محمود تيمور وامارة القصة المصرية
لم تبلغ القصة العربية المرتبة التي تليق بها، وقد سبقتها القصة الغربية اشواطا ، وقطعت عنها مسافات. والادب القصصي في البلدان العربية لا يزال يتلمس طريقه، والقصاصون المعاصرون يتلهون بعلاج فكرة، هي بعيدة عن روحية الشعب وآماله، مع ان هنالك محاولات عديدة، ومآثر حميدة حمل رايتها افراد من اصحاب المواهب الحقيقية والاقلام، لكن هل بلغوا الارب، واصابوا الهدف، وحققوا اماني القراء والشعب؟ كلا لقد ضلوا الطريق السوي، وظلوا ضمن دائرة السطحية والسرد، لم ينبوا اسس النهضة الحديثة، ولم يضعوا اصابعهم على الموضوعات التي يمكن ان تشكل ادب القصة العربية، ولعل ذلك عن جهل، او عن ضعف او خوف. هناك فكرة العرض بمفهومها الشرقي، وفكرة الوطن، وفكرة الدين، وكلها ما تزال حتى اليوم على هامش القصة العربية في حين انه يجب علينا ان نسير مع تطور الحضاري والاجتماعي، فنتخطى الصعاب وتقاليدنا القديمة الموروثة، والتي هي بحاجة ال صقل وتهذيب وتطور، ونطلع على من سبقنا في هذا الميدان الرحب لنكون في النتيجة ادبا قصصيا هو مرآة لحياتنا.
شيوخ القصة العربية وشبابها
من شيوخ القصة العربية المعاصرة وشبابها: محمود تيمور، توفيق الحكيم، طه حسين، امين يوسف غراب، حسين هيكل، احسان عبد القدوس، يوسف السباعي، عبد الحليم عبد الله، كرم ملحم كرم، توفيق عواد، جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمه. ومن القصاصين الذين اعتمدوا على الترجمة والوضع، وكانوا مجلين: سليم البستاني في "الجنان" ويعقوب صروف في "المقتطف" وجرجي زيدان في "الهلال".
وبرز من كتاب القصة الاجتماعية: الريحاني والمنفلوطي وحافظ ابراهيم ومحمد فريد وجدي ولطفي جمعه والمعلم بطرس البستاني وولي الدين يكن.
ويتسم حسين هيكل في قصته "زينب" بالطابع المحلي، ويميل الى التحليل النفسي. ويقف محمود ثيمور وقفة الرسام الماهر، ويمتاز مذهبه القصصي بالتطور من الواقعية الصرفة الى التحليل، وقد برع في رسم الشخصيات وهو من المتأثرين بزولا وبلزاك روموبسان.
يسير توفيق الحكيم على نهج جديد الا وهو "الصلة المتينة بين الفن والحياة" وجمعه بين الاجتماع والروحانية في كتابيه: "عصفور من الشرق" و "عودة الروح" وابداعه في رسم الشخصيات وقوة الحوار.
اما المازني فتمتاز قصصه بالسخرية والاجتماع، يكتب كما يعيش، فينقل احاديث الناس باسلوب سلس فكه لا يمل منه، وينتقل من موضوع لآخر دون تكليف أو تمهيد، لقد صور الحياة كما رآها، فآلمته شجونها وقتامها فاسخطها وبكاها، وحاول ان يبكيها من جديد، لكن رجولته كانت له بالمرصاد، وبهذا يقول في "ابراهيم الكاتب": "... ولكن الناس خلقاء ان يذكروا ان الحياة ثقلية على الكاتب وانه لعل في نفسه جرحا وفي صدره قبحا ... وانه عسى ان يكون ممن يودون لو يضحكون ويضحكون غيرهم" ثم ينطلق من كبوته ووحدته فيحدثنا عن الحياة باسلوب ضاحك ساخر، غير ان هذا الوصف لا يخلو من حسرات عابرة.
اما القصة التاريخية فقد امتاز بها: نقولا الحداد، وفريد ابو حديد، ولعل الثاني يفوق جرجي زيدان، حيث اتخذ من القصة وسيلة لاحياء الفكر.
ويعتبر جبران خليل جبران: رائد الاقصوصة والقصة في العالم الجديد، وجرجي زيدان خالق القصة التاريخية، ونعيمه الذي تكتمل عنده عناصر الاقصوصة الفنية. وفي مقدمة من يمثل القصة التحليلية العميقة والكشف عن خبايا ابطالها النفسية: عباس محمود العقاد في كتابه "ساره" فيحلل الحق والحب باسلوب واقعي جميل، ويظهر فيه تأثير "بورجيه" كما برع بكتابة "العبقريات" فنقل مواعظ الانبياء والمرسلين، مستوحيا في كتابه "عبقرية محمد" بعض المناهل الاولية من كتاب "حياة محمد" "لحسين هيكل" و"الرسالة الخالدة "لعبد الرحمن عزام". وحكم على علي بن ابي طالب من خلال كتابه "نهج البلاغة". ولعل أحسن عبقرياته كتابه: "الله" حيث تتجلى الحقيقة منسجمة باسمى مظاهرها وازهى معانيها.
وخير من صور مآسي الحياة وشجونها طه حسين في كتابيه "الايام" و "المعذبون في الارض".
انتاج محمود تيمور القصصي
بدأ محمود تيمور حياته الادبية يكتب باللغة العامية، فنصحه طه حسين واتباعه ان يكتب باللغة الفصحى، وان يقرأ القصص والمسرحيات العصرية والقديمة من شرقية وغربية، فامتثل لنصائحهم وتوجيهاتهم، وشرع يترجم بعض قصصه العامية الى اللغة الفصحى، وفي مقدمة ما ترجمه كتاب: "ابو علي عامل ارتست" الذي اصبح في الفصحى "ابو علي الفنان".
