أبو حيان التوحيدي - أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء
احتفلت الأوساط الأدبية والفكرية في القاهرة، بمرور ألف عام على وفاة أبي حيان التوحيدي. ألف عام مرت على من وصفه ياقوت الحموي بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء.
كانت ولادة التوحيدي بين 310ه و 320 ه في مدينة شيراز أو نيسابور أو واسط. ثم انتقل الى بغداد في تاريخ مجهول. أما نسبته "التوحيدي" فيقول ابن خلكان: "لكن أباه كان يبيع التوحيد في بغداد وهو نوع من التمر". ونقل السيوطي عن ابن حجر قوله: "يحتمل أن تكون الى التوحيد الذي هو الدين. فان المعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد". ويذهب الذهبي الى أنه: "هو الذي نسب نفسه الى التوحيد".
درس أبو حيان النحو في بغداد على يد أبي سعيد السيرافي، وعلى علي بن عيسى الرماني، وتفقه بالمذهب الشافعي، وأخذ على القاضي ابن حامد المروروزي. وسمع الحديث من أبي بكر بن عبد الله الشافعي، وأخذ التصوف عن جعفر الخلدي (ياقوت الحموي، معجم الأدباء).
في اطار المعلومات المتوفرة لدينا عنه، يمكن القول بأن أول مؤلفاته هي "الهوامل والشوامل" ثم ألف "الامتاع والمؤانسة" ثم" الصداقة والصديق". وفي غضون ذلك ألف "أخلاق الوزيرين" ومن ثم" البصائر والذخائر" الذي بدأ بتأليفه نحو سنة 375 ه وأتمه في خمسة عشر عاما ، ثم "المقابسات". وقد كانت كتب "الهوامل، الامتاع، المقابسات" صورة صادقة للحياة الاجتماعية وللوسط الفكري في بغداد في القرن الرابع الهجري. وله العديد من الرسائل الموضوعة في مواضيع متعددة مثل"العلوم"،"الكلام"،" الحياة"، و"الكتابة" الى بعض المفكرين والوزراء.
دفعته الأزمة النفسية التي عاش فيها نتيجة اتهامه بالزندقة، ومحاصرته من قبل السلطة الى احراق كتبه في أواخر حياته، فضاع من آثاره الكثير. وقد أرجع هو سبب احراق كتبه لقلة جدواها وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته.
كان أبو حيان التوحيدي عالما موسوعيا شملت كتبه ومعارفه كل شيء. كتب في الأدب وفي العلوم والبلاغة والفلسفة. وكان يغلب عليه الاهتمام بمشاعر الانسان وهواجسه وأشواقه وتجاربه. وكان شديد الاحساس بالحياة، كما كان شديد الالتفات الى ذاته منقبا عما خفي من مشاعرها. وقد ساعده ذلك على تحليل مشاعره وأفكاره وأفكار الناس ومشاعرهم، ومن ثم بالابانة عنها بالكلمة الرقيقة الموحية. وربما كان هذا سر فشله وشعوره بالشقاء والتعاسة (زكريا ابراهيم: أبو حيان التوحيدي، أديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء، الدار المصرية للتأليف والترجمة).
لم يعرف للتوحيدي نشاط في السياسة، ولا دور انساني في مصالح الدولة، انه من بين الشخصيات الفكرية القليلة التي عاشت وفق مفهومها الخاص وشخصيتها الخاصة.
وكانت تمتاز شخصيته بمجموعة من السمات:
1- الشعور بالفردية عبر اقتناعه بتميزه العلمي والأدبي الذي لم يكن يوازيه الا احساسه بالحرمان وسوء الاعتراف، هذا الشعور الذي لا يتوافق أبدا مع سنة التبعية والتزلف.
2- شعور باللا توافق مع العصر الذي كان يعيش فيه، الى حد التنافر الصريح المعلن، الذي دفع السلطة في ذلك الوقت الى اتهامه بالزندقة، ونفيه من بغداد. وقد عد من زنادقة الاسلام الثلاثة مع المعري والراوندي.
لقد دفع به ذلك التنافر الى التصوف. وساعده على ذلك حالة الفقر الشديد الذي كان يعيش فيه. ان تصوف التوحيدي من ذلك النوع الذي يحركه التنافر مع المجتمع، ويظهر معه وجه التصوف كمؤشر من المؤشرات الاقتصادية، في حين أن سلوكه التقشفي كان يعمل على اسقاط الوسائل والغايات المحسوسة، حتى يخلى له المجال للمطالبة بالمطلق، كأعظم وأجل طلب. وقد يرى بعضهم في هذه الدعوة تأثرا بالحلولية الحلاجية.
ولا تزال مسألة تصوف التوحيدي مسألة عالقة غير محسوسة، فالدكتور يوسف زيدان يرى أن التوحيدي: "نظر الى الصوفية لا كواحد منهم، بل باعتبارهم طائفة من أهل زمانه"، فهم له "الاضروف" أو "هذه الطائفة". وقد أورد أخبارهم في معرض المسافرة وتصوير ثقافة العصر، لا من حيث كونه أحدهم (يوسف زيدان، التوحيدي والصوفية، مجلة الهلال المصرية، تشرين الثاني 1995).
