ابن زيدون 394-463ه (1003-1070م) - لبطرس البستاني
كان أبو الوليد أ. مد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي من أبناء قرطبة، ولد في خلافة هشام بن الحكم ابن عبد الرحمن الناصر، والأمر يومئذ للمظفر ابن الحاجب محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور. وكان المنصور قد حجر على الخليفة واستقل بالسلطان دونه. فلما مات سنة 392ه (1002م) انتقل الملك الى ابنه المظفر، فجرى على خطة ابيه في تنحية هشام. وتوفي المظفر سنة 399ه (1008م) فصار الأمر بعده الى أخيه عبد الرحمن الناصر، فطمعت نفسه في الخلافة، ولم يكن لهشام أولاد، فطلب منه أن يوليه عهده، فلم يرد طلبه لضعف عزيمته. فغضب الأمويون وخلعوا الخليفة وسجنوه، وبايعوا المهدي محمد بن هشام، فتمكن الخليفة الجديد من قتل الناصر سنة 399 ه (1009م) فزالت بموته الدولة العامرية. ولكن المهدي جافى البربر فثاروا به، وبايعوا المستعين سليمان بن الحكم ابن سليمان بن عبد الرحمن الناصر. ثم حاصروا قرطبة، فاشفق أهلها على مدينتهم، فأخرجوا هشام بن الحكم من السجن، وجددوا له البيعة وقتلوا المهدي على أمل أن يتخلصوا من الفتنة التي أثارها عليهم. فلم يجدهم ذلك نفعا ، لأن المستعين ألح على قرطبة بالحصار حتى افتتحها عنوة سنة 403ه (1013م) فقتل هشاما ، وانتهبت العاصمة وخرب أجمل قصورها.
وكان علي بن حمود الادريسي قد جاء الأندلس من المغرب، فدعا البربر الى مبايعته. فأجابوه، فدخل قرطبة سنة 407 ه (1016م) وقتل المستعين، وتلقب بالناصر.
واستمر النزاع بين المويين والادارسة، والخلافة في قرطبة تتنقل بينهم حتى خلع المعتد بالله سنة 422ه (1030م) فانقطعت به الدولة الأموية. وقتل المعتلي سنة 426ه (1034) فذهبت بموته دولة الادارسة الحمودية، وقامت بعدها حكومة الجماعة الأرستقراطية، وعلى رأسها أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور من ملوك الطوائف.
وكان ابن زيدون في أثناء هذه الحوادث التي تقاذفت الأندلس طوال خمس وعشرين سنة يقيم في قرطبة، وأبوه وقتئذ من وجوه الفقهاء فيها، فتثقف ثقافة حسنة، واستحكمت ملكته الشعرية وهو في حدود العشرين من عمره. وكان منحازا في زمن الفتنة بعد انقطاع الدولة الأموية الى العميد أبي الحزم بن جهور، متصلا بابنه الوليد، وبينهما من الألفة والتصافي ما جعل ابن زيدون "يعتد ذلك حساما مسلولا ، ويرى أنه يرد به صعب الخطوب ذلولا ."على حد تعبير ابن حيان. واستوزره أبو الحزم فقدمه الى النظر على أهل الذمة لبعض المور العارضة، وقصره بعد على مكانه من الخاصة والسفارة بينه وبين الرؤساء؛ ولقب بذي الوزارتين، فأحسن التصرف في ذلك، وغلب على قلوب الملوك الذين كان يبعث سفيرا اليهم.
وكان يهوى ولادة بنت المستكفي، تولى أبوها الخلافة الأموية بعد مقتل عبد الرحمن الخامس، ولم يطل أمره حتى خلعه أهل قرطبة سنة 416 ه (1025م) فهرب الى الثغر ومات هناك. وأقامت ابنته ولادة في قرطبة. قال ابن بسام: "وكانت في نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر. وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب الى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، الى سهولة حجابها، وكثرة منتابها." اه.
فتعشقها أو الوليد بن زيدون، وجرت له معها أخبار مشهورة. وكانت ولادة شاعرة تداعبه أحيانا بهجائها، وأحيانا تضرب له بالشعر مواعيدها. فمن ذلك ما حدث عن أول اجتماع لهما قال: "وكنت في أيام الشباب، وغمرة التصاب، هائما بغادة، تدعى ولادة. فلما قدر اللقاء، وساعد القضاء، كتبت الي:
ترقب اذا جن الظلام زيارتي، فاني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا، وبالليل ما أدجى، وبالنجم لم يسر"
وكان الوزير أبو عامر بن عبدوس الملقب بالفار، مشغوفا بحبها، يبغي التفرد بها. وكانت هي كثير العبث به، وفي ذلك يقول ابن زيدون:
وغرك من عهد ولادة سراب تراءى، وبرق ومض
هي الماء يأبى على قابض، ويمنع زبدته من مخض
على أن ملاحقة ابن عبدوس لها جعلت الغيرة تدب في نفس الشاعر، فيقول فيهما:
عيرتمونا بأن قد صار يخلفنا في من نحب، وما في ذاك من عار
زاد شهي ، أصبنا من أطايبه بعضا ، وبعض صفحنا عنه للفار
