مرسيل خليفه
حدّقت في المرآة جيداً هذا الصباح، على غير عادتي، ربما لانني في بيروت. وبقيت اخاطب نفسي لبرهة لا اعرف كم طالت؟ اللحية، منذ متى لم احلقها، خمس عشرة سنة، من عمر الحرب. وانا أتطلّع في المرآة. اجتاحتني ألف ذكرى. نظرت الى عينيّ، يزداد التجّعد حولهما حين اعبس وحين اضحك، وحين استرق النظر الى لحيتي كأنما لا تفقد خلسة وضع الشعرات البيض التي تتكاثر يوما بعد يوم. لم أبد أي انزعاج، بل كوّرت شفتي السفلى علامة اللامبالاة. هل كبرت حقا الى الحد الذي اظهرتني به تلك المرآة، وما شأن الحرب والتهجير والهجرة والغربة والسفر والرحيل الدائم في كل ذلك.
آلاف السنوات الضوئية ابعدتني عن ضيعتي. وضيعتي آخر ما بقي لي من ذلك الشيء المشوّه الذي ما زال يطلق عليه اصطلاحا تسمية الوطن.
آلاف السنوات الضوئية تفصلني عن مراهقة كانت زاخرة بالاحلام. لقد كنت جزءا من تلك الطبيعة، من تلك الريح، من تلك الشمس الريفية الساطعة. من ذلك البحر الواسع، من ذلك العالم الطبيعي. بعد حين فوجئت بالحرب تقتلعني من ذلك المكان الجميل. وتبعدني عن تلك الوجوه التي أحببت. وتنتزعني من فراشي، من حضن والدي الطيّب. وكنت ما زال طرّياً. حملت عودي ورحلت بعيدا. وأدرت ظهري للشاطىء، مبحرا على متن السفينة التائهة بلا اسماء او اصدقاء او اقارب، بلا سجل عدلي او اخراج قيد او راية.
اذكر في منتصف السبعينات حين عاد ذلك الشاب المتحمس والمثالي الاخرق من هجرته الاولى، عاد الى بيروت كي يغير العالم. وبيروت آنذاك كانت تغلي بالاحلام والافكار الكبيرة، وكانت الكتب والمعارض والمقاهي. وبدأت "والميادين" نقيم امسياتنا في كل احياء وساحات المدينة، من حفلة اولى في صالة سينما الكليمنصو جمعت 400 شخص الى ملعب الصفا الذي اتسع لاكثر من 40 الف متفرج.
ان هؤلاء كما في سائر المناطق اللبنانية استمعوا الى هذا الغناء بمستوى اعمق من المستوى السياسي الشكلي. انه المستوى السياسي الحقيقي المعبر عن وجدان تجتمع فيه وحوله الامة رغم ما يفرقها من شكليات ونزعات.
وتكرّ السنين بعد الـ 76، وجولات فنية متواصلة الى مشرق الارض ومغربها. جولات فنية من نوع جديد تماما. ان من ناحية هدفها او من ناحية طريقة تنظيهما. كنا واضحين في اعلان حربنا على القيود المكبلة للانسان، قيود القهر في السياسة وفي الثقافة، وفي الفن. عشنا مع الناس، تقاسمنا واياهم الحياة، ناقشنا معهم الهموم الوطنية العميقة، تنقلاتنا تمت احيانا في الشاحنات فوق الصناديق والحقائب. وما كانت حفلاتنا الا تتويجا لهذه العلاقة التي ترسخت عن قرب في تفاصيل الحياة المشتركة.
نحاول ان نحّول الحرية من مشروع غير متحقق الى واقع معيش بالفعل. موسيقى تسير مع الشعب ومع شعوب العالم في مظاهرة كبيرة ونهائية باتجاه نصب الحرية.
ايقاعات الاحياء العتيقة والذاكرة الشعبية. ايقاعات تتعانق لتلغي الحدود بين المحلي والعربي والعالمي وما بين الانسان والانسان.
نسقط الكلمات الكبيرة ونحيي الاوتار. لقد تركنا الكلام الى العاطلين عن انتاج الفرح، وذهبنا رأسا الى موسيقية الشعر.
