(1919 – 1982)
خليل حاوي
ولد الشاعر اللبناني خليل حاوي (1919-1982) في "الشوير"، ودرس في المدارس المحلية حتى سن الثانية عشرة حين مرض والده؛ فاضطر الى احتراف مهنة البناء ورصف الطرق. وخلال فترة عمله عاملا للبناء والرصف، كان كثير القراءة والكتابة، ونظم الشعر الموزون والحر، بالفصحى والعامية. علم حاوي نفسه اللغات العربية والانجليزية والفرنسية، حتى تمكن من دخول المدرسة، ثم الجامعة الأمريكية التي تخرج منها بتفوق مكنه من الحصول على منحة للالتحاق بجامعة كامبردج البريطانية؛ فنال منها شهادة الدكتوراه. وعاد الى لبنان ليعمل أستاذا في الجامعة التي تخرج فيها، واستمر في هذا العمل حتى وفاته.
ومنذ بداياته، بدا شعر خليل حاوي وكأنه قد "أدخل رعشة جديدة على الشعر" العربي، كما قال "فكتور هيغو" عن شعر"بودلير".
فقد ابتعد حاوي عن ارتياد الموضوعات الوصفية والمعاني والصور المستهلكة، واستضاء دربه الشعري بثقافته الفلسفية والأدبية والنقدية، وجعل النفس والكون والطبيعة والحياة موضوع شعره.
وشعره الأخير تعبير عن المجالدة للوصول الى يقين نهائي، أو الى مطلق دائم. وكان الصراع بين المادة والروح واضحا في ذلك الشعر: صراع من أجل التحرر من المادة ومن الكثافة، وحنين الى الشفافية النافذة التي طالما حلم بها شعراء سبقوه أمثال "ماللري" و "فاليري"و"رامبو".
كانت الرموز قوام شعر خليل حاوي: رموز حسية، ونفسية، وأسطورية، وثقافية. وقرب النهاية، عرف شعره الرموز المشهدية، التي ضمت في قلبها رموزا متعددة ومتوالدة.
من دواوينه المنشورة: "نهر الرماد" (1957)، "الناي والريح" (1961)، "بيادر الجوع" (1965)، "ديوان خليل حاوي" (1972)، "الرعد الجريح" (1979)، و" من جحيم الكوميديا" (1979). وبعد وفاة الشاعر، نشرت سيرته الذاتية بعنوان "رسائل الحب والحياة" (1987).
ايليا حاوي
خليل حاوي - د. منصور عيد
الحياة كما هي، في أحد وجوهها، عبادة لاله عظيم يتحكم بالأعمار، ينميها بالفرح، ينكل بها بالالم، ثم يهدرها. يوزعها بين الحاح المادة، وسطوة الضرورة، وعبودية الحاجة. وفي وجه آخر محاولات لتخطي هذه العبودية، اذ يخترع الانسان لنفسه حياة يمارس فيها التحدي الدائم. يتحدى نظام الليل والنهار لأنهما حدود زمنية، تتحولان بالعادة والرتابة الى حدود مكانية تجمدان مجرى الوجود. يتحدى ذلك الانسياب اليومي الرتيب، اللا ارادي، نحو الحقل، والمصنع، والمعمل، والمكتب، والمحترف، والجامعة. يتحدى السنة التي جعلت النواة تفرخ، والنبتة تورق، والشجرة تثمر، وجعلت كل كائن يولد، ويغتذي، وينمو، ويهرم، ويموت.
أترى هذه هي الحياة التي يعيشها جميع البشر، ام هناك بشر يعيشون وجوها أخرى للحياة؟ لعلهم الفلاسفة، والفنانون، والعباقرة، والأدباء، والشعراء، والمبدعون هم الذين يحاولون الخربطة. يحاولون أن يصنعوا الها آخر يحررهم من العبادة القسرية لأنماط الوجود، يحررهم من رتابة النظام الكوني، من ظلم الزمان والمكان، من عبودية الحاجة، وخبث الرتابة التي تنخر في خلايا العمر لتزرع فيها سوس السأم، وجزيئات العفن.
خليل حاوي كان واحدا من هؤلاء، من الوجه الثاني للحياة. كان الشعر حبيبه وصليبه في كل الكائنات: في الطبيعة بجمادها ونباتها، بسهولها وجبالها، بمائها وفضائها، بكل ما ينمو في حضنها وأفيائها ومسارحها ومنعرجاتها، بل بالنواة التي أطلقت فيها الحياة. كان الشعر حبيب خليل حاوي وصليبه في القرية واحيائها الصغيرة المجبولة بالوحل والغبار، والبيوت العتيقة، وجدران اللبن والتبن، والسطوح الترابية، وفي الناس الذين يعششون داخل الزوايا الدافئة. وكان الشعر حبيب خليل حاوي وصليبه في المدينة، وشوارعها وبيوتها المحشورة، وفي الناس الهاربين أبدا، صبحا ومساء، الى العمال المضنية او الى الراحة الرتيبة. وكان الشعر حبيبه وصليبه في القضايا التي يسمونها الكبرى: الوطنية والقومية، العالمية والانسانية.
يوم كان خليل حاوي الانسان والشاعر معا في وحدة الخلق والابداع، كان الشعر حقا، حبيبه وصليبه، ويوم تمزق فيه الانسان نقمة على الذل وعلى آلهة الأرض، تمزق فيه الشعر حتى ضاعت هويته، فحرر نفسه، وراح يبحث عن الاله العظيم الذي لا يتحكم بالاعمار، ولا ينكل بها، ولا يهدرها.
أيها الأصدقاء، سمحت لنفسي ببعض التأملات والخواطر محاولا محاكاة خليل حاوي وامثاله من المبدعين الذين يرون الرؤية نفسها، ويعيشون الحياة نفسها. أما البحث في أعماق خليل حاوي الشاعر، فأترك الكلام فيه للصديقين الدكتور أحمد أبو حاقة، والدكتور انطوان شكيبان اللذين سيزيدان على دراسة خليل حاوي بعضا من أضوائهما الكاشفة. فشكرا لهما على ما سيعطيان، وشكرا للحضور الكريم المشارك في هذه الندوة.