وأرسل اليها الوزير ابن عبدوس مرة امرأة تستميلها اليه، وتذكر لها محاسنه ومناقبه، وترغبها في التفرد به. فبلغ ابن زيدون ذلك، فكتب عن لسانها رسالته الشهيرة في سب أبي عامر والتهكم عليه، وأرسلها اليه من قبل ولادة، فبلغت منه كل مبلغ، واشتهر ذكرها في الآفاق، وافتضح بها الوزير. وفيها من التمليحات والتندرات ما يذكرنا برسالة التربيع والتدوير للجاحظ. وقد شرح هذه الرسالة غير واحد من أدباء المشارقة، منهم جمال الدين بن نباتة المصري، وسمى شرحها "سرح العيون، في شرح رسالة ابن زيدون" وهو شرح مفصل ذكر فيه ترجمات الأعلام الوادرة في الرسالة، مع تفسير الألفاظ والأمثال وايضاح المعاني، فمن قوله فيها:
"أما بعد، أيها المصاب بعقله، المورط بجهله. البين سقطه، الفاحش غلطه. العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره. الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب. فان العجب أكذب، ومعرفة المرء نفسه أصوب. وانك راسلتي مستهديا من صلتي ما صفرت منه ايدي أمثالك، متصديا من خلتي لما قرعت دونه أنوف أشكالك. مرسلا خليلتك مرتادة، مستعملا عشيقتك قوادة. كاذبا نفسك أنك ستنزل عنها الي، وتخلف بعدها علي:
ولست بأول ذي همة دعته لما ليس بالنائل
ولا شك أنها قلتك اذ لم تضن بك، وملتك اذ لم تعز عليك. فانها أعذرت في السفارة لك، وما قصرت في النيابة عنك. زاعمة أن المروءة لفظ أنت معناه، والانسانية اسم أنت جسمه وهيولاه. حتى خيلت أن يوسف (عليه السلام) حاسنك فغضضت منه، وأن امرأة العزيز رأتك فسلت عنه. وأن قارون أصاب بعض ما كنزت، والنطف عثر على فضل ما ركزت، وكسرى حمل غاشيتك، وقيصر رعى ماشيتك. والاسكندر قتل دارا في طاعتك، وأردشير جاهد ملوك الطوائف، بخروجهم عن جماعتك. والضحاك استدعى مسالمتكم، وجذيمة الأبرش تمنى منادمتك. وشيرين نافست بوران فيك، وبلقيس قد غايرت الزباء عليك. وأن مالك بن نويرة انما أردف لك، وعروة بن جعفر انما رحل اليك. وكليب بن ربيعة انما حمى المرعى بعزتك، وجساسا انما قتله بأنفتك. ومهلهلا انما طلب ثأرة بهمتك، والسمؤال انما وفى عن عهدك. والأحنف انما احتبى في بردتك. وحاتما انما جاد بوفرك، ولقي الأضياف ببشرك. وزيد بن مهلهل انما ركب بفخذيك، والسليك بن السلكة انماعدا على رجليك، وعامر بن مالك انما لا عب الأسنة بيديك. وقيس بن زهير انما استعان بدهائك، واياس بن معاوية انما استضاء بمصباح ذكائك. وسحبان انما تكلم بلسانك، وعمرو بن الأهتم انما سحر ببيانك. الخ..."
وأفضت الحال بين الرجلين الى عداء شديد، فأخذ ابن عبدوس يسعى بمنافسه لدى أبي الحزم بن جهور. وشد ساعده جماعة من الواجدين على ابن زيدون، يذكر منهم ابن حيان عبد الله بن أحمد ابن المكوي أحد حكام قرطبة، فاتهموه بالخيانة العظمى، وزعموا أنه يحوك الدسائس لنزع السلطة عن الجهورية وارجاعها الى بني أمية. فغضب أبو الحزم عليه ، وأمر به الى السجن، فقضى فيه زمنا يبعث بالقصائد الى الأمير يمدحه ويعاتبه ويسأله اطلاق سبيله، فلا يجيبه. ويمدح ابنه أبا الوليد ويستشفعه، فلا يجد عنده ما كان يأمله؛ أو ينظم الشعر متشوقا الى ولادة ذاكرا أيامه الحخلوة معها.
وروى ابن حيان أن أبا الوليد تشفع له عند والده، وانتشله من نكبته، غير أن الفتح بن خاقان يقول في "القلائد" ان الوليد لم يعطف عليه، ولا رد عنه الأذى، فتحيل لنفسه حتى فر من سجنه، وتوارى في قرطبة. فلما توفي أبو الحزم سنة 435 ه (1043م) وقام بالأمر بعده ابنه أبو الوليد أعاد ابن زيدون الى سابق نعمته، فاتفق أن عرض له مطلب بحضرة ادريس بن علي الحسني في مالقة، فأطال المقام عنده، حتى ساء ظن أبي الوليد، فعزله قبل رجوعه اليه. ثم عاد الى حسن رأيه فيه، فعهد اليه في السفارة بينه وبين رؤساء الأندلس، فاكتسب بذلك الجاه والرفعة عند هؤلاء الملوك، واجتذبه المعتضد بالله عباد بن محمد بن عباد صاحب اشبيلية، فهاجر اليه من وطنه سنة 441 ه (1049م)، فاستخلصه واستوزره، وألقى بيده مقاليد ملكه. فلزمه يقوم بخدمته، حتى توفي وانتقل الملك الى ابنه المعتمد، فجرى على خطة أبيه في استيزاز ابن زيدون وةالاعتماد عليه.
وكانت الدولة الجهورية قد ضعفت في قرطبة بعد مرض أبي الوليد وعجزه، وقيام ابنه عبد الملك بالأمر دونه. فطمع ابن ذي النون صاحب طليطة بقرطبة. فاستنجد عبد الملك بالمعتمد، ورد الذنونيين عن بلده. ثم استولى المعتمد على قرطبة، وأخرج منها أبناء جهور، وضمها الى مملكته سنة 461ه (1068م) وقيل ان ابن زيدون هو الذي زين له امتلاكها وحضه عليه.