اذكر ان الوقت كان ظهرا حين بدأ هدير الطائرات. وعلا دوي القصف:
4 حزيران 1982.
بيروت التي كانت، كلنا جميعا، لم نستطع جميعا ان ندافع عنها. ان استفراد بيروت بالذات، كان واحدا من اشكال التواطؤ على بيروت، للتخلّص مما كانت تشكلّه "تجربة بيروت- الكاشفة". وهذا العجز اذي كان وضوحه فاقعا خارج "تجربة بيروت" كان عجزا عاما الى حد بعيد، والصمت العربي كان شبه شامل، ومريع!... وبدأنا نواجه آثار الاجتياح والاحتلال والقمع وهي آثار تدميرية، سعت الى شلّ ارادة الناس والدفع باتجاه اليأس والاستسلام. ومنذ ذلك اليوم، لم تعد بيروت أبدا كما كانت. صحيح ان اهل المدينة قاوموا كما في القاصئد. لكن الكلمة الاخيرة كانت للطغاة. واغلقت المقاهي بالتدريج. اغلقت المعارض واغتيلت القصائد، واغلقت المدينة وانفرطت على صورة الزمن العربي الى قرى ومضارب وعشائر وخنادق دائمة الانتظار.
فجأة بدت الاشياء على حقيقتها السافرة. وبدأ للاصدقاء يسافرون. وآخرون يتقوقعون في المنفى الداخلي. ويعاودني من جديد العذاب الذي عانيته في الـ 76 عندما انسلخت قسريا عن ضيعتي، وتبهدلت كالذين تبهدلوا.
ثم اختار المنفى العربي والذي هو في العمق ابتعاد ، مؤقت عن الوطن الصغير، لقد كنت اشعر انني غير قادر على العيش خارج الوطن الكبير، ذلك لان ارتباطي كان بشكل ما صوفيا. والحال ان الاخطاء التي كان يرتكبها الساسة في وطني الصغير كانت تقودني الى الاحساس بالدمار والفجيعة. ولهذا كان السفر الذي اعترته هربا ايجابيا هدفه اعطاء الذات فسحة للتفكير. وفي ذهني ان يكون منفاي محددا بسنة، وكان هذا افضل من الافتراق كليا عن الوطن. انتهت السنة. عدت بعدها الى الوطن لاصطدام بالحروب الصغيرة والكبيرة "وبالسلطات". كنت مليئا بالغضب والاسئلة وتلك "السلطات" ملئية برفض النقد. وكان دائما من اجل لمّ الصفوف، مطلوب منك الغاء ذاتك. فكرك. فيما كانت "السلطات" ما زالت تصدر الاوامر وتغيّب النقد وتتصرف بانفتاح كاذب وكأنه لم تحصل ماساة. وبدأ المنفى الاجباري خارج حدود الوطن الكبير. بانتشار المنفيين الكثر في جهات الدنيا الاربع. ليس زمنهم بالهين. ولا تجربتهم بالمريحة. كل شيء يتهددهم بالتعب، وكثير منهم يتعبون. يدحر الواحد منهم الاثر السلبي للحنين، يحوله الى قوة ايجابية مبدعة، يتقدم المنفي في حقيقته المجروحة لكن المشعة: هذا جرحي، ضمانتي الوحيدة ضد الاحتواء. مكافأتي الكبرى الوحيدة. وفي المنفى يخضع المرء لاسئلة الداخل، يواجه نفسه بشكل حاد، ربما اكثر صدقا، لان هذه المواجهة، تتم في ظل تشتت الجماعة وغيابها وتبدل طابع معركتها. هذه المواجهة ليست خاصة بالمبدعين، اذ ان الغالبية تقف في مواجهة ذاتها ومصيرها لوحدها. واعتقد ان هذا يفسر سعة الاقبال على الخيارات الشخصية في المنفى . بينما يبدو الفعل السياسي خجلا عابرا جدا.
مواجهة صاخبة بين الثائر المثالي المتطرف والعنيف، الذي لا يقبل بالمهادنة، او التنازل عن ذرة من مبادئه واهدافه. وبين مبدع، متعب، متشائم، نبيل، هادىء، واقعي. الذي قد يشاطر الثائر عدالة انحيازه. لكنه يعرف انها قضية خاسرة، ومسيرة مستحيلة غير مجدية. فسيوف الشعب ستوجه ضد الشعب في النهاية.
