بقلم إبراهيم مشارة ملاك لبنان الحزين... فوزي المعلوف - مجلة صوت العروبة أمريكا
في الحياة نصادف صنفا من الناس يبدو غريبا مختلفا عن غيره من الناس لا نملك إزاءهم إلا التأمل في خفايا سرائرهم والتفكير في مسارات حياتهم وربما أسلمنا هذا التأمل والتفكير إلى الحيرة ثم التسليم بأن لله في خلقه شؤونا!
كذلك كان شاعر لبنان بل ملاكه فوزي بن عيسى إسكندر المعلوف (1899-1930) شابا جمع بين وسامة الملمح، وأناقة المظهر، وتوقد البصيرة ورهافة الحس ويسر الحال والشائع أن كل من يجمع بين هذه الصفات الفريدة والامتيازات النادرة أن يقبل على الحياة إقبال المتفائل، ويسعى في دروبها سعي الواثق من نفسه بقلب ينضح سرورا ونفس مطمئنة إلى نجاحها فيما أقبلت عليه من علم أو عمل، ولكن شاعرنا ما نضجت نفسه سرورا ولا امتلأ قلبه بالثقة في الحياة والناس، بل أسلم نفسه إلى حزن غامض دفين وقلبه إلى بلبال وعقله إلى بحران ، وكان شعره المرآة التي عكست تقلب هذه النفس المعذبة وهذا القلب الحزين، ولئن كانت زحلة التي ولد بها شاعرنا أواخر القرن التاسع عشر ، مهوى الأفئدة ومهبط الإلهام للشعراء والفنانين بما أفاء الله عليها من جمال الطبيعة والوجوه ، لم تستطع هذه الجنة الأرضية أن تثني الشاعر عن حزنه العميق وسويدائه المعذبة، وهو مدين في عبقريته الشعرية لبلدته وأسرته معا فوالده عيسى اسكندر المعلوف أديب مشهور وأخواه رياض وشفيق شاعران مطبوعان وآل المعلوف في لبنان أسرة لامعة جمعت بين
النجاح في العلم والعمل معا ، وقد خدمت هذه الأسرة الجليلة الأدب العربي خدمة لا سبيل إلى إنكارها أو التقليل منها ، تماما كما تشهد الثقافة العربية بفضل آل اليازجي وآل البستاني وتراثهما الفكري والأدبي خير ما تركت هاتين الأسرتين العريقتين للأدب والفكر العربيين.
كان فوزي في صباه شعلة متوقدة من الذكاء ، وحزمة حارة من المشاعر النبيلة ، وميلا فطريا إلى الشعر تذوقا وقرضا ، وأتاح له جو الأسرة الأدبي ومناخ زحلة الفكري ، ثم تمكنه من الفرنسية انطلاقة أدبية وثابة وتحليقا فكريا شامخا يأخذ من الشعر القديم الزاد البياني الذوقي ويلقح ذلك كله بثمرات الثقافة الفرنسية في الشعر والفكر حتى استوى شاعرا قديرا حق للبنان أن يفاخر به شعراء مصر والعراق وسوريا الكبار . ولأن أهل لبنان أحفاد الفينيقيين سادة البحار، تعاف نفوسهم الركود، يسعون في الأرض كأنهم في وطنهم بلا خوف أو إحساس بالدونية فلا يلبثون أن يصبحوا سادة المجتمعات التي عاشوا في رحابها علما وعملا ويصبح سعيهم الناجح مضرب المثل، وهم إن اختلطوا بالمجتمعات الجديدة وتمكنوا من لغاتها وعاداتها وأساليب عملها وحياتها حتى لكأنهم أهلها الأقحاح لا ينسون وطنهم لبنان ولا لغتهم الأم – العربية- بل كانت تلك الهجرة فأل خير وبشارة يمن أكسبتهم تجارب ويسرا ماديا وخبرة عميقة بالحياة وبالنفس الإنسانية، فجاء أدبهم في لغته العربية أدب النضج والاستواء، كذلك كان شعر الشاعر القروي و إلياس فرحات وسعيد الشرتوني وشفيق المعلوف وغيرهم.