يتصف تيمور في قصصه: انه يرسم الاشخاص حركاتهم وسكناتهم، بؤسهم وآلامهم، تأوداتهم وسهرهم، احلامهم وامانيهم، تفاؤلهم وتشاؤمهم، حتى انك تلمس الحياة في سهولة حركاتهم، فيداعبهم ويسامرهم مخففا عنهم دموع الحياة، ونوائب الوجود ، ومكايد الزمن، ليقينه ان الحياة ما هي الا حلم جميل، وهي شبيهة الى حد بعيد بفضول السنة المتبدلة، فمن شتاء دامع حزين، الى ربيع فتان مفرح، الى خريف ذابل خامل، الى صيف ناضج مثمر.
وتيمور خصب الانتاج، لا يتوانى قلمه عن اظهار خوالج نفسه، يرأف دوما وابدا على كل حزين ملتاع في الوجود، فهو في قصة "ولي الله" من مجموعة "شفاه غليطة" يصور أسمى جانب من القلب الانساني. وفي قصة "كلب اسعد بك" يرسم لنا بلطافة ووداعة صورة اجتماع السمو في النظام البشري. وفي مجموعة "ابو الهول يطير" يصف لنا مشاهدات وخواطر سجلها سائح في العالم الجديد. و"سلوبي في مهب الريح" قصة تبسط حياة فتاة لعبت بها ضروب من تصاريف القدر."عطر ودخان" فصول طريفة في نقد الحياة والمجتمع. و"كيلوبترة في خان الخليلي" قصة الصراع الدائم بين العالم الحقيقي ودنيا المثال.و "حواء الخالدة" قصة المرأة منذ الازل وقصتها الى الأبد. و "شفاه غليظة" مجموعة اقاصيص مصرية و "بنت الشيطان" قصة الخير والشر في طبيعة البشر و "فن القصص" فصول جامعة لدقائق الفن القصصي.
ومما يعجبني بتيمور الوداعة التي تتراءى من خلال سطوره، وعطفه على اخيه الانسان؛ اسمعه يقول: "وكان هذا الرجل يستحق هذا العطف، بل يستحق اكثر منه، اذ انه كان متحليا بفضائل خليقه بأن تحببه الى كل مخلوق، فهو وادع النفس، كثير البشاشة، وله اسلوب رقيق في الكلام، خال من العبارات المزيفة، صادر من قلب لا يعرف التملق والمكر".
ورغم امراض تيمور واوجاعه، فهو دوما وابدا يتفاءل بالخير، فيشدو فرحا ، شاكرا واجب الوجود، لان الله لا يخلق الا الجميل، ولا يودع مخلوقاته الا الحب، اذ انه سبحانه المثل الاعلى للحب والجمال.
ان هذه النفس العالية هي شبيهة باسلافها العظام كالمعري، وزهير بن ابي سلمى، والخنساء، فتيمور الواقعي يستهل قصته بجمال الطبيعة، وروعة الوجود، فيقدم لنا بطل قصته في حركاته وسكناته، في خلقه وخلقه، في زيه وتقاليده، في هواجسه واحلامه، في شروده وامانيه. وقبل ان يصف لنا "الشيخ جمعة" وخرافاته يقدمه لنا بلبساه وعاداته وهيئته فيقول: "لقد مرت السنون الطوال، وتغير كل شيء على الارض الا الشيخ جمعة؛ فهو الرجل ذو العمامة الحمراء والجلباب ذي الاكمام الواسعة، هو ذو الابتسامة العذبة والراس المنحني قليلا الى الأمام.. هو ذو العينين البراقتين والانف الغليظ، واللحية الرمادية الكثة. هو ذو المشية المتمهلة، والصوت الرفيع العذب، والخيال العريض، والامل المطلق اذي لا حد له. هو الذي يقوم من النوم مبكرا صوب الجامع ليؤدي فريضة الصبح قبل شروق الشمس. وهو الذي يقضي معظم نهاره في المصلى الواقع على شاطىء الترعة يتوضأ ويصلي ويسبح ويقرأ الاعداد".
والقصة التي تمثل الواقع الاجتماعي في أدب تيمور روايته: "الاطلال" حيث تمثل الحياة الارستقراطية التي حلت في مصر منذ عهد العثمانيين، فيمتزج وصفه الحسي بالتحليل، ويصطدم العقل بالغزيرة، ويبدو تأثره البالغ بكورني في رائعته "السيد" يتغلب عند الاخير الواجب على الهوى، والشرف على العاطفة، وان كان تيمور قد عاكسه الرأي في بعض مشاهد قصته.
و "الاطلال" مأساة في فنون الهوى، فنرى الشاب بطل القصة ساهدا ارقا ، متجهم الوجه، ذابل المحيا، وقد اضناه الوجد، فبكى وتهنف وتأفف... هذا الصراع العنيف بين الروح والجسد، بين العقل والغريزة، انتهى اخيرا بفوز الغزيرة على العقل، وبتضاؤل الوصف الجسدي.
ولو ان تيمور قد اقتدى بالشاعر الفرنسي كورني في رائعته "السيد" وترك العقل يتغلب على العاطفة والغزيرة، لجاءت قصته مكتملة العناصر، اصيلة الجوانب.
اما كتابه "الماضي المجهول" فقد جمع فيه بين الخيال والوصف الدقيق، والقصة اسطورية استقى هيكلها من الاساطير الفينيقية القديمة، ومن كتاب "من اعماق الجبل" لصلاح لبكي.
ويقص علينا في كتابه "ثائرون" حكايات جديدة من صميم الحياة الاجتماعية، فيصف الشيخ صفوان بنظراته الصائبة، وتصوفه الغريب، وامتثاله للواقع في غفران ذنوب ابنته "حليمة" حيث فقدت عفافها، وباتت طعاما لسراحيب الشهوة، وذئاب الجسد. وقد التقى المؤلف في قصته بالكاتب الروسي "مكسيم غوركي" حيث حلق في هذه الناحية وبلغ الاوج. لكن تيمور قد اخفق في قصته "رهان" في حكمه على سليم، وكان الاحرى به ان يدع "سليمه" يناقش رئيس تحرير المجلة الحساب، وان يظهر له حقيقة المحرر الذي ادعى ملكيته للقصة العاطفية، والتي كانت من تأليفه ووصفه. ان تهرب سليم من الواقع، وعدم اظهاره حقوقه دروب من الهذيان وعدم المنطق، كان يجب عليه ان يجهر بالحقيقة، وان يتمسك بحقوقه كاملة غير منقوصة، وتهاوده في هذا القبيل ضعف ووهي.