خلال السنوات الماضية، رأيت بكارة الوعي الاول تتلوث بأدران الواقع. رأيت اوراق التوت تتساقط عن جسد العالم. الابطال يتحولون الى تجّار ومهرجين. انياب الذئاب تنبت في افواه النعاج. ان كلامي اليوم لم يعد يشبه الجمل العذبة التي كانت تنضح يقينا وتترقرق تفاؤلا بالمستقبل. يشيخ المرء حقا حين يفقد كل اوهامه، فكرت في ذلك وانا أتحسس اول تجاعيد تحت عيوني.
يشيخ المرء حقا حين يبرد فجأة، فيلتفت حوله ولا يجد احدا. يبحث عن الوطن، فيفهم انه غياب، يسيجه الغياب.
الوطن هذا العحجز الذي يشمل مفاصلي. الوطن قصائد واغنيات وذكرى اليوم مهشمة.
ان الحرب حرقت من عمرنا خمس عشرة سنة. وحين خرجت اليوم الى الشارع آتيااليكم، لفحتني نسمة ربيعية ماكرة هيجت مشاعري، تذكرت انني لا استطيع الامتناع عن الحلم بوطن حقيقي، حين تتبدل الفصول والامكنة.
مرسيل خليفه
مرسيل خليفة - الميادين
ولد مرسيل خليفة في عمشيت "بلدة في جبل لبنان" سنة 1950.
درس الموسيقى في المعهد الموسيقي الوطني في بيروت.
تخرج بشهادة إنهاء دروس "دبلوم آلة العود" في المعهد المذكور.
درس الموسيقى في المعهد الموسيقي الوطني في بيروت وفي عدة مدارس وجامعات رسمية وخاصة في لبنان من سنة 1972 حتى سنة 1975.
أنشأ سنة 1972 في بلدته فرقة موسيقية غنائية اهتمت بالتراث الموسيقي الغنائي العربي واقامت عدة احتفالات في المدن والقرى اللبنانية.
سنة 1976 أسس فرقة الميادين مستفيدا من التجربة السابقة للفرقة الموسيقية الغنائية، الى ان إطار عملها كان أوسع وأشمل.
الحفـلات:
قدّم مرسيل خليفة عزفاً منفرداً على آلة العود في كل من فرنسا، بلجيكا، ايطاليا، الولايات المتحدة الأميركية، وكندا بين سنة 1979 وسنة 1975.
وفي لبنات قام مرسيل خليفة والميادين بعدة جولات فنية شملت معظم المناطق اللبنانية وفي الخارج شارك خليفة في الميادين في:
- مهرجان الانسانية L’humanité في باريس سنة (1976-1979- 1982).
- مهرجان الأغنية في برلين سنة (1976-1987).
- مهرجان الأغنية في تشيكوسلوفاكيا سنة(1987).
- مهرجان الوحدة L’unité في الجزائر سنة (1977-1978-1979-1982-1984).
- مهرجان الشبيبة العالمي في كوبا سنة (1978).
- مهرجان اول ايار في اليمن الجنوبية سنة (1979).
- مهرجان التضامن مع الشعب اللبناني – باريس سنة (1980).
- مهرجان قرطاج الدولي وسائر المهرجانات الصيفية في تونس سنة(1980-1988-1990).
- مهرجان الشبيبة اليمنية عدن سنة (1981).
- مهرجان الأغنية في بلغاريا سنة (1981).
- دعوة جمعية الخريجة العرب في أميركا هيوستن سنة (1981).
- جولة فنية في الولايات المتحدة الأميركية وكندا سنة (1981).
- مهرجان تمفاد الدولي - الجزائر سنة (1983).
- مهرجان التضامن مع الشعب الفلسطيني – الأونيسكو – باريس - سنة (1983).
- جولة فنية في دولة الأمارات العربية المتحدة سنة (1984-1988).
- مهرجان الأغنية الوطنية الأول في بيجاية – الجزائر سنة (1984).
- دعوة وزارة الخارجية الفرنسية باريس سنة (1985).
- مهرجان الوطني الأول للشباب الجزائري سنة (1985).
