ايليا بيضا - بقلم الدكتور جورج شبلي
في بعضٍ من عصور الغناء، تنثر الشمس عينها فتعصر من خدود الأصوات خمرةً لا تُقَدَّم إلاّ في يوم عرس. هي خمرة يموج فيها صفاء الدّمعة، وخَدَر القصيدة الرشيقة، وسحرُ تفتّح الزّهر، حتى ليُظنّ بأنّ ملاحة المتعة سُرقت منها.
ايليا بيضا يُطرب نفسه قبل أن يطوّق بصوته غمزات سامعيه. فهو يتنفّس أقحواناً وينطق عن ألحان ثابتة الألوان، تغار منها أجنحة الطواويس، وكأنّ "داود" جالس عن يمينه. هو لا يستطيب الرّخص من الغناء في طرب ترفيهي، ويضيق صدره عنه، فقريحته السليمة الذّوق تُغير على الجيّد الصّعب في طرب النشوة النفسية، وتعجن عنبر كلامه بمسك أنغامه، فيفوح عبق لا تحتمل تنشقّه نُحور العاديّين.
عندما نسمع فواتح أداء بيضا وخواتمه، يغيب عن خواطرنا المكيال، فالدرّ لا يستدرج التقييم، لأنه الكمال في القيمة. فايليا وقف على طرائق الغناء الطّربي في مقرّها، ووشّح بمواطنها حنجرته فأطاعتها، لذلك لا يمكن أن يكون في مجاله من قبيلة مهجورة. من هنا، لم تكن القيمة لتكلّف قدميها المسير الى مثله، لولا خزائن الإبداع والإتقان والتي جعلت الطرب يُداجي أنماط الغناء الباقية، خوفاً من حَسد.
لقد منح بيضا الطرب جنسيّته من دون أن يفقده ارتباطه بالأصول، فالطرب نشاط أرقى من الغناء لأنه شكل من أشكال التوحّد بين المطرب وأغنيته، وهذا ما يُسمّى بالصّدق الفني الذي يأخذ بأهداب شغف السامع، فيُحدث فيه هزّة من الدهشة هي من قبيل العشق. وقد قيل : إذا مازج القريب القريب طابت الإلفة وحسُنت الصّحبة فسيطر رواق العزّ. وايليا إذا غنّى، كتب ببياض النهار على سواد الليل، واقترب بتجربته من الأسلوب التأثيري، وبوقار الصلاة.
لقد أكّد ايليا بيضا على حقيقة، ربّما أغفلها الكثيرون، وهي أنّ تاريخ الغناء كان صارماً في تحديد مقاييس جمال الصوت المنفرد، هذه المقاييس التي تتلخّص بالموهبة والتأطير وروح الإبداع. وايليا بيضا، كالأقلّين، يتربّع على هرم هذا المثلّث لكونه يجمع بين الموهبة الغنائية، وبين الإلمام بالإطار الجماليّ للأغنية، وبين القدرة على الإبداع داخل الأغنية ذاتها. من هنا، لم يكن بيضا حكّاءً يحفظ لحناً عن ظهر قلب، إنّما كان صوتاً محمَّلاً بالدلالات القادرة على التطريب، فبات بذلك فنّاناً ينقش خصوصيّته الخلاّقة على الذّوق بالذات.
ايليا بيضا سوّاح بين المقامات، في صوته محطّات تنتقل من مذهب الى غصن حسب أوزان وإيقاعات صعبة، يصقلها لتخرج أكثر طرباً. وصوته المتميّز في قوته وحلاوته وطلاوته، كان يبدأ بالقاعدة العريضة حتى يصل الى الأجواء العالية التي لا يلحق بها لاحق. وكأنّ مجاميع صوته تعزف على آلات موسيقية، لتعبّر عن إحساس يتحرّك في أكثر من اتّجاه، وفق منظومة لونيّة متوهّجة الحيويّة، حتى لنشعر بأن صوته يمشي بنا في مروج ضاحكة المزاهر، خفّاقة النسائم.
في تشكيلاته المونولوجيّة جلسات سمر، تطول كما استعماله المطوّل لليالي والآهات والترنيمات، بصوتٍ عروضه منفردة وتقنيّاته الّلحنية تضع السّامع في حالة تجاوُب. هذه الزخرفة الجمالية في الأداء، تعود الى مخزون ايليا من وقود القدرة التي تمكّنه من إلباس أطباع الطرب أثواب الإعجاب والرّضا، وعندما تصفّح الطرب كتاب صوته، لم يعتب عليه ولو لمرّة.
صوت إيليا ريشة رسّام، يخلط من أنفاسه ألوانها، ويحدّد من نبضه خطوطها، ويُشرك مزاجه في أشكالها، لتبدو اللوحة الصوتية كَلِفةً بالهوى والصبابة والتّشاجي، لأنّ الأداء يخرج ساحراً من صدر إيليا الى لفظه. وهذا الفنّان الرّاقي يُنطِق صوته إعجازاً، وكما أنّ الفلسفة هي طبّ الأصحّاء، فصوت إيليا هو عافية الذّوق لديهم.
وبعد، فالطرب الذي هو الأذهَب في مسالك الصوت، لولا إيليا بيضا، لعاش مجروح القلب طوال عمره.