يتناقض تيمور في قصته هذه اناتول فرانس حيث يقول الاخير:"لا تدع حقك يذهب هدرا ، بل جاهر به، ولا تخف النتائج مهما كانت مخيفة وسلبية."
وتغنى شوقي بالراي الديد فقال:
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا ان الحياة عقيدة وجهاد
لعل محمود تيمور قد تأثر بنعيمه، واقتبس منه قصته "السرنوك" في كتابه "ابو بطه" صفحة 91، والتي نشرت على صفحات مجلة الهلال عام 1948 وتتلخص: "السرنوك مهموم، يخاطب اخته بحزن وغضب: "ما قولك في معلم ينظم احد تلاميذه قصيدة ويعرضها عليه لابداء رأيه فيردها اليه بعد حين ويأمره بتمزيقها فهي لا نظم ولا شعر، ثم لا يمضي شهران حتى يطالع ذلك التلميذ قصيدته منشورة برمتها في امهات الصحف وممهورة بامضاء معلمه وقد نالت الجائزة الاولى في مسابقة شعرية عالمية."
".. ما قولك بذلك المعلم يهدد ذلك التلميذ بالسقوط في امتحاناته اذا هو فضح الامر وفاه بكلمة واحدة عنه لأحد من الناس؟"
وربما تأثر كلاهما ايضا بابن المقفع القائل: "على العاقل ان يعود عن الرأي الذي لا يرى عليه موافقا وان ظهر انه على اليقين." لكن لكل زمن عصره، فابن المقفع عاش في العصر اعباسي الاول (724-759-106-142ه) بينما تيمور ونعيمه لا يزالان على قيد الحياة، وفي عصر التحرر والاشعاع الفكري.
قام تيمور في المدة الاخيرة بطبع كتابه عن "مشكلات اللغة العربية" حيث يناقش فيه الصراع بين اللغتين العامية والفصحى. ويقول انه اكثر من اربعين بالمئة من الالفاظ الدارجة تمت بصلة الى الفصحى، وانه يجب على المؤلف ان يستعمل اللغة الفصحى السهلة في الكتابة القصصية، وليس ثمة مانع من استخدام الالفاظ العامية، فهي لا تقلل من شأن القصة، بل تزيدها جمالا وروعة.
وقد تلاقى تيمور مع توفيق الحكيم في مسرحية "الصفقة" اذ ان الاخير لم يذهب مذهب طه حسين في معالجة الحروف وقلب الياء الفا، بل وضع مشكلة رئيسية في اللغة موضع التنفيذ؟ و عندما نقرأ مسرحية "الصفقة" يبدو لنا لأول وهلة انها مكتوبة باللغة العامية، ومتى عدنا الى تكرارها من جديد وجدناها لغة فصحى، سليمة من الهفوات والأخطاء الصرفية و النحوية.
التمثيل
ان اكثرية مجهود تيمور يتجه الى نوعين من القصة: التمثيلية والقصة القصيرة، والفرق بين النوعين: ان التمثيلية تعتمد على تصوير الاشخاص حركاتهم وسكناتهم، احاديثهم وآمالهم، اهدافهم ونزعاتهم.
وكتابة المسرحية صعبة، فيها دقة وفن، ويحذر على الكاتب المسرحي ان يعالج موضوعا خياليا ، تلعب فيه الحيوانات والنباتات والعجماوات ادوارا اولية اهم من دور الانسان، لان الموضوع الجيد، في مقدمة العناصر المفروضة على المسرحية، شأن النغم الجيد في قطعة موسيقية.
اما القصة فتعتمد على تصوير الاشخاص، ووصف مواقفهم واعمالهم، وما يعتري تفكيرهم من آراء ونظرات، وما بجيش في اعماقهم من عاطفة وحنان، والتغلغل فيما وراء الوعي، والنفذ الى باطن الحياة والمجتمع حتى تتجلى الحقيقة جلية واضحة، ولن تكتمل في القصة انسانيتها بما فيها من جمال التصوير، وتعدد المشاهد، ولطف المحاورات الا اذا اذا كانت منطقية، دقيقة في تصوير النزعات حين تتأثر بما حولها، فتتناول عقلية الجماهير ومفاهيمهم للحياة، وتعبر عن نفسيتهم.
مال محمود تيمور الى المسرح منذ بدء كتابته، ويبدو تعلقه الشديد بالفن المسرحي جواب شقيقه محمد له: "تسألني في خطابك عن التمثيل في باريس، فها انا مجيبك لعلمي بحبك هذا الفن، ولست انسى ايام كنا نتخذ من سريرنا مسرحا ، ومن كلته ستائر، ومن غرفة نومنا دارا تمثيليا ، نمثل فيها امام من كنا نجمعهم من رفقائنا الصغار".
مآخذ تيمور
يؤخذ على تيمور في انتاجه القصصي عدم اعتكافه على دراسة البيئة الخاصة للحياة الانسانية دراسة عميقة، انه يسلي احيانا ، ويفيد طورا ، ولا يبعث على التفكير العميق. وقد حير النقاد، فمنهم من قدر انتاجه، واقر بمقدرته في رسم الشخصيات، والبعض الآخر قال: "ان مذهبه القصصي قد تطور من الواقعية الصرفة الى التحليل، وان فترة الخرافة عنده تبدأ في قصتيه "نداء المجهول" و"كيلوبتره".
بين محمود تيمور وتوفيق الحكيم
بين تيمور والحكيم رابطة روحية صميمة، وهدف سام يسعيان اليه، فكلاهما يوجهان ويرشدان، وكلاهما نذرا نفسهما لخدمة القلم.. فتناولهما طه حسين برعايته، ووجهما الى الادب الغربي، والطريق الخير.
بدأ توفيق الحكيم حياته كاتبا مصريا صميما ، يعالج الهفوات الاجتماعية، ناقلا احاديث الورى في الارياف بدقة، فكتب "عودة الروح" ووفق بعرض فكرته، واتى باسلوب طلي جديد، كما اجاد في "يوميات نائب في الارياف" من حيث التصوير البديع، وهو بحق اقدر من كتب في الحوار، وتصوير الشخصيات، ويملك عقلا رزينا لا يتوانى عن اظهار كل عثرة وضلال في المجتمع.