- مهرجان 5 جيولية – الجزائر سنة (1985).
- مهرجان الشباب العالمي موسكو (1985).
- دعوة جمعية المؤلفين الموسيقيين لجمهوريات الاتحاد السوفياتي سنة (1985).
- جولة فنية في الولايات المتحدة الأميركية وكندا. فنزويلا وكولومبيا أواخر سنة (1985) ومطلع سنة (1986).
- جولة فنية في أستراليا (1986).
- دعوة المؤتمر السابع للمؤلفين الموسيقيين لجمهوريات الاتحاد السوفياتي سنة (1986).
- مهرجان الصيف العالمي – كيبك – كندا سنة 1987.
- جولة فنية في كندا - الولايات المتحدة (1987).
- جولة فنية في ساحل العاج سنة(1987).
- مهرجان الشباب في تونس سنة (1988).
- دعوة المهرجان العالمي الثالث للموسيقى. موسكو، لينيغراد سنة (1988).
- جولة فنية في الجماهيرية العربية الليبية (1988- 1989 -1990).
- جولة فنية في دولة الكويت (1988 – 1989).
- دعوة مؤسسة ردود الثقافية. بركلي – كاليفورنيا سنة 1990.
- مهرجان الحرية والرأي في تونس (1990).
- المؤتمر العاشر لجمعية مكافحة التمييز العنصري A.D.C. واشنطن سنة 1990.
- جولة فنية في المغرب سنة 1990.
- جولة فنية في الولايات الأمريكية سنة 2007
نال الجوائز التالية:
- جائزة المجمع الموسيقى العربي عن سماعي بياتي تونس (1974).
- شهادة تقدير من مهرجان الفولكلور الأميركي (1975).
- شهادة مواطن شرف لمدينة الباسو في ولاية تكساس (1975).
- شهادة تقدير من لجنة الذكرى المئوية الثانية للثورة الأميريكة هيوستن (1975).
- شهادة مواطن شرف لمدينة هيوستن (1975).
- شهادة تقدير من مهرجان الشبيبة العالمي في هافانا – كوريا (1978).
- شهادة شرف من مدينة بليدا –الجزائر (1978 – 1979).
- شهادة تقدير سوكولوف – تشيكوسلوفاكيا (1978).
- وسام الاستحقاق الثقافي – تونس (1980).
- ميدالية التضامن – اليمن الجنوبية (1981).
- شهادة تقدير – صوفيا – بلغاريا (1981).
- وسام القدس – الجبهة الديمقراطية – فلسطين (1981).
- درع الجبهة الشعبية – فلسطين (1981).
- تكريم وزارة السياحة اللبنانية (1981).
- تكريم المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية (1981).
- شهادة تقدير جمعية الخريجين العرب مع أميركا – هيوستن (1981).
- شهادة تقدير من المركز العربي للخدمات الاجتماعية والاقتصادية– ديترويت (1982).
- شهادة تقدير من اللجنة العربية سنسيناتي أوهايو (1982).
- شهادة تقدير من الجالية العربية في الولايات المتحدة وكندا واشنطن (1982).
- درع الخنجر المذهب – الأمارات العربية المتحدة (1984).
- تكريم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي (1984).
- وسام الاستحقاق الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية (1984).
- وسام الشباب الجزائري – وزارة الشباب الجزائرية (1984).
- وسام الالتزام – الكفاءة – النزاهة – الجزائر (1984).
- شهادة تقدير من رابطة الوطن الثقافية – الفنزويلية – ماركيبو (1981).
- شهادة تقدير من اتحاد طلبة جامعة ماراكيبو – فنزويلا (1986).
- مشعل الثقافة من النادي الثقافي اللبناني – السترالي-سيدني (1986).
- شهادة تقدير بلدية بوسطن – الولايات المنحدة (1986).
- شهادة تقدير بلدية لوس انجلوس – الولايات المتحدة (1986).
- ميدالية العاج من الجامعة الثقافية اللبنانية في العالم – أبيدجان (1987).
- درع الثقافة الأمارات العربية المتحدة (1988).
- تكريم جمعية مكافحة التمييز العنصري A.D.C واشنطن (1990).