ومكث الشاعر الوزير مع المعتمد بن عباد في قرطبة، حتى ثار أهل اشبيلية على اليهود من أجل رجل مسلم سجنه صاحب المدينة عبد الله بن سلام لأنه بطش بيهودي وسط السوق وجرحه، وحرك عليه العامة زاعما أنه سب الشريعة. فأنكرت العامة حبسه، وساءت الحال، فكتب صاحب المدينة الى المعتمد يخبره بخبر الحادث. فعجل انفاذ ولده الحاجب سراج الدولة الى اشبيلية في جيش من نخبة علمائه ووجوه رجاله لمشارفة القصة، والاحتياط على العامة. وكان أبو بكر بن عمار وابن مرتين يحسدان ابن زيدون لعلو مرتبته في تدبير الملك، وهما من خاصة المعتمد بن عباد، ومن كبار رجال دولته، فكانا يتضوران من منافسة ابن زيدون لهما. فأشارا على الملك بأن يوفده الى اشبيلية في جملة من أوفدهم لتهدئة الثورة، لما له من المكانة لدى الاشبيليين. فندبه المعتمد لهذه المهمة، على ما كان يشكو من المرض وتقدم السن، فلم يطل به الأمد حتى اشتد المرض عليه، ونهكت الحمى قواه، فقضى نحبه باشبيلية صدر رجب (463ه) فدفن فيها.
شعره
أكثر شعر ابن زيدون في الغزل والمدح والرثاء والشكوى والعتاب. وأجمله ما قاله في سجنه أو في بعده عن قرطبة متشوقا اليها والى ولادة، ذاكرا سوء حاله، متظلما مما لحق به من الضيم والمهانة، متلهفا على أيامه الحلوة الماضية، اذ كان الحبيب مصافيا ، والزمان مؤاتيا . فعرفت له قصائد وجدانية خالصة، صادقة التعبير عن مشاعره وحياته، زاخرة الاحساس بآلامه وآماله، ووافقتها لغة ناعمة الألفاظ، نقية الديباجة، لطيفة الجرس، بارعة الصنعة، يستاغها السمع بلذة وارتياح، وتهفو اليها النفس متملية منها نفحات اانشوة الفنية.
وشعر ابن زيدون، على الاجمال، لا يعلق به الغريب الوحشي، ولا تخالطه التعابير الخشنة والقوافي الغليظة الا قليلا ، فمعظمه يجري على سنن السهولة والرقة، حتى في مدائحه ومراثيه، وان اختلفت لغتها بعض الشيء عن لغة غزله بولادة، فظهرت عليها الجزالة وشدة الأسر حينا بعد اخر، لأنه كان في غزله بولادة أندلسيا خالصا ، ولم يكن كذلك في مدائحه ومراثيه، أو في معاتباته للأمراء والوزراء.
غزله
لابن زيدون غزل تقليدي يجري في أكثره على نهج شعراء المشارقة المتقدمين، وهو الذي يصدر به مدائحه، فيذكر الابل التي حملته الى دار الحبيبة، مع ان الابل لم تحفل بها الاندلس في أيامه، وانما حفلت بها زمن الأمير المرابطي يوسف بن تاشفين، فذكره لها في شعره يعود على تتبعه طريقة المدح القديم، لا على تصوير صادق لحياته وبيئته. وتبدو الحبيبة في غزله هذا بدوية وسط القباب، محجبة في خدر تحرسه الخيول والسيوف والرماح. وقومها غيارى غاضبون على العاشق الذي يزورها لأنهم يعدون الغرام جريرة لحرصهم على حصانة النساء. فمن ذلك قوله في استهلال قصيدة مدح بها الوزير محمد بن جهور:
أما علمت أن الشفيع شباب، فيقصر عن لوم المحب عتاب؟
علام الصبا غض يرف رواؤه، اذا عن من وصل الحسان ذهاب
وفيم الهوى محض يشف صفاؤه اذا لم يكن منهن عنه ثواب؟
ومسعفة بالوصل اذ مربع الحمى لها كلما قظنا الجناب جناب
وقل لها نضو برى نحضه السرى وبهماء غفل الصحصحان تجاب
اذا ما أحب الركب وجها مضوا له فهان عليهم أن تخب ركاب
عروب ألاحت من أعاريب حلة تجاوب فيها بالصهيل عراب
غيارى من الطيف المعاود في الكرى مشيحون من رجم الظنون غضاب
وماذا عليها أن يسني وصلها طعان فان لم يغننا، فضراب
ألم تدر أنا لا نراح لربية، اذ لم يلمع بالنجيع خضاب
ولا ننشق العطر النموم أريجه، اذا لم يشعشع بالعجاج ملاب
وكم راسل الغيران يهدي وعيده فما راعه الا الطروق جواب
ولم يثننا أن الرباب عقيلة، تساند سعد دونها ورباب
وان ركزت حول الخدور أسنة وحفت بقب السابحات قباب
ولو نذر الحيان غب السرى بنا لكرت عظالى، أو لعاد كلاب
على أن الغزل الذي نظمه مستقلا بنفسه يختلف عن هذا بلغته وروحه وعاطفته، ونريد به الغزل الذي قاله في ولادة فجاء معبرا عن حياته وأحواله أصدق تعبير، فلغته ناعمة، وروحه حضرية، وعاطفته رقيقة؛ وألطف غزلياته وأعلقها بالقلب ما بث فيه لواعجه وهو بعيد عنها اما في السجن أو خارج قرطبة؛ فيجتمع له فيه الشوق واللوعة والألم والشكوى؛ ويحفل بذكريات الأيام الماضية ومعاهد لهوه معها، فتتراءى له في القصور والرياض والحدائق، وعلى مجالس الشراب والغناء، وفي الحفلات والأعياد والمواسم. وقلما صرح باسمها وشهرها، بل كان يؤثر أن يكني عنها بذكر صفاتها الملوكية، معترفا بأنه دونها منزلة، ولكن الحب يجعل بينهما تكافؤا .