لقد زود الحكيم المكتبات العربية بعدد وافر من الروايات القصصية والمسرحية واهمها: "اهل الكهف" و "الرباط المقدس" و"بجماليون" و"شهرزاد" و "حمار الحكيم". وتتسم كل من قصيته "عودة الروح" و "يوميات نائب في الارياف" بطابع خاص مستقل عن الآخر. فالقصة الاولى من خير الدراسات عن الحياة السياسية والاجتماعية في الديار المصرية خلال سنين الثورة التي قامت بزعامة سعد زغلول، والقصة الثانية دراسة اجتماعية موفقة ينقل فيها ما يقابله نائب في الريف من الشخصيات.
لقد اتجه الحكيم دائما الى اغراض بعيدة عن نظرية الفن للفن، وكان دائما مرتبطا باهداف ايجابية فيها غذاء للروح، بيد انه كان لا يراعي انفعال القارىء واستشارته وامتلاكه، بل كان متجها في كتاباته ومسرحيالته الى دوافع قومية واجتماعية واصلاحية كما نلمس ذلك في "عودة الروح" و"يوميات نائب في الارياف" وكان يتجه احيانا الى القضايا الفلسفية، كما نجده في "اهل الكهف" و"شهرزاد" و "سليمان" وكان بين حين وآخر يرسم صورا تهدف التصوير الفني في ذاته، ويعتقد انه لكل فلسفته وحياته واتجاهاته في الوجود، تتلاقى هذه الاتجاهات في منهل واحد الا وهو النهوض بالشعب الى حيز السمو والرفعة والكمال.
وقد اتهم الحكيم بمعارضته للمذهب الواقعي في الادب، ولكنه في "يوميات نائب في الارياف" يؤيده ولم يحاول ان يدخل الخيال في صفحة واحدة من صفحاتها، بل كل شخصية وكل حادثة قد وقفت حقا .
نحن لانغالي اذا قلنا ان المذهب الواقعي له اهميته واعتباره، وعلى الاديب ان يظهر رسالة الانسان في الوجود، من جهاد وكفاح، وتطور ومصير، ولا غنى لهذا االمذهب في الادب، لانه عنصر فعال من عناصر الجمال والقوة.
واحب الحكيم كتابة المسرحيات في بدء انتاجه الادبي، واول ما كتبه قصة تمثيلية من الاحتلال الاجنبي دعاها "الضيف الثقيل" وضعها عام 1918، واردفها عام 1924 بعدة تمثيليات مثلت على مسرح عكاشة منها: "علي بابا" و "خاتم سليمان" و"المرأة الجديدة" و"العريس" وكلها من اللون الشعبي الذي يألفه الشعب، وتستحسنه الجماهير.
وآخر ما كتب توفيق الحكيم مسرحيته "ايزيس" حيث تقوم على حوار فلسفي عقلي تنعدم فيه الحركة والحادثة، غير ان "ايزيس" قد خلت ككل مسرحيات الحكيم من شروط المسرحيات الناجحة، وخلت من حواره الفلسفي العميق. وخير ما في هذه المسرحية مقدمتها، وان كان الحكيم قد انحرف عن حقيقة الاسطورة المعروفة، واظهر الشعب بمظهر لائق.
نظرية الفن للفن
يناقض جان بول سارتر مذهب الفن للفن، ويعتبر الذين يكتبون من اهل الفن مجرمين لانه لا يرى اديبا يكتب ببراءة حتى ان الطير لا يشدو ببراءة الا لهدف منشود.
ولما انتهى سارتر من ابراز فكرته، ومناهضته للفكرة الرامية "الفن للفن" حتى ركز التزام الاديب في ان يستنكر باسم الحرية المؤتمن عليها، وبعنف شديد سواء كان الذي يمارسون هذا العنف اصدقاء ام اعداء.
ويندد قائلا : ان التعبير دون حرية واختيار، ضرب من العبودية والتقيد. ويقول في هذا المضمار: " .. ولكن يراد مني ان اكون حرا في اصدار الحكم لا يتجه الى احشائي وانما يتجه الى ما هو انساني بالذات في الانسان الى الحرية والمتعة الفنية هي الشعور بالحرية ازاء الشيء"
بيد أن الحكيم ناقضه الرأي وقال "الفن للفن" واول من نادى به في قصصه ومسرحياته.
غير ان أحمد أمين ثار عليه ونادى بمذهب "الفن لحياة" ولخدمة المجتمع، وحصلت بينهما مشادة عنيفة ومناظرة دقيقة. وكانت مجلتي "الرسالة" و"الثقافة" ميدانا فسيحا لآرائهما واجتهاداتهما. وحاول طه حسين ان يفصل بينهما ففشل فشلا ذريعا ، واعاد الكرة عباس محمود العقاد فهزأ منه، واستطاع الزيات ان يجمع بين المذهبين فقال: "متى اكتملت في الرواية عناصر التجديد والفن والحياة، فخلدوها سيكون امرا مضمونا " وبهذا القول جمع الزيات بين القولين المتناقضين واعطى مثلا ايجابيا في الاصلاح الادبي والتوجيهي.
وتتنوع موضوعات الحكيم في قصصه. ففي "عودة الروح" نجده اجتماعيا صميما ، وفي "عصفور من الشرق" روحيا ، وفي "راقصة المعبد" يدرس الصلة بين الفن والحياة و"الرباط المقدس" يدرس حالة الفنان الارق. وتمتاز كتاباته بالصلة المتينة بين الحياة والفن، كما تمتاز بالرمزية، ومهارته تقوم على رسم الشخصيات وقوة الحوار والسخرية اللاذعة، ولعله من المتأثرين باناتول فرانس وماترلنك.
ويفوق الحكيم تيمور من حيث رسالته التي يؤديها للمجتمع، وقد يفوقه الاخير من حيث تطوره السريع من الحضارة العربية الى احضارة الغربية.
