشرق
ولقد حاول الشرق، فيما مضى أن يطبّق دينه على دنياه، وأن يجعل من الأرض سلماً يرقى به الى السماء، فما نجح من بنيه غير أفراد. اولئك هم الأنبياء، والأولياء، والقديسون، والمختارون، أما الجماهير، فقد اجهدتها المحاولة، وانهكت قواها فلاذت بالقشور، واهملت اللباب. وكان من ذلك ان أنشلّت القوى الخلاقة في اديان الشرق، وإذا بها تغدو طقوساً متحجرة، وأداة تفرقة وتنابذ بين الشعوب، بدلاً من ان تكون اداةً جمع وتعاون
وهكذا هجع الشرق هجعته الطويلة. وقد سيم في خلالها شتى انواع الذل والهوان على يد أخيه الغرب. ولكنه اليوم ينتفض انتفاضة الجبار، فينزع عنه معلماً تلو معلم من معالم الاستثمار والاستعمار، ويكشع ظلمات الذل والهوان، ويعمل بنشاط واندفاع، على ترميم ما انهار من عزيمته، واسترداد ما ضاع من حقّه، وتليين ما تصلّب من شرايينه، فهو كالنسر يجدد شبابه، ويتطلع الى عالم أرحب وافضل وأجمل من عالم هو فيه
ويقيني ان الشرق المتجدد يستطيع أن ينجي العالم من كارثة، إذا هو عرف كيف يتحرر من ربقة الطقوس المتحجرة، وكيف يستمدُّ القوة والهداية من معلّميه العظام.
ميخائيل نعيمه – دروب 1:19 PM 1/11/2017