(passed away July 2016)
منير أبو دبس: "لا معنى للنص في المسرح.. الممثل هو النص" "أعمال المسرحيين اللبنانيين شبيهة بالموت" - مجلة الأنوار - العدد 3966 الصادر 16-11-71
ليس المسرح هروبا، أو ملجأ، أو برجا ً عاجيا ً، بل اداة تؤثر على الانسان والعالم. انه "حصان طروادة" يمكنه دخول قلعة الاحياء، كما يمكنه استغلال الامكانيات النفسية كلها لاغراضه.
منير أبو دبس الذي أسس، بعد عودته من باريس عام 1960 "مدرسة المسرح الحديث" في بيروت، وكان لديه، وقتذاك، هدف واضح وهو، خلق فرقة مسرحية تحقق وتكمل بعض الافكار التي سادت المسرح الحديث في العالم، وقدم، على التوالي، بالاتفاق مع مهرجانات بعلبك، مسرحيات عديدة أهمها: "اوديب" و "ملوك طيبا" و "الملك يموت" و "فاوست". لكن هذا النوع من المسرحيات الذي قدم في "الهواء الطلق"، أو على المسارح الكبيرة، صار بالنسبة اليه، بعد انفصاله عن مهرجانات بعلبك عام 1970، شيئا ً غريبا ً يختلف، فاتجه نحو السحر والغرابة في تجاربه الجديدة.
هذه التجارب يحدثنا عنها الان، بناسبة اعادة تقديم مسرحيته "الطوفان" مجددا ً في مدرسة بيروت للمسرح الحديث، والتي هي من اخراجه ووضعه ومن تمثيل ميراي معلوف، رضا خوري، جوزف أبو نصار، ميلاد داود، صبحي أيوب، طوال شهري تشرين الثاني وكانون الاول المقبل، والتي هي عبارة عن نصوص طقوسية مختارة من نشيد الاناشيد، والمزامير، وعظة الجبل، تعتمد كثيرا ً على مرونة الممثل وعفوية جسده، كما انها تسعى الى تكوين مسرح يتخذ صغة الاحتفال الصحري الطقوسي، الصوفي، الديني، ويقوم على الشعر، بافتعال الغرابة، وتقديس السحر، والحركات التعبيرية المجنونة، ضمن جدران غرفة صغيرة سوداء فيها عدة مقاعد خشبية، يتعانق فيها الجمهور، مع الممثل القريب، خارج واطار الاضاءة الباهرة، والديكور التقليدي، وزخرفة الالبسة وابهتها.
ما هو المسرح الاتفاقي
يرى منير ابو دبس أن تجربة "الطوفان" التي يبدأها، ليست مقتلعة الجذور، أو غريبة عن ماضيه بعد عودته من باريس عام 1960، ليكون فرقة المسرح الحديث، لأنها فكرة رافقته منذ تجاربه الأولى، مع مسرحيات قدمت بالاشتراك مع مهرجانات بعلبك في "الهواء الطلق"، وعلى المسارح في العاصمة وخارجها ونمت في السر بعيدا عن المسرح الاتفاقي في لبنان.
ما هو المسرح الاتفاقي؟ يقول أبو دبس أنه مسرح يتفق مع أنظمة خاصة سادته. واذا تجاوزها أعتبر غريبا ً لا علاقة له بالجمهور.
"أن هذه الاتفاقيات في المسرح هي أخطر الاشياء في التدرج الفني له. ففي لبنان نرى أن المسرح الاتفاقي موجود في المسرح الخفيف: مسرح شوشو مثلا ً. كما أن الجمهور البيروتي هو اتفاقي أيضا ً. لكن كل لحظة يقع فيها المسرح بالاتفاق يجمد. ومن الممكن أن تحدث اتفاقية مسرحية بين الممثل وطريقة التمثيل، بين الممثل والجمهور، بين المسرح عامة أو هذا المكان والجمهور. وهذا ما هو حاصل عندنا دائما ً، وما قد حصل في السنة الماضية في لبنان على وجه التقريب. لقد كان هناك اتفاقية حول المسرح السياسي في بيروت. وهنا منتهى الخطا. فاذا كان على المسرح أن يكون فنا خلاقا، عليه أن ينادي الجديد والغرابة والمجهول..."
الجمهور والمسرح
وانت ما مدى علاقتك بالجمهور؟
علاقتي هي دائما ً علاقة تأتي بعد علاقتي بالمسرح. بمعنى أن تكون علاقتي بالمسرح صحيحة وعلى الجمهور أن يحضر هذه العلاقة. أن اتصالي بالجمهور يتكون من خلال المسرح.
لهذا يبقى كل عمل مسرحي، يحققه منير أبو دبس، محاطا بالاسرار. ولذلك نراه، يتخلى اليوم في "الطوفان" من الاخراج، الذي هو "منطقة ثانية ترتكز على العناصر العامة فيه، والتي هي الاضاءة، الديكور، اللباس، الموسيقى والتحرك الجماعي للمثلين" ويتجه بعد ذلك الى الخط المسرحي الذي يرتكز على جسم الممثل ونفسه ومقدرته على السهر والمناداة.