ظل توفيق الحكيم مصريا مدة من الزمن الى ان وضع كتابه الصغير "اهل الفن" فتناوله طه حسين واراد منه اديبا باريسيا ، ووجهه ان يقرأ اميل زولا، واندره جيد وفرنسوا مورياك، والكسندر دوماس الابن، واندره موروا، فاستجاب الحكيم للامل الجديد، وخسر بهذا التجديد السريع مصريته وعربيته الصميمة، وفلسفته التي كان يدعوها "التعادلية"وبات بلا مذهب ولا وطن.
ولو ان توفيق بقي مواظبا على رسالته القديمة، لكان من كبار المفكرين والموجهين في الأدب العربي المعاصر.
سباق على امارة القصة المصرية
يتسابق كل من يوسف السباعي، احسان عبد القدوس، محمود، تيمور، وتوفيق الحكيم على الفوز بلقب رائد القصة المصرية المعاصرة ، ويعمل كل من هؤلاء الاقطاب بنشاط وافر، ودأب مستمر لبلوغ الارب، وتحقيق الهدف، واجتياز المسالك والصعاب للفوز باللقب المنشود.
ويقف من جهة اخرى الناقد ارقا ، مفكرا ، دارسا ، يريد ان يقول كلمة الفصل في هؤلاء الرواد الذين ملأوا العالم العربي بمؤلفاتهم وكتاباتهم. ومهما بلغ الناقد من مؤهلات وسعة اطلاع ومهما علا شأنه الادبي لن يستطيع ان يحكم في هذا الميدان الرحب وتفضيل احدهم على الآخر، لأن لكل قاص لونه وادبه ووزنه ومدرسته، وحكم الناقد في هذا القبيل جرم اثيم بحق الانتاج الادبي والمقاييس النقدية الحقيقية، لذا اكتفي برسم صورة واضحة موجزة لانتاج القصاصين الاربعة تاركا للقراء الحكم والتفضيل.
يوسف السباعي
كتب يوسف السباعي عدة قصص اجتماعية من صميم الحياة، جاءت علاجا شافيا للاخطاء الاجتماعية التي تمثل على الصعيد الانساني، وخاصة لهؤلاء الاقزام الذين يدعون الجبروت، ويتلهون بالدمى، ويتلاعبون بمقدسات الشعب ومقوماته. ولعل ابرز ما خطه السباعي في هذا المضمار قصته "اني راحلة" حيث يكشف لنا النقاب عن حقيقة الارستقراطية، فيصور لنا فتاة في عمر الزهور، صفراء، عاصبة الجبين، من عائلة ثرية غنية، تهيم بضابط من عامة الشعب. لكن والدها كان لها بالمرصاد، فهب متوعدا غاضبا حانقا ، ضاربا أخماسا باسداس، واستطاع بعد جهود وضغط ان يرغمها بالزواج من رجل كهل ثري، يفوقها عمرا وتفوقه خلقا وخلقا ... لكن الزواج لم يعمر طويلا ، ولم يكتب له النجاح والوفاق، لان الزوج بعد ان ارتوى من زوجته تحول الى غيرها يعاقر الخمرة، ويلعب الميسر، ولا يعود الى مضجعه الزوجي الا نادرا... وانتظرت الزوجة الشابة رجوع زوجها الى حظيرة الصواب والزوجية على احر من الجمر، لكن امانيها وآمالها ذهبت ادراج الرياح.. وتصبرت لكن عيل صبرها، وفقدت اعصابها و هدوئها، وحنقت على والدها الذي ارغمها بالزواج من هذا الوحش البشري، وتأسفت على شبابها الذي يهرم ويشيخ بسهولة فائقة، وتراءت نفسها في وسط من الذئاب الجائعة، والكلاب النابحة، والسراحيب المراوغة، وكل من هؤلاء يريد التودد والتوسل اليها، لكنها تغلبت على الغوادي الدكناء والافاعي الرقطاء، وفتح في وجهها باب الأمل والعمل..
وبينما كانت ذات امسية في بيتها تطالع كتابا ، واذا بالباب يقرع فيدخل شاب وسيم الطلعة، جميل المنظر، انيق المظهر، وبعد ان حياها عرفها بشخصه بأنه صديق زوجها، ثم حدثها عن سوء سلوكه، طالبا منها ان تثأر لكرامتها وشبابها. ولم تكد الزوجة تسمع هذه الكلمات حتى صرخت خجلة وجلة، تخفي وجهها الذابل بأناملها الصفراء السقيمة، وغدت الى الشارع ارقة راكضة محمومة تفتش عن حبيبها الضابط التي فرقت الارستقراطية بينهما، وبعد العناء والتعب وجدته، فتصافحا وتعانقا، وقصت عليه اخبارها، وعاشا تحت سقف واحد، يخيم عليهما الرغد والسعادة، دون ان يربط بينهما رباط مقدس.
غير ان الدهر العاتي فرق شملهما، فقتل الضابط في ساحة الوغى بعد ان ابلى بلاء حسنا ، وأظهر شجاعة فائقة في خدمة الوطن والمحافظة على سلامة اراضيه، وانتحرت عشيقته الما وحزنا عليه، كما انها خافت من غضب والدها الطاغي الباغي، وزوجطها السادر اللاهي...
القصة طريفة شجية دامسة حزينة، فيها حرب شعواء على التقاليد الموروثة، والارستقراطية الشامخة، وفيها روعة وصف، وجمال اسلوب، ودقة تحليل، وسعة خيال، ورقة قلب؛ غير ان القاص قد اخفق في عدة نواح من قصته منها: ان هرب الزوجة من بيتها الشرعي لجور وسوء سلوك زوجها، الى خدر خليلها الضابط الذي عطف عليها واسكنها معه، كانت ضربة قاضية على الروحية الشرقية، وخطرا فادحا على الحياة الزوجية ومقدساتها مهما تعددت اسبابها، وتنوعت مشاكلها. والنهاية شجية قلقة سقيمة تنزل بالنفس التشاؤم والانفة. وتجعل من الفتاة العوبة القدر، وضحية الزمن... كان الاحرى بالقاص لن يعير اهتماما كليا عندما يعالج موضوعا اوليا له صداه وقيمته في الاوساط الاجتماعية كموضوعه هذا، وكان باستطاعته ان يدع الزوجة التاعسة تصبر، فتطلب من المأذون الطلاق فتستريح من اعباء زوجها، ومهما يكن من ظلم الرجل وقساوته ومجونه، ومهما واجهت الزوجة من عذاب وآلام، فحري بها ان تموت كل يوم الف ميتة من ان تدنس عرضها وشرفها، كل شيء زائل فان، لكن الشرف سيبقى خالدا ابد الدهر وما دامت المثل العليا تسود روحية الشعب. ان هرب الزوجة من بيتها الى بيت عشيقها مأخذ سيء يواخذ عليه القاص، ووصمة عار تهدد المجتمع بالتهتك والميوعة.