وكانت ولادة أديبة مثقفة تميل الى الأدباء وتعاشرهم؛ وما جنة لعوبا تعبث بالقلوب وتحطمها. تمنح مودتها لمن تشاء، وتستردها متى تشاء؛ فلم تكن في ودها كاذبة، ولا في رجوعها عنه غادرة، وانما هو طبعها المرح الهازىء، يستلذ خفقان القلوب، فتتبدل واحدا بعد آخر، تنقل الفراشة من زهرة الى زهرة. وكان ابن زيدون يعلم تقلب أهوائها، ولا يجهل أن أدباء قرطبة يتنافسون في معاشرتها واسترضائها، ولا سيما الوزير ابن عبدوس الذي لا ينقطع عن ملاحقتها ليتفرد بها، فنراه يخص جانبا من غزله بذكر الحساد الذين يحاولون أن يفتنوها عنه، ويرجو منها أن تدوم على العهد، وتذكر صافي مودته؛ ويشرح لها سوء حاله بعدها، وشدة شوقه اليها؛ ويأبى أن تضعف ثقته بها، فيتصور الغدر والخيانة فيها.
وليس حنينه الى قرطبة دون حنينه اليها، فانه كغيره من شعراء الأندلس شديد التعلق بموطنه، فاذا ابتعد عنه أخذ يتشوق اليه، ويتلهف على ايامه الماضية فيه، ويعد نفسه غريبا في كل بلد ينزله بعيدا عنه. فغزله بولادة حافل بذكريات ملاهي قرطبة ومنازهها، وجمال طبيعتها وعمرانها؛ ووصفه لقرطبة وحدائق الزهراء بالقرب منها، يبعث في نفسه الشوق الى ولادة، فيشرع في مخاطبتها وبث تباريحه لها؛ ويجعل الطبيعة شريكة له في آلامه وبكائه وأحزانه، تحس باحساسه، وتحنو عليه حنو الخليل الوفي، فبين قرطبة وولادة تتداعى أفكار الشاعر وعواطفه، وتلتقي وجدانية الطبيعة ووجدانية الحب في المجرى السحري من الفيض الباطن. فمن ذلك قصيدته الشهيرة التي بعث بها الى ولادة، وهو بعيد لاعنها:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا ، وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ألا وقد حان صبح البين، صبحنا حين فقام بنا للحين ناعينا!
من مبلغ الملبسينا، بانتزاحهم، حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا
أن الزمان الذي ما زال يضحكنا أنسا بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا بأن نغص فقال الدهر: آمينا
فانحل ما كان معقودا بانفسنا؛ وانبت ما كاك موصولا بأيدينا
وقد نكون وما يخشى تفرقنا، فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم هل نال حظا من العتبى أعادينا؟
لم نعتقد بعد كم الا الوفاء لكم رأيا، ولم نتقلد غيره دينا
ما حقنا أن تقرؤا عين ذي حسد بنا ولا أن تسروا كاشحا فينا
كنا نرى اليأس تسلينا عوارضه، وقد يئسنا فما لليأس يغرينا؟
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقا اليكم، ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا، يقضي علينا الأسى، لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
اذ جانب العيش طلق من تألفنا ومربع اللهو صاف من تصافينا
واذ هصرنا فنون الوصل دانية قطوفها فجنينا منه ما شينا
ليسق عهدكم عهد السرور، فما كنتم لأرواحنتا الا رياحينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا ان طالما غير النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلا منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساري البرق غاد القصر واسق به من كان صرف الهوى والود يسقينا
واسأل هنالك: هل لاعنى تذكرنا الفا تذكره أمسى يعنينا؟
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا، من لو على البعد حيا كان يحيينا
فهل أرى الدهر يقضينا مساعفة منه وان لم يكن غبا تقاضينا
ربيب ملك كأن الله أنشأه مسكا وقدر انشاء الورى طينا
أو صاغة ورقا محضا وتوجه من ناصع التبر ابداعا وتحسينا
اذا تأود، آدته رفاهية توم العقود وأدمته البرى لينا
كانت له الشمس ظئرا في أكلته بل ما تجلى لها الا أحايينا
كأنما أثبتت في صحن وجنته زهر الكواكب تعويذا وتزيينا
ما ضر أن لم نكن أكفاءه شرفا ، وفي المودة كاف من تكافينا
يا روضة طالما أجنت لواحظنا وردا جلاه الصبا غضا ونسرينا
ويا حياة ، تملاينا بزهرتها منى ضروبا ، ولذات أفانينا
ويا نعيما خطرنا من غضارته في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
لسنا نسميك اجلالا وتكرمة وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
اذا انفردت وما شوركت في صفة فحسبنا الوصف ايضاحا وتبيينا
يا جنة الخلد أبدلنا بسدرتها والكوثر العذب زقوما وغسلينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا، والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا، حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
انا قرأنا الأسى يوم النوى سورا مكتوبة ، وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك، فلم نعدل بمنهله شربا ، وان كان يروينا فيظمينا
لم نجف أفق جمال أنت كوكبه، سالين عنه، لم نهجره قالينا
ولا اختيارا تجنبناه عن كئب لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك اذا حثت مشعشعة فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظة ، فالحر من دان انصافا كما دينا
فما استعضنا خليلا منك يحسبنا؛ ولا استفدنا حبيبا عنك يثنينا