اغتراب التوحيدي
لقد ميز التوحيدي بين نوعين من الغربة:
1- الغربة المكانية المؤقتة المرهونة بالانتقال وارتحال الغريب وهجرته عن أهله.
2- الغربة النفسية، وهي الغربة الحقيقية، وهي غربة دائمة عميقة. فالغريب هو الذي يحمل غربته في داخله، وهو متمرد على المكان الذي يحل فيه وتمتلكه الغربة الدائمة بالترحال.
وقد عبر عن تلك الغربة بالقول: "قد قيل الغريب من جفاه الحبيب"، وأنا أقول: "الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من نودي من قريب".
السؤال المطروح الآن هو: الى أي حدً يمكن النظر الى أبي حيان التوحيدي على أنه فيلسوف "وجودي"؟
تمكن الاجابة عن هذا السؤال اذا انطلقنا من اعتبار:
1- الوجودية مذهب فلسفي عصبه الأساسي حياة الوجود وليس مجرد التفكير في الوجود. وأبو حيان ينتمي الى هذا التيار الذي لا يمارس التفلسف بوصفه عقليا مجردا ، وانما بوصفه تجربة معيشة.
2- ان الوجود البشري هو محور لتساؤل التوحيدي وأساس فلسفته، بمعنى أن التوحيدي ينطلق من الانسان لا من الطبيعة، فهو في فلسفته عن الذات أكثر مما في فلسفته عن الموضوع.
3- تتسم الوجودية من حيث هي اتجاه فلسفي بالموضوعات التي تدرسها مثل "الموت"، الخطيئة"، "العبث"، "الاغتراب". والتوحيدي بهذا من أكثر الفلاسفة اهتماما بهذه المشكلات.
4- شخصية التوحيدي شخصية وجودية، بمعنى أنها تتسم بطابع درامي حاد، وتمتلىء بمشاعر متناقضة، بالتمرد والضياع. وهي شخصية غريبة وعجيبة، ذات نهاية تراجيدية وهي أقل ما يقال عنها تجسد بمعنى حقيقي شخصية " اللامنتمي" ( حسن محمد حسن حماد: الاغتراب عند أبي حيان التوحيدي- مجلة فصول القاهرية- صيف 1995).
العلم والمعرفة عند التوحيدي
يغرق التوحيدي بين العلم والمعرفة. فالعلم أخص بالمقولات الكلية والمعاني الكاملة في حين أن المعرفة أخص بالمحسوسات والمعاني الجزئية. ويربط التوحيدي العلم بالعمل. وهو يرى أن العلم يراد للعمل، والعلم يراد للنجاة، فاذا كان العامل قاصرا عن العلم، كان العلم كلا على العالم. وقد ارتكز مفهوم العلم عند التوحيدي على أسس هي:
- المعرفة العقلية: فقد عد العقل أداة سبر الأغوار وعدة كشف للمجهول وميزان الحكم ومعيار الحقيقة.
- المحور الفكري: فقد آمن الوحيدي بنسبة الحقيقة النسبية في المعرفة الانسانية، وبالتالي آمن بما يترتب على ذلك من حق الاختلاف المشروع بين البشر، وحتمية الحوار بينهم. ولم يقتصر ايمان التوحيدي بالحوار على قناعته النظرية بذلك فحسب، بل ان هذه القيمة تجسدت على أنها منحى وأسلوب في بنية نصه نفسها.
فهذا المفكر يكاد ينفرد في تراثنا بانتهاجه في تآليفه ومصنفاته وصوغ أفكاره منهج الحوارية. وتحول الحوار لديه الى جدل خلقي عميق بين تيارات ومذاهب وأفكار مجموعة مؤلفي عصره في العلوم والفلك والحكمة.
التوحيدي الأديب
ان أدب التوحيدي بصفة عامة يصعب فيه الفصل النهائي بين الأدب والبحث والفلسفة المحضة. والصواب هو عدم الفصل بين آثار التوحيدي الفلسفية، وآثاره الأدبية، لأن في "المقابسات" من الأدب، كما في "الامتاع والمؤانسة" من الفلسفة.
صحيح أن التوحيدي لم يفرد كتابا خاصا بالنقد الأدبي، غير أنه مهتم بالقيم الجمالية للنثر والشعر. وقد ترك لنا في كتبه الكثير من النظريات النقدية القيمة المثبوتة هنا وهناك.
فقد نظر الى الشعر واعتبر أن أركانه هي أربعة: "مديح رافع، وهجاء واضع، وتشبيب واقع، وعتاب نافع". وقد رأى في قضية اللفظ والمعنى أنه يساوى بينهما والصلة بينهما وثيقة جدا فلا فرق.
(في الذكرى الألفية لوفاة التوحيدي، الضاد، العدد 1/1996، ص 36-41)
من كتاب وجوه عرفتها لرياض عبد الله حلاق