والفاجعة الثانية انتحار العشيقة بعد ان اربدت الحياة في وجهها، وما ضر القاص لو انه ترك العشيقة تعيش فتتغلب على تشاؤمها، وتتوب عن خطئها، وتتحمل مسؤولية عملها، فتكون عبرة لكل امرأة تحدثها نفسها ان تسير على هذا الطريق.
ويعود السباعي الى الموضوع نفسه في قصته "رد قلبي" وان كانت هناك بعض التغييرات في رسم بعض الصور والمشاهد انما الجوهر كان هو هو... وتتلخص القصة: ثورة الشعب على الارستقراطية المتجسمة في مصر القديمة والقضاء على النظام الملكي التعسفي بمؤازرة الضباط الاحرار، الذين قضوا على طغيان رجل كان يتلاعب بمقدرات الشعب، يسير النظم والقوانين وفقا لمشيئته ومصالحه. ا
اني اقر بمؤهلات السباعي في قصصه الاجتماعية المستمدة من واقع الحياة، والتي يعالج فيها صورا متحركة من حياتنا المعاصرة، فينقلها ببر اعة واسهاب، لكنني لا أجاريه في تردد ابطاله وضعفهم في ابداء آرائهم، وما يجيش في صدورهم، وما يعتري تفكيرهم، وقد اصابه ما اصاب تلميذ في احدى الجامعات حيث يتردد في تفكيره وحديثه، ومن السهولة ارجاعه عن رأيه بكل سهولة. كما اني اقدر في قصته "رد قلبي" عقيدته الثابتة وتمسكه برأيه من اجل تحرير بلاده، ودرسه الموضوع درسا جديا لا يشوبه شائبة؛ ولا لوم على من يتمسك برأي صريح، بل ان التمسك برأي يثبت فضيلة كبيرة ومفخرة عظيمة لا تقدر، ويظهر لنا جليا اذا ما قلبنا صفحات التاريخ واطلعنا على حياة الرجال العظام وارباب الفكر واليراع، فان تمسك هؤلاء بآرائهم قادهم الى النجاح، وخطا الانسانية اجيالا نحو التقدم؛ اذ ليس من الصواب ان نباشر بتنفيذ كل راي يعرض علينا، بل يجب ان ندرس الموضوع من جميع نواحيه، ومتى لمسنا سقمه وضعفه رجعنا عنه، ومن يقر بخطئه يكون قد ادى واجبا يشكر عليه.
يجب على الراي الصائب ان يسود وينتشر، والتقدم الانساني يتطلب صلابة في الرأي والعقيدة، ومتى كان للانسان الرأي الصالح يؤمن بصحته لا يحتاج الى من يؤيده.
احسان عبد القدوس
احسان عبد القدوس قصاص اجتماعي له وزنه وقيمته الادبية، ويكفيه فخرا ً ان اكثرية قصصه مثلت على الشاشة: وكان لها النصيب الوافر من النجاح والاقبال. انتصر في رواياته لانه عالج فيها حياة الطبقة الكادحة التي تفترش الثرى، وتلتحف السماء، ولا يوجد من يساعدها ويخفف من كاهلها وطأة الطوى والسقم والاملاق. شخصياته تشبه الى حد بعيد شخصيات يوسف السبعي، فيلتقي معه في بوتقة واحدة، الا وهي الثورة على كل جان اثيم، والحرب الشعواء على كل اقطاعي يترعب بحقوق الشعب ومقدراته.. وشخصياته تطيعه دوما ً وابدا ً، وتتصرف بوحيه وبارشاداته وتفكيره، فيسيرها انى شاء واراد، وكأنها دمى متحركة، فيجردها احيانا ً من انانيتها ليسير بها الى جو من الانطلاق والواقع والتحرر، ويجعلك تشعر الفرق بين شخصية مثالية، وشخصية مزيفة تداهن وتمالق في سبيل مأرب أو هدف خاص تنشده. كما ان شخصياته تتفاعل احيانا ً، وتقسو تارة، وتنحرف اخرى، فهي مزيج من افكار وهواجس وخيالات متناقضة الاهداف والاميال، وكأن القاص اراد منها هذا الخليط العجيب لاظهار تناقض الآراء، واختلاف العقول في صرح الوجود، ولما يراها ضلت الطريق السوي يوجهها الى الصراط المستقيم، فاتحا ً امامها سبل العيش الآمن، فتذعن لاوامره وحكمه، ويضفي عليها بعض المشاهد المؤثرة، والآمال الخائبة، ثم يحمل القارىء على التأمل في هذه الصور حتى يخرج منها بالمغزى الذي يبتغيه وينشده.
بيد أن القارىء اللبناني بحاجة الى قاموس مصري عامي ليفهم بعض المسميات التي تختلف اسماؤها في البلدين، كما سيقف عند بعض التعبيرات يستوضحها ما تحمل من معان. وكذلك سيعثر في روايات احسان على بعض الاخطاء اللغوية الشائعة كاستعمال: احرف الجر والشرط والاستفهام، وكان الاحرى به ان يهذب لغته ويختار كلماتها كقوله:
ترك عندي وديعة فالافضل استودعني
ذهب الليل فالافضل انقضى الليل
ارتب شعري فالافضل اسرح شعري
ما يدور في فكره فالافضل ما يجول في خاطره
يكثر فيه مظاهر الجمال فالافضل تتوفر فيه مظاهر الجمال
وعدت ربها فالافضل عاهدت ربها
سهل لهم السبيل فالافضل مهد لهم السبيل
انا منتظر وصول القطار فالافضل انا مترقب وصول القطار
نقلتني السيارة فالافضل اقلتني
كما يؤخذ عليه مزجه بين الفصحى والعامية في رواياته، وكأن للعامية بين حين وحين موسما ً خاصا ً، بدأت بالاذاعة عن طريق فكري اباظه، وانتهت الى الادباء انفسهم، وتجمع حولها فئة لا يستهان بها من الكتاب الناشئين والمحدثين. وفي مقدمة من سار على هذا المنوال المؤلف نفسه في قصتيه: "لا أنام" و"أين عمري".