ولو صبا نحونا، من علو مطلعة، بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا
أبكي وفاء وان لم تبذلي صلة ، فالطيف يقنعنا والذكر يكفينا
وفي الجواب متاع ان شفعت به بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
عليك منا سلام الله ما بقيت صبابة بك نخفيها، فتخفينا
وقال يذكر ولادة وهو في الزهراء:
اني ذكرتك بالزهراء مشتاقا ، والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله، كأنه رف لي فاعتل اشفاقا
والروض عن مائه الفضي مبتسم كما شققت عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت، بتنا لها نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه اذ عاينت أرقي، بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته، فازداد منه الضحى في العين اشراقا
سرى ينافحه نيلوفر عبق، وسنان نبه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا اليك، لم يعد عنها الصدر ان ضاقا
وقال يذكر فراق حبيبته:
ودع الصبر محب ودعك، ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يسكن زاد في تلك الخطا اذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسنا ؛ حفظ الله زمانا أطلعك
ان يطل بعدك ليلي، فلكم بت أشكو قصر الليل معك
وقال يخاطب الليل:
يا ليل طل، لآ أشتهي، الا بوصل، قصرك
لو بات عندي قمري، ما بت أرعى قمرك
يا ليل، خبر أنني ألتذ عنه خبرك
بالله، قل لي هل وفى؟ فقال: لا، بل غدرك
ولم يمل ابن زيدون الى الموشحات، فليس في ديوانه شيء منها، مع أنها تناسب الأغراض التي تناولها في الغزل والشكوى، ووصف الطبيعة ومجالس اللهو، وكان هذا الفن قد عرف في أيامه، وظهر من الوشاحين المشهورين عبادة القزاز المتوفى في السنة 422 ه (1030م) غير أنه نظم المخمسات من القصائد فخالف بها نظام تاقافية الواحدة ، وقد سبقه المشارقة الى هذه الطريقة، فرويت لهم أمثال هذه المسمطات على اختلاف أجزائها، منها مثلثات قطرب، ومزدوجات ابان بن عبد الحميد. وذكر ابن رشيق في "العمدة" أن بشارا كان يصنع المخمسات والمزدوجات عبثا واستهانة بالشعر. ومن مخمسات ابن زيدون قصيدة قالها وهو مسجون يذكر قرطبة ومنازهها، وأيام لهوه فيها. ويصف نفسه في السجن، فيفاخر معتزا به. منها قوله:
أقرطبة الغراء، هل فيك مطمع؟ وهل كبد حرى لبينك تنقع
وهل للياليك الحميدة مرجع؟ اذ الحسن مرأى فيك والحسن مسمع
واذ كنف الدنيا لديك موطأ
أليس عجديبا أن تشط النوى بك؟ فأحيا كأن لم أنس نفح جنابك؟
ولم يلتئم شعبي خلال شعابك، ولم يك خلقي بدؤه من ترابك
ولم يكتنفني من نواحيك منشأ
نهارك وضاح، وليلك ضحيان، وتربك مصبوح، وغصنك نشوان
وأرضك تكسى حين جوك عريان ورياك روح للنفوس وريحان
وحسب الأماني ظلك المتفيأ
أأنسى زمانا بالعقاب مرفلا ، وعيشا بأكناف الرصافة دغفلا
ومعنى ازاء الجعفرية أقبلا، لنعم مراد النفس روضا وجدولا
ونعم محل الصبوة المتبوأ
ويا رب ملهى بالعقيق ومجلس، لدى ترعة ترنو بأحداق نرجس
بطاح هواء مطمع الحال مؤيس مغيم ولكن من سنا الراح مشمس
اذا ما بدت في كأسها تتلألأ
وقد ضمنا من عين شهدة مشهد بدأنا وعدنا فيه، والعود أحمد
يزف عروس اللهو أحور أغيد، له مبسم عذب وخد مورد
وكف بحناء المدام تقنأ
وكائن عدونا مصعدين على الجسر الى الجوسق النصري بين الربى العفر
ورحنا الى الوعساء من شاطىء النهر، بحيث هبوب الريح عاطرة النشر
علا قضب النوار، فهي تكفأ
ومنها:
ويا حبذا الزهراء بهجة منظر، ورقة أنفاس، وصحة جوهر
وناهيك من مبدا جمال ومحضر، وجنة عدن تطبيك وكوثر
بمرأى يزيد العمر طيبا وينسأ
معاهد أبكيها لعهد تصرما، أغض من الورد الجني وأنعما
لبسنا الصبا فيها حبيرا منمنما، وقدنا الى اللذات جيشا عرمرما
له الأمن ردء، والعداوة مربأ
كساها الربيع الطلق وشي الخمائل؛ وراحت لها مرضى الرياح البلائل
وغادى بنوها العيش حلو الشمائل؛ ولا زال منا بالضحى والأصائل
سلام على تلك الميادين يقرأ
ومنها:
ولا يغبط الأعداء كوني في السجن؛ فاني رأيت الشمس تحصن بالدجن
وما كنت الا الصارم العضب في جفن، أو الليث في غاب أو الصقر في وكن
أو العلق يخفى في الصوار ويخبأ
المدح والرثاء
لابن زيدون مدائح كثيرة في أبي الحزم بن جهور، وابنه أبي الوليد محمد، وفي المعتضد بن عباد وابنه المعتمد، ومدح غيرهم من أمراء الطوائف الذين زارهم واتصل بهم كأبي المظفر صاحب بطليوس، وباديس صاحب غرناطة. وله رثاء في أبي الحزم جهور، وفي المعتضد، وفي القاضي أبي بكر بن زكوان، وفي أم ابن جهور، وفي أم المعتضد وابنته. ويستهل مدائحه في الغالب بالغزل على الطريقة القديمة، وأما مراثيه فيستهلها بتعظيم المصاب أو بتعزية ابن الفقيد، ومدحه، أو بالحكم العامة التي تتناول ذكر الدهر ومصائبه. وليس في مدائحه ومراثيه الا ما هو معروف عند الشعراء الذين تقدموه، من ذكر كرم الممدوح وشجاعته واقدامه، وتقواه، الى ما هنالك من الصفات التي تواضع الشعراء على اضافتها الى ممدوحيهم. ولا تخلو أقواله من المبالغات التي رافقت الشعر العربي من أقدم عصوره، ولكنه لا يفرط فيها، ولا يبلغ بها حد التبغض.