المؤلفات:
شارك خليفة في وضع موسيقى لاستعراض فرقة كركلا للرقص:
- عجائب الغرائب (1974).
- الخيام السود (1978).
- طلقة نور (1980).
- ترويض النمرة (1981).
- أصداء مختارات (1985).
- حلم ليلة صيف (1991).
- موسيقى أوبريت مرق الصيف. مهرجان جبيل السياحي (1971).
- موسيقة أغاني لأفلام تسجيلية:
- كمال جنبلاط (1976).
- الشهيد (1977).
- كلنا للوطن (1978) إخراج : مارون بغدادي.
- همسات (1979).
- معروف سعد (1979) إخراج: صبحي سيف الدين.
- حادثة النصف متر – روائي – 1981. إخراج: سمير ذكرى.
أشرطة:
- وعود من العاصفة (1976)
- أغاني المطر (1977)
- من اين أدخل في الوطن (1978)
- أعراس (1979)
- عالحدود (1979)
- عالأرض يا حكم (1980)
- فرح (1981)
- الجسر (1983)
- مختارات 3 أسطوانات (1984)
- يا محلا نورها (1984)
- غنائية احمد العربي (1985)
- الله ينجينا من الآت (1986)
- سلام عليك (1988)
- تصبحون على وطن (1990)
تحت الطبع:
- الجسد
- خليني غنيلك
- انا والآرض
- وغنائية للأطفال.
كتب:
- السماع: مجموعة تآليف موسيقية للآلات العربية، 6 أجزاء لدراسة آلة العود.
لعّل أغنية مرسيل خليفة هي إحدى الاشارات القليلة الى قدرة الروح فينا الان على النهوض. فعندما كنا نستثني التعبير الثقافي من شمولية ما تعرض له الوقت العربي من انهيار عام، كنا ندافع عن أمل شخصي شخصي في حماية منطقة من الروح يصعب اجتياحها بالدبابة او بالعزلة. لقد أغلق القلب حتى صرنا ندهش من تحمل عصفور سماء. وسط هذا الخراب كانت أغنية مرسيل خليفة تنتشل القلب والأجنحة من الركام، كانت قوتها الهشة هي قوة الحياة في حصار السؤال والجواب. فيها وجدنا قدرة المأخوذين الى الموت على الغناء، وعلى ابداع مستوى للواقع نمتلك فيه حرية افتقدناها فيما سبق من كلام وإيقاع. البسيط ينفجر منا لتفكيك المعقد في الوعي والعاطفة. والواقع، حين يغني أحد سمتوياته بهذه البساطة. يفتح نافذة للرجاء. في اغنية مرسيل خليفة خبز للكلام، وشيء واضح من جدوى. ومن جمال ينفع. كنت – على سبيل المثال – اعلن لأمي الحب من زنزانة، ولكن لم تدرك هي ولا انا أدركت فاعلية هذا الاعتراف الى ان فضحت أغنية مرسيل هذا الحب ومنحته على ما هو أوسع من علاقة شخصية ومن لحظة سجن. وهكذا ردم مرسيل خليفة الهوة التي وسعها الشعراء بين القصيدة والأغنية، وأعاد الى العاصفة المغيبة حضورها المنقذ للمصالحة بين الشعر الذي مجّد ابتعاده عن الناس فانصرفوا عنه. وهكذا طور الشعر بالناس. ومعه صار الشارع يغني، ولم يعد الكلام في حاجة الى منبر، كما لا يحتاج الخبز الى مكبر صوت.
الشاعر محمود درويش
كلمة سر صغيرة لا يخفيها مرسيل خليفة عن شهود قضيته. فحينما أفلت هذا الفنان من سربه المسجون في الموسيقى السائدة، لم ينس ان يصطحب معه مفردات لغته المألوفة وذاكرته ليقول من خلالها لغة طازجة وغير مألوفة ومبتكرة. وحينما غادر هذا الفنان حقله الطحلبي، بحثا عن البستان الواسع والوطن الأوسع، لم ينس في بحثه ان يستند الى جذوره الضاربة الى جذروه الضاربة في ارضه خشية ان يخونه الثمر في موسم القطاف.
