الأخوان رحباني
عاصي رحباني (1923-1986)
تحضير الأب يوسف طنوس
حياته
شكّل الأخوان رحباني مدرسة في تاريخ الموسيقى العربية عُرفت بالمدرسة الرحبانية. إنّهما عاصي رحباني (1923-1986)، و منصور رحباني (1925- ) الذين عُرفا بـ "الأخوين رحباني". ولدا في بلدة انطلياس في لبنان. والدهما حنّا الياس رحباني، كان يملك مطعمًا على نبع فوّار انطلياس، وكان يعزف على آلة البزق أمام روّاد المطعم. وكان الأخوان عاصي ومنصور يساعدان والدهما في المطعم في أوقات فراغهما، وكانا يستمعان إلى عزفه وإلى أغاني مطربي تلك الأيام خاصّة أم كلثوم، عبد الوهاب وسيد درويش، على الفونوغراف.
إن نشأتهما القروية، وأخبار الضيعة وقصصها التي كانت ترويها لهما جدّتهما لأمّهما، طبعا أغنياتهما ومسرحهما بخصائص الضيعة اللبنانية وتراثها.
لم تكن مرحلة دراستهما منتظمة، فقد درسا في أنطلياس في مدرسة راهبات العائلة المقدسة المارونيات، ومدرسة الأستاذ فريد أبو فاضل، وفي بكفيا في مدرسة الأستاذ كمال مكرزل، والمدرسة اليسوعية لمدة سنة واحدة. ثم عادا بعدها إلى أنطلياس. أحبا الشعر وكتباه، وقرآ، منذ صغرهما، "طاغور" و"ديستيوفسكي" ومسرحيات "شكسبير". وبينما اشترك منصور في مجلة "المكشوف"، أسّس عاصي بعمر الرابعة عشرة مجلّة "الحرشاية"، ليعود منصور ويؤسس مجلّة "الأغاني".
ونظرًا لتدهور الأحوال المادية للعائلة، اضطُر عاصي ومنصور، ولمساعدة والدهما، للعمل إنْ في قطاف الليمون أو في مطعم الفوّار الذي استبدله والدهما بمقهى صغير في منطقة "المنيبيع". كما افتتح مطعمًا في أنطلياس حيث كان يعمل فيه في الشتاء. لهذا أمضت العائلة سبع سنوات متنقلة بين"المنيبيع" في الصيف، وأنطلياس في الشتاء. ساعدت بيئة المنطقة الأخوين رحباني على اختزان الكثير من الذكريات، التي استعملاها فيما بعد في أعمالهما، فكانت طبيعة الضيعة مدرستهما. وهناك ولدت شخصيات "سبع" و"مخّول".
طلبا الإنضمام إلى جوقة التراتيل التي كان يدرّبها الأب بولس الأشقر، فوافق على انضمام منصور فقط، وسمح لعاصي بتعلم الألحان دون المشاركة في الترتيل، نظرًا لعدم تجانس صوته مع الجوقة. ولمّا اكتشف موهبتهما، علّمهما أصول الموسيقى، من نظريات وعلم "الهارموني" وتاريخ الموسيقى الغربية والشرقية. كما تعلّما العزف على البزق لوحدهما، واشترى عاصي كماناً، وصار يعزف عليه بالإضافة إلى متابعة دراسته الموسيقية على يد الأب بولس الأشقر.
شُغفا بالمسرح بعد أن تعرفا إليه في مدرسة فريد أبو فاضل، وفي المدرسة اليسوعية في بكفيّا، فأصبح المسرح هاجساً لديهما، فكان يوسف لويس أبو جودة يكتب لهما خصيصاً مسرحيات باللّغة العاميّة.
أسّسا في صباهما "نادي أنطلياس الثقافي" حيث قدما حفلات ومسرحيات غنائية، بالتعاون مع شبيبة أنطلياس، وكانت باكورة أعمالهما مسرحية "وفاء العرب" التي ألّفاها ولحناها ومثّلا فيها، فلعب عاصي دور "النعمان الثالث" ولعب منصور دور "حنظلة".