ويتميز مدحه لأبي الحزم بن جهور وابنه أبي الوليد بما يتخلله، بعض الأحيان، من شكوى سوء حاله، وهو في السجن، وتبرئه مما نسب اليه. ويطلب رضى الأمير على شيء من الاعتداد بأدبه. وقد يفاخر الشعراء ويساميهم ليستأثر بالحظوة عند ممدوحه. فمن ذلك قصيدته التي كتب بها الى أبي الحزم من سجنه، قال فيها بعد مقدمة غزلية:
من يسأل الناس عن حالي فشاهدها محض العيان الذي يغني عن الخبر
لم تطو برد ىشبابي كبرة، وأرى برق المشيب اعتلى في عارض الشعر
قبل الثلاثين اذ عهد الصبا كثب، وللشبيبة غصنت غير مهتصر
ها انها لوعة في الصدر قادحة نار الأسى، ومشيبي طائر الشرر
لا يهنىء الشامت المرتاح خاطره أني معنى الأماني ضائع الخطر
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة، أم الكسوف لغير الشمس والقمر
ان طال في السجن ايداعي فلا عجب؛ قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
وان يثبط أبا الحزم الرضى قدر عن كشف ضري فلا عتب على القدر
ما للذنوب التي جاني كبائرها غيري يحملني أوزارها وزري
من لم أزل من تأنيه على ثقة؛ ولم أبت من تجنيه على حجذر
ذو الشيمة الرسل ان هيجت حفيظته، والجانب السهل والمستعتب اليسر
من فيه للمجتلي والمبتلي، نسقا ، جمال مرأى عليه سرو مختبر
مذلل للمساعي حكمها شططا عليه، وهو العزيز النفس والنفر
وزير سلم كفاه يمن طائره شؤم الحروب ورأي محصد المرر
أغنت قريحته مغنى تجاربه، ونابت اللمحة العجلى عن الفكر
كم اشترى بكرى عينيه من سهر، هدوء عين الهدى في ذلك السهر
في حضرة غاب صرف الدهر خشيته عنها، ونام القطا فيها فلم يثر
ممتع بالربيع الطلق نازلها، يلهيه عن طيب آصال ندى بكر
ما ان يزال يبث النبت في جلد مذ ساسها ويفيض الماء من حجر
قد كنت أحسبني والنجم في قرن، ففيم أصبحت منحطا الى العفر
أحين رف على الآفاق من أدبي غرس له من جناه يانع الثمر
وسيلة سببا ، الا تكن نسبا ، فهو الوداد صفا من غير ما كدر
وبائن من ثناء ، حسنه مثل، وشي المحاسن منه معلم الطرر
يستودع الصحف لا تخفى نوافحه الا خفاء نسيم المسك في الصرر
من كل مختالة بالحبر رافلة فيه اختيال الكعاب الرود بالحبر
تجفى لها الروضة الغناء أضحكها مجال دمع الندى في أعين الزهر
يا بهجة الدهر حيا ، وهو، ان فنيت حياته، زينة الآثار والسير
لي في اعتمادك بالتأميل سايقة، وهجرة في الهوى أولى من الهجر
ففيم غضت همومي من على هممي، وحاص بي مطلبي عن وجهة الظفر
هل من سبيل ، فماء العتب لي أسن، الى العذوبة من عتباك والخصر
نذرت شكرك لا أنسى الوفاء به، ان أسفرت لي عنها أوجه البشر
لا تله عني فم أسألك معتسفا رد الصبا بعد ايفاء على الكبر
واستوفر الحظ من نصح وصاغية، كلاهما العلق لم يوهب ولم يعر
هبني جهلت فكان العلق سيئة؛ لا عذر منها سوى أبي من البشر
ان السيادة بالاغضاء لابسة بهاءها، وبهاء الحسن في الخفر
لك الشفاعة، لا تثنى أعنتها، دون القبول بمقبول من العذر1
والبس من النعمة الخضراء أيكتها ظلا حراما على الآفات والغير
نعيم جنة دنيا ، ان هي انصرمت، نعمت بالخلد في الجنات والنهر
ويكثر من التحدث بأيدي ممدوحيه عليه دون أن يبسط كفه مستجديا ، فقد كان مكتفيا بعز الوزارة وخيرها. لا يرجو الا دوام النعمة، أو عودتها اليه عندما تزول عنه. ولا يختلف مدحه للمعتضد بن عباد وابنه المعتمد عم مدحه لأبي الحزم بن جهور وابنه أبي الوليد سوى أنه لم يلق الضيم في اشبيلية كما لقيه في قرطبة، فلا تشتمل مدائحه لصاحبيها على الشكوى والتظلم والعتاب، بل نراه راضيا شاكرا قرير العين، يخاطب المعتضد بقوله:
وعدنا الى القصر الذي هو كعبة، يغاديه منا ناظر أو مطرف
فاذ نحن طالعناه، والأفق لابس عجاجته، والأرض بالخيل ترجف
رأيناك في أعلى المصلى كأنما تطلع من محراب داود يوسف