أما مفردات اللغة الموسيقية التي اصطحبها معه مرسيل خليفة فقد وظفها لبناء إحساس عام بتصاعد عالم صوتي متميز يحاول إيصال مضمون فكري ووعي بعلاقات العالم حادين. وأما الجذور التي تضرب في ما قد يسمى بـ "الطرب" و "الحزن الشرقي" فقد انبنت صلة حية بالأشياء والعالم والرموز، وخلقت حالة تعاطف إنساني معها، وذلك عبر عقلنة الطرب وتحويله الى حركة داخلية.
كلمة السر الصغيرة التي يحتاج ان يتابدلها مرسيل خليفة وشهود قضيته هي - في أحد وجوهها – طموحه الحقيقي الى ان يخترق الذوق الموسيقي السائد والأغنية السائدة من الداخل ومن ثم وهو يشتغل على ان تصبح قضية الوطن خارج الأناشيد والموسيقى العسكرية، قضية وجدانية بسيطة يومية، تمتزج بأرض بعينها وتقدم بعينه، مثلما هي حكاية الحبيبة والبيت والطمأنينة والوطن على اي حال يشغل من وجدان مرسيل مساحته الأوسع، وبهذا المعنى يتأكد المضمون المتقدم البسيط الذي يريد إيصاله الى وجدان الناس. وبهذا المعنى يريد مرسيل من الأغنية ان تكون وسيلة اعتناء روحي ومصدر احتفال وفرح إنسانيين بالعالم.
نزار مروة ناقد موسيقي
طاقة من الذوق والجمال، تفجرت أشكالا جمالية ونغمات...أعادت الينا صيغة حضارية، أروع ما تغنى به أمس تاريخنا المجيد.
انه مرسيل خليفة، التجربة المتصاعدة. الأسلوب الفني المميز. بل الهوية الهدية للأجيال الطالعة.
انه الزائد الجمالي على موروثنا الموسيقى، أحيا نغمات الماضي، وحرك إيقاع الأمس، وازاح بحركة فنية معاصرة الستار عن عسر موسيقانا الشرقية.
خلق تفاعله الخاص مع فرقة كركلا اللبنانية، اسلوب "الباليه العربي الشرقي"، فكان تنافساً حضارياً، واعلاماً راقياً، حاز إعجاب الجماهير، واشهر نقاد العالم، عبر تجوال الفرقة على اكبر المسارح العالمية. فالراقص في الفرقة فرح وطرب لنغمات مرسيل، مجنح الأحاسيس، مفعم بالنشوة تنقله الى عالم مسحور، فاذا الحركة الجسدية تعبير بصري للحركة الموسيقية، ويعيش الجمهور روعة اللقاء بفرح بصري – سمعي.
حركة معاصرة هو، وعودة الى الأصالة. هوية آتية من الينابيع، ورحلة لاكتشاف الذات.
كان إبداع مرسيل الأول إقلاعاً نحو مارقي المجد، والفن الراقص في مسرحية "غرائب العجائب وعجائب الغرائب" عام 1974.
وتميز مع "الخيام السود" بتقنية أعطته دفعاً جديداً للرقص التقليدي والموسيقى التقليدية.
وأما في الباليه الثالث "طلقة النور" فهو الرؤيا الموسيقية الجمالية الشاملة، والأسلوب الأنيق المميز.
وأخيراً، عام 1982، "مع حكاية كل زمان" (او ترويض الشرسة لشكسبير)، كان مرسيل خرقاً جديداً لكل ما سبق: فتنافى الأسلوب وتبلورت الموهبة. لقد وصلتنا مسيرة مرسيل خليفة - بدأ من سطوعه في أعماله الأولى وصولاً الى غنائية احمد العربي - الى مفهوم ناضج وتوازن ذي حساسية مرهفة فكان الانجاز... ورحلة التميز الفني، وعلامة فارقة على طريق التحول نحو موسيقى تفاخر بها العالم!
ان حسّ مرسيل المضيء الشفاف، وفهمه للموسيقى، ورفضه الاتكال على الموروث او الجاهز، وتجسيد ذاته للعطاء، جعل منه رائداً لبنانياً عربياً، في الموسيقى الشرقية الحميمة التي طالما افتقرت الى الموسيقيين وقاعدة لنهضة مسيرتنا الثقافية العربية.
عبد الحليم كركلا كوريغراف