إنضمّ عاصي إلى سلك البوليس بعد أن اضطُر لتكبير عمره كي يحقّ له التقدم إلى الوظيفة، ثم فعل منصور نفس الشيء. عمل عاصي شرطي بلدي في أنطلياس، وكان رئيس البلدية آنذاك "وديع الشمالي" محبًا للفن وعازفاً على الكمان، مما شجّع عاصي على الهروب من وظيفته، من وقت لآخر، ليمارس هوايته الموسيقية. أما منصور، فقد التحق بالأمن العام في بيروت، ولكنه كان يخالف موجبات وظيفته، كأخيه عاصي، فيعزفان متنكرين في الحفلات الموسيقية، وما كانا يوفّقين دومًا بإخفاء شخصيتهما الحقيقية.
في سنة 1944 بدآ بتلحين أغنيات قصيرة لا تتجاوز مدتّها دقيقتين أو ثلاث دقائق، وجد فيها مديرا إذاعتي دمشق والشرق الأدنى نمطاً جديداً للأغنية العربية التي كانت تعتمد التطويل والترداد والتطريب. وتعرّفا على إيليا أبو الروس الذي شجّعهما على تقديم امتحان في الإذاعة، فقدّما بعضاً من أعمالهما الخاصة، إلا أن أعضاء اللجنة الفاحصة، باستثناء ميشال خياط، رأوا أن تلك الأغاني تتضمن كلمات شعبية لم تألفها الأغنية العربية ولا اللبنانية، مثل: "ليش"، "هيك"، "جُرد". ولمّا رفض كورس الإذاعة ومطربوها أن يغنّوا أغانيهما، أحضرا لأجل ذلك أختهما "سلوى" وأسمياها "نجوى".
تابعا دراستهما الموسيقية، فدرس عاصي العزف على الكمان في الكونسرفاتوار الوطني على الأستاذ "إدوار جهشان"، وتعلّم وأخوه منصور أصول التأليف الموسيقي على الأستاذ الفرنسي برتران روبيار في الأكاديمية اللبنانية للفنون (ألبا). وانضم عاصي إلى الإذاعة اللبنانية بصفة عازف كمان ومؤلف موسيقي بعدما استقال من سلك الشرطة.
أُعجب بأعمالهما وشكل أغنيتهما الجديدة فؤاد قاسم رئيس مصلحة الإذاعة، فأصدر قراراً يمنع فيه بثّ أية أغنية تتجاوز مدتها الخمس دقائق، مما أدى إلى انحسار تيار الأغنية الطويلة، وتشجيع الأغنية القصيرة. وشجّعهما صبري الشريف ومحمد الغصيني، مديرا إذاعة الشرق الأدنى التي انتقلت من قبرص إلى بيروت لاحقًا، وكذلك أحمد العسة مدير إذاعة دمشق.
بانتقال إذاعة الشرق الأدنى من قبرص إلى بيروت، أخذت أغانيهما، التي كانت تؤديها أختهما "سلوى" حتى لقائهما فيروز، تصل بسرعة إلى آذان المستمعين. ومن بين تلك الأغاني القديمة: "زورق الحب لنا"، "يا ساحر العينين"، "سمراء مها". إلتقى عاصي بفيروز في الإذاعة اللبنانية، كان هو موظفاً فيها، وكانت هي مغنية في كَورسها. عرّفهما ببعضهما البعض حليم الرومي. فبدأ عاصي بكتابة الأغاني لفيروز. واستقال منصور من وظيفته، وبدأ الثلاثي الرحباني.