ولما حضرنا الاذن، والدهر خادم، تشير فيمضي، والقضاء مصرف
وصلنا فقبلنا الندى منك في يد، بها يتلف المال الجسيم، ويخلف
لقد جدت حتى ما بنفس خصاصة؛ وأمنت حتى ما بقلب تخوف
ولولاك لم يسهل من الدهر جانب؛ ولا ذل مقتاد؛ ولا لان معطف
لك الخير، أنى لي بشكرك نهضة، وكيف أؤدي فرض ما أنت مسلف؟
أفدت بهيم الحال مني غرةً، يقابلها طرف الجموح فيطرف
وبوأته دنياك دار مقامة، بحيث دنا ظل وذلل مقطف
وكم نعمة ألبستها سندسية، أسربلها في كل حين وألحف
مواهب فياض اليدين كأنما من المزن تمرى أو من البحر تغرف
فان أك عبدا قد تملكت رقه، فأرفع أحوالي وأسنى وأشرف
وكان المعتمد بن عباد شاعرا مجيدا ، يحب الشعراء ويكثر من مجالستهم، ويأنس بمنادمتهم، فوجد فيه ابن زيدون أميرا كريما ، وصديقا مؤاخيا ، وصنوا له في الأدب، فمدحه معجبا به، محبا له، مطمئن النفس اليه. وربما جرت بينهما مماتنات شعرية على سبيل الاخوانيات، منها أن المعتمد كتب اليه بهذين البيتين:
أيها المنحط عني مجلسا وله في القلب أعلى مجلس
بفؤادي لك حب يقتضي أن ترى تحمل فوق الأرؤس
فأجابه بقوله:
أسقيط الطل فوق النرجس، أم نسيم الروض تحت الحندس
أم نظام للآل نسق، جامع كل خطير منفس
أم قريض جاءني عن ملك مالك بالبر رق الأنفس
دلهت فكري، من ابداعه، حيرة في منطق لي مخرس
بت منه بين سهل مطمع، خادع، يتلى بحزن مؤيس
يا ندى يمنى أبي القاسم غم؛ يا سنا شمس المحيا أشمس
يا بهيج الخلق العذب ابتسم؛ يا مهيج الأنف الصعب اعبس
يا جمال الموكب الغادي، اذا سار فيه، يا بهاء المجلس
أنت لم يقنعك أن ألبستني نعمة تذكر عهد السندس
فتلطفت لأن حليتني، موليا طولى، محلى ملبس
ذاك تنويه ثناني فخره سامي اللحظ، أشم المعطس
شرفت بكر المعالي خطبة منك، فانعم بسرور المعرس
تمنح التأييد، يجلى لك عن ظفر حلو، وعز أقعس
وارتشف معول نصر أشنب، تجتنيه من عجاج ألعس
وارتفق بالسعد في دست المنى تصبح الصنع دهاق الأكوس
فاعتراض الدهر، فيما شئته، مرتقى في صدره لم يهجس
ومن رثائه قوله في أم المعتضد وتعزية ابنها:
ألا هل درى الداعي المثوب اذ دعا بنعيك ان الدين من بعض ما نعى
وأن التقى قد آذنتنا بفرقة، وأن الهدى قد بان منك فودعا
لرزئك تنهل الدموع، فمثله، اذا حل، ود القلب لو كان مدمعا
لقد أجهش الاخلاص بالأمس باكيا عليك، كما حن ايقين فرجعا
ودنيا وجدنا العيش في غفلاتها طريقا الى ورد المنية مهيعا
نعلل فيها بالمنى، فتغرنا بوارق ليس الآل منها بأخدعا
أصبنا بما لو أن هضب متالع أصيب به لانهد، أو لتضعضعا
منار من الايمان لم يعد أن هوى، وحبل من التقوى وهى فتقطعا
وشمس هدى أمسى لها الترب مغربا وكان لها المحراب في الخدر مطلعا
لئن أتبعت منا غمامة رحمة، لقد ظللت ذاك السرير المرفعا
سرير بأملاك وزهر ملائك، الى جنة الفردوس راح مشيعا
لتبك الأيامى واليتامى فقيدة ، هي المزن أحيا صوبه، ثم أقشعا
أضلهم فقدانها، فكأنما أضلت سوام الوحش في الجدب مرتعا
مسبحة الآناء قانتة الضحى، ثوت، فثوى مغنى التأوه بلقعا
تبيت مع الاخبات مسعرة الحشا، تقية من يخشى الى الله مرجعا
اذا ما هي استوفت من البر غاية تأتت لأخرى، لا ترى تلك مقنعا
كأن قضاء الواجبات محرج تقبله، الا بأن تتطوعا
أصرف الردى! لو أن للسيف مضربا لما رعتنا، أو أن للقوس منزعا
فلو كنت اذ ساترت رام مجاهر ذمار الهدى كان المحوط الممنعا
اذا لثناه الجيش من كل أليس يشايع قلبا في الحفاظ مشيعا
ومعتضد بالله يحمي ذماره، فلا سرب يلفى في حماه مروعا
ولكن عررت الملك من حيث لا يرى فلم يستطع للحادث الحتم مدفعا
يغيظ العتاق الجرد ألا ترى لها مجالا فتعنو في المرابط خشعا
وتأسف بيض الهند أن ليس تنتضى، وسمر القنا ألا تهز وتشرعا
لئن ساءك الدهر المسيء فلم يكن بأول عهد واجب الحفظ ضيعا
