توفيق الباشا
1924 - 2005
تحضير الأب يوسف طنوس
حياته
ولد توفيق الباشا في بيروت في العام 1924، ودرس النظريات الموسيقية والتأليف وآلة الفيولونسيل في المعهد الموسيقي في الجامعة الاميركية بين عامي 1941 و1944. تابع دراسة التأليف الموسيقي مع الأستاذ براتران روبيار (Bertrand Robillard) حتّى سنة 1949.
تولّى إدارة القسم الموسيقي في إذاعة القدس من رام الله من سنة 1949 لغاية سنة 1951. وتفرّغ بعد ذاك للتأليف الغنائي والموسيقي وقيادة أوركسترا فرقة «باليه الشرق الأوسط». قدّمت الفرقة أعمالها، ومعها قدّم أعماله، على أهم المسارح في العديد من الدول العربية، منها أوبرا القاهرة وبغداد والقدس ودمشق، وصولاً الى بومباي وكلكوتا ونيودلهي في الهند، ما بين سنتي 1952 و 1953. ومن ثمّ تسلّم مسؤولية الإنتاج الموسيقي في إذاعة الشرق الأدنى حتى توقفها عام 1956، على إثر الإستقالة الجماعية منها نتيجة العدوان الثلاثي على قناة السويس.
إنضمّ إلى الأخوين رحباني وفيلمون وهبة، وزكي ناصيف ليشكلوا "عصبة الخمسة" على غرار بعض موسيقيي روسيا من أجل إطلاق الأغنية اللبنانية.
يُعتبر توفيق الباشا من مؤسّسي الليالي اللبنانية في مهرجانات بعلبك الدولية، وعمل فيها كمؤلف موسيقي وكقائد للأوركسترا في سنوات: 1957 و 1959 و 1964 و1974. كما أسّس، في العام 1960 مع بعض زملائه الفنّانين، وبرعاية سعيد فريحة، فرقة "الأنوار" العالمية التي قدّمت حفلاتها في مسارح قبرص، والنمسا (فيينا)، وألمانيا (فرانكفورت، وفيزبادن)، وفرنسا (باريس)، ومصر (القاهرة، والاسكندرية)، والكويت (الكويت)، والأردن (عمّان)، بالإضافة إلى لبنان في مسرح كازينو لبنان وفي بعلبك. وكان فيها مسؤولاً ومؤلفًا موسيقيًا وقائدًا للأوركسترا.
أُوكلت إليه في العام 1961 رئاسة دائرة الموسيقى في إذاعة لبنان. كما انتخب رئيسًا لجمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان بين الأعوام 1969 و1986، وظلّ فيها رئيسًا فخريًا حتّى وفاته. وهو من مؤسّسي المجمع العربي للموسيقى التّابع لجامعة الدول العربية، وعضو فيه منذ تأسيسه عام 1970 ولغاية وفاته.
درّس في المعهد الموسيقي الوطني النظريات الموسيقية والموشحات. كما درّس في كليّة الموسيقى في جامعة الرّوح القدس في الكسليك الموشّحات والموسيقى العربية. سنة 1986 ترأس اللجنة الوطنية للموسيقى التابعة لليونسكو حتى 2000.
وضع ألحاناً لآلاف الأغاني والقصائد لمعظم الشعراء من العصر الجاهلي والعصر العباسي، ومن شعراء لبنان والمشرق العربي، منذ سنة 1951 ولغاية وفاته، أدّاها كبار المطربين في لبنان والوطن العربي، إمّا في حفلاتهم وتسجيلاتهم، وإمّا ضمن برامج إذاعية وتلفزيونية، مثل: "ليالي الأصفهاني في كتاب الأغاني"، "مجالس الطرب عند العرب"، "ليالي شهرزاد"، "إبداع النغم"، "عباقرة الغناء عند العرب"، "أشعب والكندي"، "جحا"، إلى جانب "صبح والمنصور"، و"الإرث" من التراث الأندلسي.
بالإضافة إلى الأغاني والقصائد، وزّع موسيقيًّا العديد من الألحان الفولكلورية والشعبية وألّف العديد من السمفونيات والقصائد السمفونية، منها «الليل» المستوحاة من قصائد سعيد عقل، «فوق البنفسجية» (اللامقامية)، التي نال عنها جائزة المعهد الموسيقي الوطني عام 1969، وسمفونية «بيروت 82» عام 1983، التي صوّر فيها الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وسيمفونية "السلام"، 1985ـ1986، التي عزفتها عام 1988 أوركسترا الفيلهارمونية لمدينة لياج (بلجيكا). كما ألّف "الثلاثية المقامية" لآلة البيانو والأوركسترا الوترية، 2000 ـ 2001. من ناحية أخرى، وضع توفيق الموسيقى التصويرية لخمسة أفلام تسجيلية طويلة. ولم يغب الإنشاد الديني عن باله، فكتب عددًا من الإنشاديات الدينية (الأوراتوريو) أهمّها: «الإنشادية النبوية» من شعر أحمد شوقي سنة 1995، وإنشادية "عظماء الدنيا وعظماء الآخرة" 1996، من الدكتور مصطفى محمود مستندًا إلى تراث الشيخ محيي الدين بن عربي.