شكّلا مع فيلمون وهبة، وزكي ناصيف وتوفيق الباشا "عصبة الخمسة" على غرار بعض موسيقيي روسيا. وكان همّهم إطلاق الأغنية البنانية وتركيز هويّتها من خلال تطوير الفولكلور، ولكن كان لكل منهم أسلوبه وفنّه. أخذ الرحبانيان بعض الأغاني الفولكلورية وأعادا توزيعها دون تغيير بالكلام، ثمّ دمجا الألحان الفولكلورية بعضها ببعض مع كلام جديد من تأليفهما. وانتقلا إلى الطرب الشعبي اللبناني مع "عتاب" و"راجعة"، فتبلورت شخصيتهما الموسيقية. وطعّما الموسيقى اللبنانية بالموسيقى الغربية فاستعارا بعض ألحانها ووضعا لها كلامًا وتوزيعًا موسيقيًا جديدًا، واستعملا إيقاعات ال"تانغو" وال"جاز" وال"بوليرو" وال"سلو". إلى جانب ذلك وضعا لونًا لبنانيًا راقصًا مثل: "نحنا والقمر جيران". ولم يهملا الموشحات، فأعادا إحياء قديم ألحانها توزيعًا، ووضعا ألحانًا لأشعارها القديمة والجديدة.
تزوّج عاصي وفيروز سنة 1954، وسافر الثلاثي الرحباني إلى مصر سنة 1955، لمقابلة أحمد سعيد، مدير إذاعة صوت العرب، من أجل اقتراح عمل موسيقي للقضية الفلسطينية بعيدًا عمّا كان سائدًا من نواح وأسف، وأعدّا وقتذاك مغناة "راجعون"، تلاها "سنرجع يومًا" و "زهرة المدائن".
وعندما أدخلت لجنة مهرجانات بعلبك الليالي اللبنانية إلى برنامجها سنة 1957، بعدما كانت مهرجاناتها السابقة تقتصر على الموسيقى الأجنبية، عرض عاصي أن تتقاضى فيروز ليرة لبنانية واحدة، بهدف إقناع اللجنة أن تكون فيروز مطربة تلك الليالي. ولاقت الحفلتان التي أحيتهما فيروز تلك السنة نجاحًا باهرًا.
بعد ذلك، بدأ الرحبانة، ومنذ سنة 1960، بتقديم مسرحياتهم الغنائية في بعلبك وفي مناطق أخرى (مهرجان دمشق السنوي، مهرجانات بيت الدين والأرز، صالات الكابيتول، كازينو لبنان، البيكاديلي)، بدءًا من "موسم العز" بالإشتراك مع صباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين، ثم "البعلبكية" عام 1961، وصولاً إلى "قصيدة حب" سنة 1973. في عام 1964، قدّم الرحابنة "بياع الخواتم" في مهرجانات الأرز، فكانت أوّل مسرحية غنائية بالكامل يقدّمونها، ولاقت نجاحًا منقطع النظير.
في عام 1962، عرض الرحابنة "حكاية الإسوارة" بمناسبة تأسيس محطة تليفزيونية جديدة تابعة لتلفزيون لبنان، فكان أول عرض تلفزيوني لهما، مع أنّهما يفضّلان المسرح على التلفزيون لأسباب عديدة ومتنوعة.
وفي شهر أيلول 1972، وبعد تقديم مسرحية "ناطورة المفاتيح" في بعلبك، وأثناء العمل على الحلقة الرابعة عشرة من مسلسل "من يوم ليوم"، أصيب عاصي بنزيف في الدماغ، فأجريت له عملية جراحية أنقذت حياته ولكن أثّرت على شخصيته وعطائه. وكانت "المحطة"، أوّل عمل للرحابنة بعد تماثل عاصي إلى الشفاء، والتي غنّت فيها فيروز "سألوني الناس" تحية لعاصي.
سنة 1979، أفضت المشاكل في بين عاصي وفيروز إلى انفصالهما، ممّا ترك أثره على المسيرة الرحبانية، وانفرط بذلك عقد "الثالوث الرحباني". وكلا الطرفان أكمل عمله منفردًا. قدّم الأخوان رحباني "المؤامرة مستمرة" سنة 1980، و"الربيع السابع" عام 1984. بينما غنّت فيروز من ألحان ملحّنين آخرين، وأعطت حفلات في لبنان والخارج، بإشراف إبنها الفنان زياد الرحباني .