شهدنا، لقد طرزت برد جماله، وقلدته عقد البهاء مرصعا
وما فخره الا بان كان مصغيا لأمرك، ان ناديت لبى فأسرعا
أتى العثرة العظمى، فهل أنت قائل له حين أشفى من كآبته: لعا؟
وها هو منقاد لحكمك فاحتكم لتبلغ ما تهوى ، ومره ليصدعا
لعمر التي ودعت امس مفارقا ، لقد وردت حوض السعادة مشرعا
تمنت وفاة في حياتك بعدما حشدت لها الآمال مرأى ومسمعا
فوفيتها ما لم يدع لضميرها، الى غاية من بعده، متطلعا
خفضت جناح الذل في العز رحمة لها، وعزيز أن تذل وتخضعا
تورح أميرا في البلاد محكما ، وتغدو شفيعا في الذنوب مشفعا
عزاء فدتك النفس عزم مسلم لموقع أمر لم يزل متوقعا
متى ظنت الأيام أنك جازع أو استشعرت في فل صبرك مطمعا
فما اربد وجه الخطب الا لقيته بصفحة طلق الوجه أبلج أروعا
وما كنت أهلا أن يصيبك حادث فتصبح عنه مقصد القلب موجعا
فلولاك لم يسمح من الدهر جانب، ولا اهتز أعطافا ، ولا لان أخدعا
فأنت الذي لم ينتقم غب قدرة، ولم يؤثر امعروف الا ليشفعا
متى تسد نعمى قيل: أنعم مثلها، يقل: جلل ، حتى اذا قيل: أبدعا
وان يسل العافون جدواك يعطهم جواد، اذا لم يسألوه، تبرعا
ويغرى بتوكيد الاساءة مذنب، فيلقاك بالاحسان أغرى وأولعا
خلائق ممهاة الفرند، كأنها حدائق روض الحزن جيد فأينعا
تنافحها منه أحاديث سؤدد، تخال فتيت المسك عنها تضوعا
تغلغل في الآفاق أسرى من الصبا وأشهر من شمس النهار وأسرعا
فلو صرفت صرف المنون جلالة، لكنت محيا من تود ممتعا
فلا زلت ممنوع الحمى مسعف المنى اذا كان شانيك المصاب المفجعا
ودمت ملقى أنجم السعد باقيا لدين ودنيا، أنت فخرهما معا
منزلته
أطلق أهل الغرب لقب البحتري على ابن زيدون كما أطلقوا لقب المتنبي على ابن هاني لاعجابهم بشعراء المشارقة المشهورين، ولا سيما الأقطاب الثلاثة أبو تمام، وأبو عبادة البحتري، وأبو الطيب المتنبي. وقد رأوا في لغة ابن زيدون واشراق ديباجته ما يشبه رونق الديباجة البحترية، في وضوحها، وائتلاف ألفاظها، وحسن ايقاعها، واتقان الصنعة فيها، وان تكن لغة البحتري أجزل وأدخل في كلام العرب من لغة الشاعر المغربي، وان تكن الصنعة عنده أقرب الى روح البلاغة العربية من صنعة الشاعر القرطبي؛ ونرى ذلك على الأخص في الاستعارات والتشابيه الاضافية التي أخرجها ابن زيدون أندلسية خالصة، لبعد الجامع بين طرفيها، وعنودها عن قبول التشبيه الصريح مع أن علاقتها به وحده، ومرجعها اليه دون غيره. وقد مر بنا فيما أوردنا من شعره كثير من تلك الأوجه البيانية. مثل قوله:
"خلائق ممهاة الفرند. يزف عروس اللهو أحور أغيد. وكف بحناء المدام تقنأ. هل من سبيل فماء العتب لي أسن البس من النعمة الخضراء أيكتها. أفدت بهيم الحال مني غرة. نصر أشنب. عجاج ألعس. وارتفق بالسعد في دست المنى" الى ما هنالك من أمثال هذه الأشياء التي اختلفت بها صنعته عن صنعة الشاعر الطائي، على ما عنده من استعارات وتشابيه وكنايات لا يند بها عن نهج المشرقيين.
ويتميز ابن زيدون بغزله العاطفي الرقيق، فلا يلحقه البحتري في هذا المضمار، ولا سيما غزله بولادة لما فيه من حرقة وغيرة وتلهف وحرمان، ولكنه يقصر أشواطا عن شاعر المتوكل في براعة الوصف ودقته، وسمو الخيال في تصوير القصور وآثار العمران، وان أجاد في جعل الطبيعة تشاطره اللوعة والبكاء عندما ذكر ولادة في رياض "الزهراء".
وهو كالبحتري لا يتطلب المعاني المبتكرة ولا الصور العميقة بقدر تطلبه حلاوة اللفظ، وطرق البيان في تأدية المعنى الذي يلوح له، وقلماحفل بالحكمة وضرب المثل، وأكثر آرائه من الأفكار المشتركة التي لا يستقل بها شاعر عن آخر. وأجاد المدح والرثاء، والعتاب والاستعطاف على غير تذلل. وأجمل معاتباته ما قاله في سجنه متشوقا الى ولادة وقرطبة وسابق عزه ولهوه