ولقد هاجر شاعرنا فوزي عام 1921 إلى البرازيل مع أسرته واستقر في مدينة " ريو دي جانيرو" حيث أنشأ مع أسرته معملا لإنتاج الحرير من دودة القز، ويبدو أن طبيعة الشاعر فيه المنطوية على حب الحرية والنفور من الرتابة ومن أغلال الوظيفة قد انتصرت فيه فترك حينها الوظيفة كمدير لمدرسة المعلمين في دمشق ثم أمين سر عميد كلية الطب ، ولبى نداء الغربة والمغامرة في المهجر الجنوبي .
ولقد أصاب الشاعر في البرازيل حظا عظيما من النجاح جعله من أعيان المدينة ونابهيها ورجال الأعمال فيها وكان في سيرته وعمله مضرب المثل لولا أن القدر شاء للشاعر مسارا أخر هو مسار العطب و الزوال في ميعة العمر ونضارة الشباب ، فقد توفي متأثرا بإصابته بالحمى في مستشفى مدينة " ريو دي جانيرو" وحزنت زحلة لفراق فتاها النابه وشاعرها الغريد.
غلبت على شاعرنا إذا نزعة التشاؤم ومال إلى الحزن العميق الذي لا تتبينه عامة الناس ، ذلك أن أثره لا يظهر على الوجه ، وقد تقدم أن شاعرنا كان قسيم الملمح وسيم المظهر ولكن حزنه ظهر في شعره الذي احتوى على فلسفته في الحياة . لقد كان روحا شفافة تشبعت بفلسفة " رهين المحبسين " وصاحب "اللزوميات " أبي العلاء المعري القائل :
أنا صائم طول دهري، فطري
الحمام، ويوم ذاك أعـــــــــــيد
كما تشبعت بأفكار ومعاني " رباعيات " الخيام الداعية إلى نهب اللذات قبل الموت وإلى التحسر على عطالة الحياة، وجريان الزمن في اتجاه إعطاب الإنسان وجعل لحظات المتعة مجرد ذكرى ، ألم يقل الخيام ؟:
غدونا لذي الأفلاك لعبة لاعب
أقول مقالا لست فيه بكـــــاذب
على نطع هذا الكون قد لعبت بنا
وعدنا لصندوق ألفنا بالتعـــــاقب
ففوزي المعلوف شاعر الرومنطيقية الحزينة ، كان نفسا شفافة وروحا قلقة معذبة لم يجد في أطايب الحياة ومتعها إلا فخا يقود الإنسان – في غفلة منه- باتجاه العدم ومخدرا يخدر الإنسان عن معضلة الفناء، لذا لم ينخدع الشاعر بصحة أو وسامة أو غنى أو عبقرية وظل يقظ الحواس، قلق الضمير ، شارد اللب كئيب النفس حتى وهو يتصنع الضحك أو وهو يظهر بمظهر المتفائل مراعاة لآداب اللياقة وا قرأ له هذين البيتين تقع على أخص خبايا نفسه :
مرحبا بالعذاب يلتهم العيـــــ
ن التهاما، وينهش القلب نهشا
مشبعا نهمة إلى الدم حرى
ناقعا غلة إلى الدم عطشـــى
فتراه كشعراء الرومنطيقية يذكر العذاب كأنه يتعمد به ويتطهر من أوصاب الحياة و أمراضها ، وهذان البيتان من آخر ما كتب الشاعر كما يروي كتاب سيرته، وأما تأثر شاعرنا بأبي العلاء المعري فظاهر لا يخفى و إنما الحيرة تأخذ صاحبها إن تساءل أكانت فلسفة فوزي تأثرا بفلسفة المعري ، أم أن الشاعر جبل على الحزن ومال إلى التشاؤم ووجد في رفقة المعري ولزومياته خير جليس و أنيس ؟
وهاهو يذكر المعري تصريحا:
من يمت ألف مــــرة كل يوم
وهو حي يستهون الموت مرة
تعب كــــــلها الحياة وهــــذا
كل ما قــــال فيلسوف المعره