توزّعت الأعمال المسرحية للأخوين رحباني كالآتي: "أيام الحصاد" (بعلبك،1957)، "عرس في القرية" (بعلبك، 1959)، "موسم العز" (بعلبك، 1960)، "البعلبكية" (بعلبك، 1961)، "جسر القمر" (بعلبك، دمشق، 1962)، "عودة العسكر" (مسرح سينما كابيتول، 1962)، "الليل والقنديل" (كازينو لبنان، دمشق، 1963)، "بياع الخواتم" (الأرز، دمشق، 1964)، "دواليب الهوا" (بعلبك، 1965)، "أيام فخر الدين" (بعلبك، 1966)، "هالة والملك" (البيكاديللي،¬ الأرز،¬ دمشق، 1967)، "جبال الصوان" (بعلبك، 1969)، "يعيش يعيش" (البيكاديللي، 1970)، "صح النوم" (البيكاديللي، دمشق، 1971)، "ناطورة المفاتيح" (بعلبك، 1972)، "ناس من ورق" (البـيكاديللي، جولة في الولايات المتحدة، 1972)، "المحطة" (البيكاديللي، 1973)، "قصيدة حب" (بعلبك، 1973)، "لولو" (البيكاديللي، دمشق، 1974)، "ميس الريم" (البيكاديللي، دمشق، 1975)، "منوعات" (دمشق، عمان، بغداد، القاهرة، 1976)، "بترا" (عمّان، دمشق، 1977)، "بترا" (البيكاديللي، كازينو لبنان، 1978)، "المؤامرة مستمرة" (كازينو لبنان، 1980)، "الربيع السابع" (مسرح جورج الخامس، 1984). بالإضافة إلى ذلك، قدّم الرحبانيان وفيروز لوحات مسرحية ومنوّعات كثيرة خلال رحلات عديدة خارج لبنان على مسارح العالم.
إلى جانب الأفلام الثلاثة التي قدّموها: "بيّاع الخواتم" (1965)، "سفر برلك" (1966)، "بنت الحارس" (1967)، قدّم الرحابنة مئات الحلقات التلفزيونية والإذاعية من برامج ومسلسلات ومنوّعات واسكتشات موزّعة في لبنان والدول العربية بأصوات عشرات المطربين والمطربات، منها الغنائي ومنها الترتيل الديني.
تدهورت صحّة عاصي، وتوفي في 21 شهر حزيران سنة 1986، عن 63 عامًا. وأكمل منصور عطاءه، فقدّم "صيف 840" و"الوصية" و"ملوك الطوائف" و"المتنبي" و"حكم الرعيان" و"سقراط" و"زنوبيا".
تميّز عطاء الرحبانية وفنّهم بالعمل الفنّي المتكامل: الكلمة، اللحن والأداء. ومن الطبيعي، أن الأخوين رحباني لم يصلا إلى ما وصلا إليه، لولا صوت فيروز وحضورها، ولولا الأخوان رحباني لما وصلت فيروز إلى ما وصلت إليه. وشكّل عملهم الفني ظاهرة، تخطّت حدود لبنان والعالم العربي، إلى العالمية. وممّا لا شكّ به أنّ مسرحهم الغنائي ساهم بتطوير الأغنية اللبنانية والعربية. ومن النادر أن يتوافق موسيقيان، ولو أخوان، على العمل الثنائي كما فعل الرحبانيان، ومن النادر أن يُعرف من كتب ومن لحّن ومن وزّع أي عمل لهما، خاصّة أنّهما كانا يوقّعان كلّ الأعمال، حتّى ولو كانت لواحد منهما، باسمهما الذي صار مدرسة ومثالاً: الأخوين رحباني.