سميرة توفيق بقلم الدكتور جورج شبلي
مَثَل الجَمال كمَثَل النَّور الوهّاج، لا يَثبت في مواجهته إلاّ أصحّاء الأَبصار. من هنا، لا يَحسَب قومٌ جُهّال أننا نرتاب في عمى بصائرهم، حين نراهم يستكثرون أن يُشغَل المُبدِعون بدرس أسرار الجَمال وفُنونه.
سميرة توفيق الوجه الوضّاح والأغنية الفَرِحَة، كانت في وقتها أكبر من أن تُقَدَّر. فما ظنُّك بواحدةٍ من روّاد الغناء "العاطفي "، لو ضاعت لوحاتها لَفقدت مكتبة المَشاعر جزءاً عظيماً من ثروتها الفنيّة. فهذه " البدَويّة " الرَّاقية، أنتجَت فنّاً واضح الرّسوم، وكانت تفرش لصوتها في سامعيها طولَه، بحيث يمكن الحُكم بأنّ المُلتمِسين كانوا يقصدون إليه قصداً. أمّا أسلوبها الذي كانت تَحيكه متعةً للسّامِرين، فكان طريقاً غيرَ ضيِّق، أثقلَت أوتادَه وملأَت أطايبه، ليكون أَولجَ في قلوبهم. وهنا، لا بُدَّ من الإشارة الى أنّ النَّمط البَدويّ في الأغنية الشرقية كثير الذُّيوع، وليس مقصوراً على واحد دون واحد، أو وَقفاً على لسان دون لسان، إنّه مَقسوم على كلّ الألسنة ولكن بِتَفاوُت، فلا يستطيع بلوغَ طبقته العالية إلاّ الأَقدرُ على الإجادة صفاءً ودقّةً، ومن دون إخلالٍ أو التواء. وهل أَقدَرُ من سميرة في تهليلها لمصباح الموهبة، ترى على نُوره سبيلها في صعودها مراقيَ "المُولَيّات".
سميرة توفيق المُتأَنِّقة التي تَجتاب بأدائها الجوَّ فالجوّ، هي ليلة فرح وأنس في سهرات الغناء، ولكن دونما هَفوة. ففي حين مال الأكثرون الى الصَّراحة العابِثة، استأثرت هي بالحَظوة لدى الحشمة والوقار. وعندما تَرَخَّص الفنّ واتَّسعت داره الى فساد الذَّوق، تنسَّكَت سميرة لكي لا يذهب شَطر بهائها او تُحمَل على أن تصعرَ خدَّها، أو أن تَخرج عن أنفاس النُّبل. والتنسّك هنا ليس يقظةً للأثَرة، أو عُجباً كبريائيّاً عن مذاقات طُعوم المَغنى، هذه التي امتدَّت إليها شهوات الآكلين، إنّما هو العطفُ على ساعات العذوبة وأيّام اللّدونة، كي لا تُنسيناها أزماتُ الخشونة وعصرُ الهُبوط. فالأكثرون من حديثي "الأكل" في الفنّ، ما اتَّسعت دُورهم وورمت أنوفهم إلاّ على أنقاض المواهب ورداءة ذَوق الجيل.
قدّمت سميرة توفيق لأهل عصرها ولمتذوِّقي الأغنية في الصّورة والأَبعاد على اختلاف الأجيال، غذاء للمشاعر والأَذواق، وصُوَراً مختلفة للقرائح. فهذه المَليحة الأوصاف والفاترة اللّواحظ، كانت بهجةَ آذان السّامعين وعيون النَّاظرين، يحسبون شَدوَها دَرَّ السَّحاب أو أَصفى قَطراً، وحضورَها فَضفاضَ الجَمال أو أَوفى قَدراً. ذلك لأنها كانت تبعث الأنس الى النّفوس حُلواً عذباً، بما تُشارف من ألوان الأغنية الوجدانية، والتي كانت إليها أَشوَق. أمّا أَظهَرُ الدلائل على كِفاية سميرة، فاقتصادُ جمهورها بالسّكون وبالبرودة، وإسرافُهم بالتأثّر بها اندماجاً حتى قبل أن تبدأ، وكأنّ قلوبهم التي يستفزُّها حبُّها تنبضُ لها "يا هَلا بالضّيف ".
النَّقد المُتَفَلِّت المُتَحامِلُ الى أَقدَرِ فنَّانينا ومُفكِّرينا، وبينهم سميرة توفيق، هو أَسرَعُ من الماء الى الحُدور. والسَّبب يعود الى مَن كانت لهم قوةٌ صاخبة في هذا النَّقد، وهم الى الزَّخرفة الفارغة والأزمة العقلية أَقرَب، شُغِلوا بالتَّنغيص والتَّغصيص، ولم يرتابوا في لعنة الطّارئين مُتَّبِعي كلّ قبيح في الفنون، لهذا لن نرضى لهم ثواب العاجِل ولا ثواب الآجِل. لكنّ سميرة توفيق، والتي لا نُطالبُ بأن تُصيب في كلّ ما غنَّت، فهذه مُغالاةٌ عسيرة، قد أسدَت المعروف الى بعض مَن عاصرها من سلائل الفنّانين، بما طُبع بها من سموّ الرّوح. وكانت من المروءة والشَّهامة بحيث لم تنقض يوماً ميثاقاً، فانتصر بها الخلق النّبيل.
كانت سميرة توفيق في نفحات غنائها المُكَسَّب وجداناً، من البراعة الطَّبعيّة التي لا تقع لغير الموهوبين، بحيث لم يكن يُخشى إذا زُفَّت الى الفنّ أن تُطَلَّق ليومها. فهذه التي لوَّنت بداياتها بالغناء لسعاد محمّد وليلى مراد، والتي أَسندَ الكبارُ إليها من ألحانهم أَعذَبَها، ليس غريباً أن تكون موهبتها مستوليةً على أدائها، وأن تكون مطبوعةً على الإبداع، تُطلِع صُوَر الغناء في أجمل هيئاتها وأَروَق لباسها، كما يُنظَمُ العقدُ من حبَّات الجُمان. من هنا، مَلكت سميرة توفيق قلب الغناء ولَو في خَفَر، وكانت من أَضبطِ الفنّانين تدبيراً في ما تتولاّه من حُسن الرَّونق، فلم تعجز عن غَزو النّفوس والإستيلاء على القلوب.
نظمت سميرة توفيق من حلاوة المَغنى ما بقي بعد تنسّكها، لأنّ ما نظمته لم يشوِّه خلقة قلوبنا. فأغنياتها روضٌ مَمطور، وبَوارق في ذهن الفنّ، وهَزٌّ لأعطاف التَّذَوُّق. ولو لم يكن لنا أن نظفرَ برجوع شباب، غير أننا نقول لسميرة: ليتَ تَعودُنا "أيّام اللّولو".