لقد كان شاعرنا صاحب تفكير حر وعقل نفاذ وبصيرة حية لا يميل إلى التسليم بما ورث عن الآباء من نمط تفكير وفلسفة بل ينفذ إلى أعماق المعنى كاشفا غثه من سمينه وصحيحه من زائفه، واقرأ له هذا المقطع الجميل وهو إن يبدو لقارئه مقطعا رومنطيقيا حزينا إذ يذكر الورود والنسيم والبهار إلا أنها رومنطيقية مفكرة عميقة التأمل ترى في مظاهر الوجود مسارب إلى الفناء والعدمية:
نظرت إلي وردة وقـــــــــــــالت
أنت مثلي في الكون للكون كاره
ويح نفسي من الربيع ففيـــــــــــه
أجتنى بين آسه وبهـــــــــــــــاره
ومن الصيف فهو يحرق أكمامي
على رغمها بلفحة نــــــــــــاره
والنسيم البلـــــــــــيل هل هو إلا
قاتلي بين وصله ونــــــــفاره ؟
يتصابى حتى أسلمـــــــــه نفسي
فيجـــــــــفو والعطر ملء إزاره
ثم يرتد وهو ريــــــــــح فيرديني
ويمشي مهيمنا لانتصــــــــــاره
بل ترى الشاعر وهو يكتب قصيدة عن قفاز عثر به ملقى على الثلج في يوم اشتد زمهريره سقط من غيداء، تراه دون أن يدري يذكر البعد والعذاب والذل والهجر وهي مشاعر سكنت لاوعيه واستوطنت سراديب روحه وتلا فيف مخه فتلون كل شيء كان يراه بلون واحد هو السواد يقول الشاعر عن القفاز اللقيط:
عثرت به في الأرض والثلج باسط
عليها جناحيه النقيين كالطــــــــــهر
وقد بث فيه البرد والثلج رعشـــــة
كما انتفض العصفور بلله القطـــــر
فساءلته عمن رماه فلم يجد جوابـــا
بلى كان الجواب شذا العطــــــــــر
فيا لك قفازا طريحـــــا على الثرى
يعاني عذاب البرد والذل والــهجر
نعمت بيمناها وكم لك قبلــــــــــــة
على الثغر منها والغدائر والصـــدر
وكم مـــــــــــرة منت عليك بزفرة
وكم مسحت دمعا على خدها يجري
إلى أن قضى بالبعد دهري عليكمــا
فلا حيلة في ما قضت حكمة الدهر
فلا مناص من الإقرار إذا بأن شاعرنا كان شاعر الحزن العميق والكآبة الغامضة، قد انتهى في تفكيره إلى عقيدة راسخة وقناعة ثابتة مفادها أن كل سعادة ونجاح في الحياة وكل عافية وغنى ووسامة ما هي إلا أعراض خادعة وسراب مضلل يتستر على هاوية العدم وقرار الفناء وتلك هي حقيقة الوجود ولا ريب أن شاعرنا أبا العلاء المعري هو فيلسوف هذا الاتجاه في الشعر العربي وتجد لحزن الشاعر هذا نظيرا عند لفيف من شعراء الرومنطيقية العرب الشباب كأبي القاسم الشابي وصالح الشرنوبي وبشير يوسف التيجاني بل وتجد له نظيرا عند شعراء الرومنطيقية في الأدب الغربي كجون كيتس Keats j. وشلي Shelley ولامارتين Lamartine وألفريد دي موسيه A.D.Musset وشاعر إيطاليا الكبير ليوباردي Leopardi
ولا شك أن هؤلاء جميعا قد أحسوا بالوحدة وبالغربة كأنهم ليسوا من طينة البشر فصادقوا الطبيعة ووجدوا في القلم الخل الودود وكأنهم يقولون جميعا بلسان فوزي:
يا يراعي مازلت خير صديق
لي منذ امتزجت بي وستبــقى
باسما من تعاستي حين أهنـــا
باكيا من تعاستي حين أشـــقى
كم حبيب سلا وعهدك بـــــاق
فهو أوفى من كل عهد وأبقى
يا يراعي رافقت كل حيــــاتي
فارو عني ما كان حقا وصدقا
