نبيه أبو الحسن بقلم الدكتور جورج شبلي (Al Akhwat)
ليس غريباً أن يكون الجنون بمعناه السيكولوجي تغييباً للعقل، فيحيد عن مَنار الهدى لنقص في دائرة الوعي. أو هو تعطيل للإتصال مع قوة النفس بكامل صورها، هذه التي يعيد العقل تركيبها وفقاً للكيف والفائدة. أما أعراض الجنون في نزعته الإجتماعية، فتبدو في الذّهول عمّا اعتاده الناس، وفي الشّطط عمّا رُوِّضوا عليه، وفي مخالفة ما ألفوه بنوباتٍ من المواقف المكروهة.
نبيه أبو الحسن "أخوت" وليس مجنوناً. فالأخوت نبيه هو المتمرّد على المفروض، والنّاقم على السّائد، والهادم للبالي، والكاره لما كرّسه اللّاوعي على أنه مقدّس. وهو الذي لا يستكين أمام هذا الواقع المَرَضي، ليخرق ثوب الناس القانعين في غفلة عن المعرفة، فيدهن ذواتهم بزيت المناعة ليُعيدوا صياغة شخصياتهم في سرب المجتمع الحرّ.
الأخوت نبيه لم يكن مُصاباً بالفُصام، بمعنى الغربة عن الواقع أو عدم رؤيته بشكل صحيح، وهو لم يُقِم في عالم معزول في الزمان والمكان، وهو لم يكن متلبِساً شيطاناً، لكنّه مُصاب بالقلق. كان قلقاً لأنه كان إنجازياً في عصر الإخفاقات، وجَسوراً في زمن الخطر، ومحفِّزاً في وقت تقطيع الوقت. أطلّ من المسرح على واقع كان بينه وبينه سَدّ، فما تكلّف ولا راوغ، بل أراد صحواً بعد مطر، وصفواً بعد كَدَر، ومجالاً بعد ضيق. وهو بذلك لم يكن صوفيّاً مجتنِباً مظاهر الدنيا، منطوياً على أعماق نفسه كما أعراف المتبتّلين، بل كان مُصاحِباً لمواقع الناس، دارساً نظام سلوكهم، لافِتاً الى ما يطمئنّ إليه العقل في حدود المنطق والنفع.
الأخوت في نبيه استعرض المَشاهد، فذكّر بالصحة في وقت المرض، وبالرجاء في وقت القسوة، وبالثقة في وقت الهوان. وهو أشفق على الصمت لأنه كان خائفاً، ولم يجالس أهله، وآثر الكلام بصوت مسموع لا يهاب الممتنَع، فنفر منه المتلوّنون واعتبروه فظّاً، بينما شعر به الأصحّاء كالمُتَخَيَّر في ما يسمعون.
بين العُسر واليُسر في المجتمع، قرار لا يمكن أن يتّخذه مَن خُلِقوا من الطينة السّفلى، ومَن حوّل الغبار أذهانهم حطباً، وحواسهم تراباً. هي مهمّة مَن نَقشوا التحدّي في أهدافهم، من هنا فحراك الأخوت فيه خصوبة، فيه نقلة من قبول الكسل الى الوقوف، فيه تحريك للكامن، فيه تصعيد لدرجات الحرارة وصولاً الى المواجهة فالتغيير. وحراك الأخوت هذا لم يكن ميكانيكياً، بل هو جدليّ خاضع لعامل الظروف الموضوعية بكل مقاييسها.
الموهبة ليست تمثيلاً، أو تزييناً مستعاراً كهيكل من خشب، لكنها جوهر منسول من خيوط ذهب مُقسّى يُظهر مدى تفوّق حال الفنّ. فالوقفة على الخشبة، أو في قلب الشاشة، كالترصيع الذي لا يتقنه سوى الأقلّين، والذي يميط الّلثام عن الفرق بين العاج والتراب، من هنا، لا يزال نبيه أبو الحسن يحتفظ حتى الساعة بالخواتم المرصّعة. وفي عصور الغزو، وإذ يعود فنّ التمثيل اليوم الى الأزمنة البدائية، يحتلّ الهولاكيّون المسارح وعمارات التصوير، ولا يُبقون في محرقاتهم على مكتبة.
لا يمكن أن نستكثر على نبيه أبو الحسن ريادته في الفنّ وفي المواقف، فلو فعلنا لكان ذلك رأياً واضح البطلان. فالرجل أرانا أحسن ما صُنِع في باب المَسرحة فأدهشنا، وأطلق صرخات اعتبرها البعض هفوات صاخبة، في زمنٍ ساده أنّ بالصمت يُنال الثواب العاجل. لكنّ النبيه أبى أن يعيش طريد الحقيقة، وأن يحشو قلبه غصصاً، فيحسد الميتَ على ما صار إليه، وهو الحيّ المولود في طالع الهزاهز. ولم يشأ أن يخنق صوته العابث ويرضخ، ويؤرّخ صابِراً لعصر إبليس، وقد أُتيحت له الفرص العديدة، وفيها المنجاة والنعيم.
كان نقله الواقع جارحاً ومغرياً، وكأنه طائفة من المقامات أكثرها يمزج الجدّ بالهزل، في أساليب صارخة نفر منها مُدَّعو الوقار المزيَّف، اولئك الذين ضاقت أحلاق عقولهم عن بَلع الخَشِن من صراحتها. وهو لم يقدّم على مائدته ما يحرّك شهوات الآكلين المنتفخة أنوفهم، والذين انطفأ نورهم عندما أوقدوا نارهم، وكان يعلم أنّ عبقريته لا تناسب حقدَهم، فكتب وصيّته.
"جحا" أبو الحسن صاحب ذكاء ساخر، وظرف محبَّب، ولسان سليط، وتكلُّف الحمق الكوميدي للإضحاك الهادف. وهو أيضاً لَطيف النسيم، فَطِنٌ وليس أبلهاً، قارب طبيعة القحط في الوطن والأمة بضحكة تغلّف نقداً قساوته تشبه انكسار القلوب، وبحلاوة نكتة يقطّع قوامها عذبَ الألباب. جحا أبو الحسن جريء حيث لا يُقدِم غيره، فعندما قلّت بشاشة وجه المجتمع واغبرَّ لونه، وجّه البوصلة نحو الحقيقة وأصاب.
وإذا كانت الشعوب يصمّم كلّ منها جحا خاصاً به، فنبيه أبو الحسن صمّم لشعبه جحا مميّزاً.