ويحاول ادباء الشباب في مصر توزيع اللهجات المصرية العامية على الشعب العربي بغية السيطرة على لهجاتهم الموروثة وقد سمعنا عدة مسرحيات مصرية مشهورة كتبت حوارها باللهجة العامية مما يشكل خطرا ً جسيما ً على اللغة. ويزعمون انهم يسيرون على المنهج القديم الذي سار عليه القصاصون القدماء، لقد تناسوا ان القدماء عندما كانوا يكتبون القصص الشعبية يتعمدون الكتابة باللغة الفصحى، فعلهم في "عنترة" و"الملك سيف". وان كانت الف ليلة وليلة مكتوبة بلغة شعبية. لكن اصحاب هذه القصص كانوا يتوخون الفصحى.
وقد تفشى داء الادب العامي الى لبنان وحمل رايته سعيد عقل في مقدمة "جلنار" للشاعر الشعبي ميشال طراد، والدكتور انيس فريحه في قصته "اسمع يا رضا"، ومارون عبود في كتابه "اقزام جبابرة".
تأثر احسان بالأدب الغربي
برع احسان عبد القدوس في الرواية وفشل في القصة القصيرة، وحلول تقليد الكاتب الاميركي ادجار آلان بو، فوفق مبدئيا ً لكنه فشل في النهاية، اذ ان آلان بو اعتمد في قصصه القصيرة على خلق جو ببضع كلمات لا بصفحات طويلة، وكان يؤثر المواضيع الاجتماعية التي لم تطرق ولم تعالج بعد.
وحول احسان جهوده الى القصة الفرنسية عامة، والقصة الروسية خاصة، فأعجب بموبسان ورأى فيه دعامة للقصة المعاصرة، وأراد تقليده لكنه فشل لانه حاول ان يجمع بين واقعية موبسان، وبساطة تشيكوف، وبرين مدرستين قويتين مستقلتين: مدرسة شيكوف الروسي التي تؤثر السرد البسيط، ومدرسة موبسان التي كانت تبتغي الواقعية الغير معقدة.
أعجب عبد القدوس بروعة موبسان في تصويره للشعب الكادح دون التواء او تلون، واخذ ببساطة مواضيعه القريبة من عقلية الجماهير، فتناول احداث المجتمع على اختلاف طبقاته وتناقض اهدافه بسخرية. بينما كان زميله تشيكوف يناقضه الراي ويتحلى بخفة روح يفتقر اليها موبسان في مؤلفاته، كما ان قصصه كانت بسيطة لا تتعرض الى تفكير عميق وتحليل دقيق انما كان يكتفي بسرد عواطفه وانطباعاته، متباينة غير محددة يغلب عليها احيانا ً الغموض. وكلا الكاتبين: موبسان وتشيكوف كان يتناول بالعرض والوصف افراد الطبقة الوسطى من الشعب، كان الاول ينظر اليهم بمرارة لانهم جبناء يكتبون ما هم بحاجة اليه، ويخافون الجهر بما يجيش في اعماقهم، بينما تشيكوف كان رحوما ً على الطبقة الكادحة يغفر لهم هفواتهم، وينير بصائرهم، ويوجههم الى الخير والصواب.
بعد ان نهل احسان عبد القدوس من معين المدرستين الفرنسية والروسية، تحول من جديد بعد الحرب العالمية الثانية الى المدرستين الجديدتين الانجليزية والاميركية، فاعجبه: كثرين منسفلد ولورنس وهمنجواي ووليام سارويان.
اجتماعياته
يتلاقى احسان عبد القدوس في اجتماعياته بالقاص يوسف السباعي، فهو في قصته "اين عمري" يصف عادات الورى وخزعبلاتهم، ناقلا ُ احاديثهم وما يجيش في اعماقهم من عطف وحنين، وما يعتري تفكيرهم من مسالك وعرة، فيشخص الداء، ويصف الدواء، ويجيد وصف احساسات البشر ويشبهها بعدسات آلات التصوير بعضها يفتح ويغلق باستمرار ليلتقط ما حوله من صور الجمال والقبح فتتأثر به النفس، كما يجيد وصف الحب وغريزة التملك والخيانة الزوجية اجادة تامة.
لكنني لا أجاريه على تفكيره في قصته "لا أنام" حيث تمثل بطلة القصة عنصر الشر في الفتاة اكثر مما تمثل عنصر الخير والبراءة والطهر، ويناقض في هذا القبيل نظرية "روسو": "الانسان خير غير ان الطبيعة افسدته".
لقد اخطأ احسان ايضا ً في نظريته عن "الخير والشر" ورثيت لحالة بطلة قصته التي وقعت في الشر دون ان تدركه، ليقينها انها مسيرة بحكم االطبيعة والوجود.
ان الكمال المحض والخير المحض يا اخي احسان هو واجب الوجود لانه لا يملك تمام الوجود، وحق بكل معاني الحق. والشر نفسه هو العدم ذ لا ذات له. وقد اوضح هذه النظرية: الرئيس ابن سيناء في كتابه "النجاة" صفحة 274 فقال: "يقسم الشر والخير في الوجود الى قسمين متقابلين: خير مطلق وشر مطلق، خير نسبي وشر نسبي. فالخير المطلق هو واجب الوجود لأن لا امكان فيه، وكل شيء فيه هو بالفعل، والشر المطلق هو عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته، ولهذا قال ارسطو: "الخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض".