وقد اشتهر الشاعر بمطولة " على بساط الريح" ولقب من أجلها بشاعر "الطيارة" وهي ملحمة شعرية تمجد الصفات الإنسانية النبيلة في الشاعر الحالم الوديع الذي يتنزه عن سفاسف الحياة وأدران الحياة الإنسانية ،إنه يسامر النجوم ويصادق الكواكب ويناغي القمر ويتعمد بالنور، ولا حد لأحلامه التي لا تشبه أحلام البشر في النجاح الدنيوي والرفاه المادي، ذلك أن الشاعر ينطوي على روح نورانية ونفس محصنة ضد المطامع البشرية الفانية ، وفي القصيدة كعادة الشاعر تأمل في طبيعة العلاقات الاجتماعية بين البشر وثورة ضد الاستغلال والطبقية وحسب البشرية أن الفناء لها بالمرصاد:
أنا عبد الحياة والموت أمــــشي
مكرها من مهودها لقـــــــبوره
عبد ما ضمت الشرائع من جور
يخط القوى كل سطـــــــــــوره
بيراع دم الضعيف له حــــــــبر
ونوح المظلوم صوت صريره
أنا عبد القضاء تمــــــلأ نفسي
رهبة من بشيره ونذيـــــــــره
وعلى الرغم من أن الشاعر عاش شابا ومات يافعا إلا أنه يتصنع أحيانا حكمة الشيوخ وخبرة من بلغوا من الكبر عتيا غير أن حكمته تأتي مستساغة يتقبلها القارئ دون أن يرى فيها تكلفا ،لأن نفس الشاعر مفطورة على التشاؤم و الميل إلى الكآبة يقول حكيمنا الشاب :
بين أوجاع أمـه دخل المهــــــد
وبين الأوجاع يدخل قــــــــــبره
إن من جاء مهده مكرها يمضي
إلى لحده غدا وهو مـــــــــكره
هكذا الزهر يسكب الدمع عنـــــد
الفجر مستقبــــــــــلا سنا أنواره
و اقرأ له هذا ا لمقطع يخاطب فؤاده وتأمل الحكمة الكامنة في البيت الأخير:
يا فؤادي وأنت مني كـــــــلي
ليت حكمي يوما عليك يصح
فيك كنز لم تعط إلا قليـــــــلا
منه والحسن لا زال يلـــــــح
إن جود الفقير بالنزر جـــــود
حيث جود الغني بالوفر شـــح
والذي لا خلاف فيه بين النقاد أن شاعرنا الشاب قد امتلك ناصية اللغة فلا تجد في شعره ركاكة أو إسفافا أو إخلالا بقواعد اللغة وقواعد الشعر، وأنى له أن يفعل ذلك وهو سليل بيت تمرس بدراسة اللغة العربية وأتقنها خطابا وتأليفا، وشاعرية فوزي خلاقة لا تتكلف الشعر بل ترى الشعر ينبجس من نفسه بتلقائية تماما كما ينبجس الماء من النبع، وفي شعره حلاوة وطلاوة على الرغم من تضمنه فلسفة حومت حول مرارة الوجود ولوعة الفراق وفجيعة الموت ، وقد عشق الشاعر الطبيعة وحسبه أنه ابن زحلة ملهمة الشعراء والفنانين لجمالها الفتان فاقتبس مفرداته من الطبيعة على عادة الشعراء الرومنطيقية إمعانا في الاندغام في الطبيعة والحلول فيها ولو عاش الشاعر طويلا لأمتعنا بالشعر الحي السلس ولو أمهله القدر حتى الأربعينات لركب موجة شعر التفعيلة ، ذلك أن نفسه كانت بركانا مفطورة على الثورة والتمرد والتعلق بالحرية والبحث عن المعنى واطراح القشور حرصا على اللباب ، ولربما كان شعر التفعيلة الذي لو عاش له ومارسه أجود وأمتع من الشعر العمودي الذي تركه ميراثا أدبيا لنا ومن يدري لربما كان في شعره الحديث في مستوى كبار الشعر الحديث ورواده كالسياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور .