الأخَوان فليفل بقلم الدكتور جورج شبلي
يمكن للتَّركة أن يبدّدها المستهترون إذا مالوا الى بريق الدنيا، وتُحكى عنهم حكايات ينتهي أكثرها في لوم أو سكوت في قفص فارغ. لكنّ التّركة الفنيّة وهي أنفَس الذخائر، تلتقطها الذاكرة كلؤلؤ يُلقَط بالعقيق، تحبسها ليس لِذَنْب إنّما لِحبّ.
الأَخوان فليفل من أُلاّف الموسيقى، صيغا من لَثغتها التي تكون أحياناً أملَح من النّطق الصحيح وأبعد منه مَرمى. لقد وفّر القَدر لهما زيارتها فأُسعدا عن طيب نفس ولاحظاها بالعناية، فالموسيقى نزهةٌ فوق صهوة ورقصةُ سيف في امتداد الفرح، أو هي مصنع لفنّ يرتبط بمصير الإنسان الأزلي. وفيما تنضب منابع الإبتكار ولا يهدر جريها إلاّ بِخَفر، فتح الأَخَوان فليفل لوازم الألحان لتدخل معهما الموسيقى، كما هي، في مجال الحضارات السّماعية.
لقد أخمد الأخَوان نار الإشتياق الى النّشيد عندما ألهبا أنفاسه، وقد اتّصل بهما خبره فلم يجهلا مواقع النِّعَم فيه. والغيرة على النشيد فطرية، لكنّ الإستهداء إليه لم يكن من الكثرة بحيث يجده الراغب أنّى شاء، وإنما كان ممّا يدّخره المُترَفون بالموهبة. أما استهداء الأخوين فليفل فهو حال الدّواة مع المَداد، وحال الإفهام مع الأقلام، ما استماحا خزائنه ليكون في غلّتهما ظمأ، فقد أعطيا النشيد ما يستوجبه مقامه من جهد ووقت. وإذا كان بعض النشيد يعسر الإفتنان في تلوينه عند مَن حُرِست بصيرته الإبداعية وتقوّض عنده مجلس الإلهام، فقد أضرم الإبداع محاسن النشيد في الأخَوين فرصّعا بها يواقيت الموسيقى.
تتوجّه موسيقى الأَخَوين الى الإحساس، وقد حوفظ على أشكاله بأمانة، وهي ميزة تطبع بعمق تآليفهما. والإحساس معهما متّشح بإزار الوطن، وكأنّ "الفخر في بلادنا" تهيّأ في جبلتهما حبّاً غير شحيح، والحبّ إذا ما اعترى القلب فليس يزول. والوطنية في خطابهما الّلحني لا يتعب معها حسّ الحماسة والثورة، كالسيف الذي لم يتعب له كفّ ضارب، والحماسة مشكولة على خصر كلّ جملة، ففي كلّ جملة من أنفاس الحماسة نَفَس، ومن مخالبها مخلب. وللحماسة سلطان أفعلُ من السّحر، فإنّ ترداد الأناشيد الحماسية يؤجج الوعي الوطني أكثر من ألف محاضرة، من هنا ينبغي تكليف أناشيد فليفل مهمة تدريس التربية الوطنية في الأجيال، ليثبت عندها مفهوم الإنتماء، ولتنتمي كلّها الى ذريّة الولاء.
هنالك طول عشرة بين الأَخوين والإتقان، أتى ذلك في وفاق بين الكلام والغناء، وبين الشّعر والنغمة، فهما لا يُدخلان اللحن إلاّ لدعم الكلمة وتوضيحها وتسجيلها. وكأنّهما يقصدان الى إستطابة بين رُكنَي الإنشاد، فلا يحمّلان واحدهما أثقال الآخر، لذلك هما دوماً في إلفة لا يشوبها تنافر أو شقاق. فلباس النغمة على قياس جسد الكلمة، من دون التّشاغل بالتطويل أو العجلة، فالأهميّة للوقع. من هنا، فالطبعيّة معهما أفتن من التزويق، والمألوف أخصب من الصناعة، والسهل أفعل من المعقّد.
أناشيد الأَخوين فليفل تحفات بهيّة كالعلامة تقرع باب الزمن، وخلفه أسوأ ما اقترفته الحروب والإنتدابات التي حرمت بلادنا حلوى العيش. في ظلّ ذلك الزمان حيث اشتدّت المكاره، كان اقتحام الأَخوين ميدان الأناشيد الثورية، كنشيد " موطني " الذي التصق به الخلود، كالجود الذي يأتي من حيث لا يُرتَقب، وفي الشدّة كحل نرى به ما لا نراه بالنعمة. لم يكن الأَخوان بمعزل عن التأثّر بالمارشات العسكرية التي سادت في العصر، عثمانية أو فرنسية، وكانا يحلمان بتأسيس فرقة تنادي الفرح في الطرقات وتزرع الوطن في النفوس. ولم يتبدّد الحلم إذ صمدت قوة قلب صاحبيه على ما ينويانه، فصافحت يمناهما الوطن " بفرقة موسيقى الأفراح الوطنية " التي جابت الناس فجابت إليهم الأمل وشدّت في قلوبهم عصب الأرض.
السُّبحة التأليفية مع فليفل كرّت لتُشغَف بأناشيد الأطفال والتي لطالما كانت مهمّشة، فاشتغلاها بعذوبة ورشاقة وإيقاعات سلسة، لأنهما اعتبراها ركناً أساسياً من أركان الموسيقى الشعبية، وأبسط لغة وجدانية عرفها الإنسان. وهي تساهم عند الأطفال خصوصاً في صناعة أسس ذاتهم الوطنية، كونها ملتصقة بأكثر مراحل النموّ حراجةً في رسم الشخصية. وأكثر من ذلك، فقد رأى الأَخوان في أغنية الأطفال نواة أساسية لمجتمع الكبار، إذ تشكّل البداية لزرع حبّ الوطن والتآخي ولترسيخ المهارات والِقيَم ولشبك المعارف والأصول في نفوسٍ لن تضيّع في المستقبل نسختها، " فنحن الشباب لنا الغد ".
الأَخوان فليفل من حظايا الوطن والأمّة، يصلح أن تُوظَّف مآثرهما، لما فيها من القِيم والدلالات، في مناهج التوجيه الوطني. ويكفينا بهما فخراً أنهما، وبالإضافة الى تكوينهما تاريخاً فريداً في النشاط الموسيقي الشرقي أغانيَ وأناشيد، قد أكتشفا تحفة نادرة تبنّياها موسيقياً، هي صبيّةٌ جاورَنا القمرُ كرمى لها، فيروز.