ان الله يا عزيزي احسان قد خلق الانسان، وخصه بالعقل الفعال ليميز بين الخير والشر، ووهبه ارادة حرة وبواسطتها يستطيع ان يسير اموره ويحكم على كل شاردة تعتري مسيره ومصيره. نحن البشر لا نبصر الاشياء الا ضمن دائرة ضعيفة واهية محدودة، فنتكهن ونحكم على المظاهر الخارجية دون وعي وعمق، ومن الخطا الفادح ان نقول ان الانسان مسير في اعماله وافعاله، اذا ً ما فائدة العقل البشري في جسم جامد؟ فالله لم يخلق الاضداد، انما هما في عقول البشر السذج الذين يفتقرون الى المعرفة والتأمل في الوجود، ان العدل والرحمة والحكمة صفات الخالق، والذي يتحلى بهذه الكمالات السامية، فهو عادل جدير بالاحترام والعبادة لانه لا يصدر حكمه العفوي على أي انسان، انما يترك كل فرد يعمل بوحي من ضميره، وبما يمليه عليه الواجب والعقل. واذا اردت المزيد من الاجتهادات في هذا الموضوع الدقيق فطالع كتاب "النجاة" لابن سينا - نظرية الخير والشر - وكتاب من "أفلاطون الى ابن سينا" للدكتور جميل صليبا، وكتاب "ابن سينا الفيلسوف" نظرية الخير و الشر للدكتور بولس مسعد.
وتقول: ان الله يحدد المصائر - اما انا فاناقضك الرأي - لأن الهك لا يحدد مصير أي مخلوق من مخلوقاته، والانسان يبني مستقبله بنفسه، فالعقل صفة جوهرية فيه، وبواسطته يستطيع بلوغ الارب وتحقيق ما يصبو اليه، فمن يهلك فلأنه تمرد على النور والمنطق، ومن يسعد وينتصر فلأنه حكم العقل، وكان دارسا ً متمهلا ً في اعماله. والانسان بحر زاخر، تجول في مخيلته خواطر جمة، وافكار متعددة مختلفة، ولكنه احيانا ً لا يعرف كيف يتعهدها، وهذه الخواطر التي تنبض وتجيش في قلبه وايمانه، ما هي الا قدرة العقل الرحب، الذي لا يتكاسل ولا يتوانى عن اداء رسالتهه.
وزعمك عن ان التبدل والتغير شيء من الخطر على الكيان الانساني هو خطأ جسيم، ولا تتناسى ان الانسان ابن الطبيعة، فيها ترعرع، ومن خيراتها تغذى، ومن جدولها ارتوى، ولا يمكنه الا ان يكون دوما ً وابدا ً متجددا ً؛ انظر الى الطبيعة تجد انها تتغير في العام الواحد اربعة اثواب، ففي الشتاء تهب الرياح وتهطل الأمطار مكفنة الارض بالثلوج لتحفظها من الفساد، ويأتي الربيع بازهاره وبراعمه واخضراره، ثم تبعت الشمس في اواسط تموز حرارتها في الانسان والنبات فتنضج الأثمار، ومتى بلغت الشمس اوج ثورتها، جاء الخريف الخامل، مضطرب الفكر، ذابل الوجه.
ان تغيير الطبيعة سنة من سنن واجب الوجود، وما دام هنالك شتاء وربيع، صيف وخريف، ما دام لرواية الطبيعة فصولها الاربعة.
طه حسين في كتاباته العاطفية
هناك طائفة من الادباء كتبوا القصص الى جانب كتاباتهم الادبية والاجتماعية والنقدية، ومنهم طه حسين في كتابه "الايام" حيث يسرد قصة حياته ونشأته المتواضعة، ويقول فيه الدكتور ضيف: ان كتاب "الايام" مقتبس من كتابه "منصور" الذي وضعه باللغة الفرنسية عندما كان طالب علم في باريسن وقد سبق كتابه عشر سنوات كتاب "الايام". لكن من الصعب ان نقر بهذه السرقة الادبية او ننفيها، انما الذي نقوله: ان "الايام" قصة حزينة، كتبها كاتب حزين، فوصف حرمانه واملاقه ومظهره الشعبي، وصور استهزاء اخوانه واخواته به لانه كلن ضريرا ً اتكاليا ً، تعاونه والدته في تناول طعامه، وتعطف عليه عطفا شديدا ً.
والكتاب صفحة مثيرة، فيه غذاء للنفوس المعذبة الشاردة، وفيه عزاء وصبر للارواح المتمردة، لكن الكتاب كان يفتقر الى التفكير العميق والتحليل النفساني الناجح، اذ لا يهدف الى اي مذهب.
وللدكتور طه حسين طائفة من القصص الى جانب سيرة حياته منها: "دعاء الكروان" حيث اجاد في تحليله لنفس تتنازعها عوامل الانتقام والحب. اما "الحب الضائع" فهي قصة حالمة مثالية عالجها بأسلوب طلي سلس - قصة امرأة تمثل ضعف الحنان ثم انتقل الى التاريخ فوضع كتابه "على هامش السيرة" فرسم صورة حقيقية للكفاح الاسلامي في حياة النبي، اذ ليس في الكتاب ما يجذب النظر من حيث التحقيق العلمي. وانتهى اخيرا ً الى كتاب "المعذبون في الارض" حيث جاء بأفكار جديدة مستمدة من واقع الحياة؛ لقد اثبت في كتابه ان هناك كنوزا ً مدفونة لم يقربها الادباء الى عقول القراء والناشئة، انما تركوها وشأنها طي النسيان. لقد نجح طه حسين في الكتابات العاطفية لانها كانت اقرب الى روحه وذوقه من بقية الكتابات.
الحكم النهائي
وقصارى القول اقول: ان توفيق الحكيم هو احسن من كتب في الحوار والمسرح، وتصوير الشخصيات. وان محمود تيمور هو في مقدمة من عالج القصة القصيرة التوجيهية، كما تلاقى كل من يوسف السباعي واحسان عبد القدوس في نهج واحد ولون واحد من التوجيه الاجتماعي، والثورة على الاستقراطية، ومعالجة الحياة المصرية الحاضرة.