أصدر في العام 1998 مجموعة مختارة من أعماله الموسيقية والغنائية الكاملة على 17 أسطوانة. كما أصدر مجموعة كتب، منها: "المختار من الموشحات الأندلسية"، "الإيقاع في الموسيقى العربية"، و "الكمان والأرباع الصوتية" .
أقعده المرض في آخر أيامه، إلاّ أنّه لم ينقطع عن الكتابة والتأليف، بفضل رعاية زوجته (الثانية) الفنانة نهى الهاشم-الباشا له. وقد قرّ عينًا برؤية إبنه عبد الرحمن الباشا، من زوجته الأولى المطربة وداد (بهية وهبي)، يحمل عنه لواء الموسيقى ويرفعه عاليًا في العالم من خلال إبداعه على آلة البيانو وتسجيلاته ومؤلّفاته. توفي في 6/12/2005 عن 81 عامًا، صرف منها أكثر من خمسين سنة في التلحين والتوزيع والبحث وقيادة الأوركسترا والتعليم. ومن أهم الذين غنّوا له: سعاد محمد، نور الهدى ووداد.
توفيق الباشا هو من رعيل الموسيقيين الكبار الذين طبعوا الموسيقى اللبنانية بأسلوبهم ومؤلّفاتهم، لتبقى رائدة ومحافظة على هويّتها العربية المشرقية. أعاد إطلاق غناء الموشّحات من خلال تدوينها وتعليمها وتسجيلها.
نظرًا لأعماله ولإنجازاته الفنية، نال العديد من الأوسمة، أهمّها: من لبنان (ميدالية الاستحقاق اللبناني الفخرية 1975، وسام الاستحقاق اللبناني من رتبة فارس 1997)، ومن مصر (وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى عام 1975)، ومن فرنسا (ميدالية مدينة باريس عام 1961). إلى جانب الوسام المذهّب من جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية عام 1989، وجائزة مؤسسة عبد الهادي الدبس عام 1997، والجائزة التقديرية من المجمع العربي للموسيقى (جامعة الدول العربية) 2002، والجائزة التقديرية من مؤتمرالموسيقى العربية (دار الأوبرا المصرية) 2002.
توفيق الباشا بقلم الدكتور جورج شبلي
ليس الكلام وحده يجري ببعض فقراته مجرى الأمثال، فربّ فاصل لحنيّ كلَمع السّراب، هو أبلغ من الألسنة الفِصاح، يبلغ حيث تقصر الكلمات في الإبانة والدّلالة. وإذا كان هنالك اتّصال قرابة بين الأدب والذّهب، فالمرمر لون الموسيقى حلاوة المَجالس، هذه التي تُنبّه الى أن الجمال موجود.
توفيق الباشا لم يلبس للدهر ثوباً من الصّبر، لكنه كان في الموسيقى مَثَل الأشجار في الإثمار، يملك في الإبداع قلباً ويداً. لقد وردت الموسيقى الى الباشا وحطَبها رَطِب، وانصرفت يقدح نارها. ولما كانت لا يخرج من ضرسها مع غيره إلاّ بنزع نفسها، فهي فوق وتره تلوي عنقها إعجاباً وكأنها في ثروة يشقّ لها لِحاف الطرب.
والطواف في صندوقة إجادات الباشا يترجم عمّا هَوي ذلك الفنّان من حسان الأنماط في الموسيقى، ويعيّن فيها اتجاهاته الذوقية. إن استقصاء أمره في رسالته الموسيقية يكشف أنّه، وبقدر ما كان مؤلّفاً في الموسيقى بقدر ما كان باحثاً مملوءاً بالحميّة لكلّ جديد، فازدهرت معه حركة تجديد موسيقية عربية، إستثمرت إمكانيّات الصوت وسلّم الآلات في جوّ من المهارة الراقية. لقد تعلّم الباشا الألحان وعلّمها، وكان من صنّاعها المُجيدين، وكيّفها لتطابق الذوق وآهات الآذان، فطبع بإبداعاته الكلام الموسيقي الذي عاصره.
إذا نظرنا في الكتابة الموسيقية عند الباشا وجدنا الحرية غالبة عليها، لأنها سلّمت اليه زمامها، فكان له عليها أذُن وعين. إنّ قلم الباشا الموسيقي كان حرّاً، وكان جريئاً، فوشّى الموسيقى بالتصوير الذي لا يتمّ المجلس إلاّ به. والتصوير يهيّئ للمقطوعة مشاهد أخّاذة، ورواجاً تخييلياً يجعل الأذن أحياناً تغار من العين.
توفيق الباشا يحلو ماؤه في الموشّحات جُرعاً، هو الذي وُلِّي الموسيقى ودبّرها برأي وثيق، لا شُغل له معها بغير الإبداع الذي هو المقياس بين مَن يتلمّس أسباب التزويق، وبين مَن يسرد أخبارها بيسر ملموس. فبين الباشا والموشّح قوة أسر، تتحسّسها أنّى سرّحت سمعك في توشيحاته التي تجعلك تأنس بروحها وتسلّم قلبك لوحيها. في مقاطعه ولازماته إنصاف لجيّد الموسيقى ونقيّها، والكثير منهما ممّا فات الأُوَل، فلماذا الإنكار على نتائج خواطره، وهو لم يحظّر في الموشّحات مُباحاً، وما سدّ عليها طريقاً مسلوكاً.
بين الباشا والموسيقى تعاهد وتواثق وتحالف، حتى بذل كلّ واحد منهما الإخلاص لصاحبه في المودّة، وركبا معاً المخاطر. فعنايته توازن فيها من سطر الى سطر، لينطلق الى غرضه منها انطلاق السّهم الى رِميته، وينطق عنها من فيض روحه. إنّ ما بقي لنا من توفيق الباشا الرائد، كافٍ لتعيين مذهبه في أساليب التأليف الموسيقي، هذا المذهب القائم على الإبتكار الذي يدفع الى النشوة، فكأنّ موسيقى توفيق الباشا سُقِيت بجدول من خمر، فقسمت سِكراً بين جلاّسها.
في الموسيقى الأوركيسترالية، كان الباشا كمن انقطع في سفح جبل لا يسمع إلاّ حسّه، فاستوطن الموسيقى لطيب عيشه هناك، فبدت وكأنها لم تعانق رجلاً قبله في زمانها. يشهد له بذلك معبد جوبيتر البعلبكي، هذا الذي لمّا يزل خيال الباشا ينقش في خدود عواميده حتى اليوم. وكذلك مسارح العالم التي تخلّى خشبها عن وقاره، فصفّق له ورقص.
لقد آمن الباشا بأنّ الموسيقى أصل حين تُدرَس درجة التمدّن عند الشعوب، وبأنّ نبراتها من معلِّمي عَمار الحضارات. لذلك، لم تكن الموسيقى معه كأسنان المظلوم، فقد كان من بنّائيها، وخصوصاً في الإنتاج الإذاعي، فوسّع إطارها بإعطائه أبعاداً جديدة دخلت فيها مساهمات الأصول وطعوم التحديث. وقد نشّ هذا التزاوج في جِرار الأغنية اللبنانية وأختها العربية، لا سيّما أنّ الباشا كان شديد الحماس لعباقرة العرب في الأدب والغناء، فأعادت ألحانه الى الحياة أغاني الأصفهاني، وبدائع النغم وليالي شهرزاد. وكذلك ألّف في السمفونيّات ما استوحاه من شعراء محدثين، وابتكر" الأوراتوريو " في الفنّ الإنشادي الروحي، تاركاً في جعبة الموسيقى الصوفيّة مجموعات كوراليّة قالتها الأوركسترات فوق مسارح بلاد الناس.
لم يكن الباشا في الموسيقى كالثّمل الذي دبّ فيه الشراب، بل كالذي بلغ في الشرب حدّ الإمتلاء فهو سكران طافح. وهذا القياديّ العصريّ الذي تَجَمَّع النشاط الموسيقي حول مؤلّفاته ذات الغنى والتنوّع، والذي تأصّلت فيه الأرض بموسيقاها، أدخل الى فهم الموسيقى بُعداً تجاوزياً. إنّها معه توقيف لا اصطلاح، آتاها الله للناس وقرّ قراره بها، فلا نعلم موسيقى من بعدها حدثت، إنما للناس شيء من الإختيار في كيفية التعبير وأساليبه، وهذا ما يشكّل مراحل نهضة الموسيقى التي كان الباشا من أركانها.
إنّ المتاحف الموسيقية التي افتتحها توفيق الباشا، تضمن أنّ نسله في الموسيقى لا يبور.