وهكذا، فممثله الجديد يتحرك ويقسو على الجسد في "الطوفان" لكنه يضمن استمراره. واذا لزم الامر، يقف لمعانقة طقوسه وشعرائه الروحية بالضرورة. فنصل معه الى لذة الاستمتاع بلغة الكلام التي يبطل معها النص المسرحي القائم على الحوار التقليدي ان يكون.
لذلك ، فان تخلي منير أبو دبس عن النص، هو من اهم المفارق في حياة المسرح الجديد التي يراها. يقول:
"لقد استهلكني النص القديم. أنا تركته وبدأت في تأسيس الاحتفال المسرحي الذي يبنى على التقاء الكلمة، بجسم الممثل وبالايقاع، ضمن دائرة تغمر الممثل والجمهور معاً"
"بمعنى آخر، صار كل شيء في "الطوفان" يأخذ معناه الجديد. أصبح للتمثيل معنى آخر. وللنص معنى آخر وللكلمة أيضا ً: لقد صارت الكلمة في "الطوفان" سؤأل الممثل: الممثل يجيب عليها بالانفعال ونحن نجيب عليها بدورنا."
"لقد أصبحت الكلمة المسرحية في "الطوفان" سؤال الممثل والممثل سؤال لنا."
المسرح الفقير
وما يثير حماسة منير أبو دبس، في هذا المسرح الاختياري بالذات، اعتماده كثيرا ً على الروحانية الشرقية التي أخذ منها "غروتوفسكي" البولونسي في تعذيب الجسد وتليين عضلاته بالحركة. ولذلك يأتي مسرحه مسرح علاقات شخصية بين الممثل والجمهور. انه "المسرح الفقير" الذي ينزع عنه جميع الاقنعة المستعارة، ولا يرتدي الا لباس الممثل الحقيقي، وانفعالاته الكبيرة، في تليين الجسد ومرونة الروح والعواطف والاحاسيس.
ان كل شيء يتركز في هذا المسرح على الممثل، لان انعدام المسافة بينه وبين الجمهور، هي العلاقة الحميمة بين الممثل وهذا الجمهور. انها الالتصاق الحميم بالاشياء الحميمة التي تتكون لحظة لحظة في المعنى الأخير للمسرحية: الجمهور يقترب من الممثل والممثل يقترب من الجمهور: نقاط العرق تتصبب من جبين الممثل لكثرة الحركة والتفتيش عن مجاهل الجسد وأحاسيسه، والجمهور يتسمر على مقاعد "المسرح الفقير" ويدنو من هذا العرق المنصبب بهدوء، ومن التشنجات الجسدية والتأوهات المتصاعدة من "الطوفان" والتي لا تهدأ الا بانتهاء الاحتفال.
وهكذا "فالطوفان" هي احتفال مسرحي جديد، في تاريخ المسرح اللبناني المعاصر، لأنها تطرح عدة قضايا كشكل مسرحي مغاير لاعمال منير أبو دبس السابقة والتي يعتبرها البعض كلاسيكية أو تزيينية اعتمدت كثيرا ً على الاخراج الجميل، واللباس المتقن، والاضواء المثيرة، والنص.
أعمال جديدة
بعد "الطوفان" ونجاحها، ماذا يريد منير أبو دبس، من المسرح اللبناني الآخر أن يكون؟
يقول: "أريد من المسرح أن لا يتفق مع نفسه. أن يتحدى دائما ً نفسه. أن يتخطى دائما ً نفسه. أريد من المسرح أن يرمي نفسه في العتمة لا في الضوء. أريده أن يدخل الغرابة ويكتشف المجاهيل، والا عايش اتفاقيات هي صور من الموت شبيهة بأعمال المسرحيين اللبنانيين الآخرين.
لقد جاءت "الطوفان" بداية منير أبو دبس، وسوف يقدم بعدها عدة مسرحيات طوال الشتاء المقبل. منها مسرحية تحيط بجبران خليل جبران، وهي تجربة فكرية وشعرية لكتبه وأعماله. ومنها عمل كوميدي يتفكك في الحدث المسرحي ويرتكز على الاشياء والتقاء العناصر بعضها ببعض. هذا العمل هو تكملة لبعض المحاولات الكوميدية التي بدات مع مسرحية "الملك يموت" لكنه قريب من "الطوفان". ومسرحية اخيرة بعنوان "بابل" تدور حوادثها حول الخلاص الفردي والجماعي للانسان. و"بابل"، كما يراها منير أبو دبس، هي الايام التي نعيشها".
هل بهذه المسرحيات التي من ضمنها "الطوفان"، سوف ينتصر المسرح اللبناني الحديث ويخرج من "اتفاقياته، حسب زعم منبر أبو دبس؟
ربما... لكن الذي يفرح المسرحيين اللبنانيين انهم اعتبروا "الطوفان" نهاية أبو دبس. لكنهم اخطأوا التقدير. انها بدايته الجميلة.
رياض فاخوري
منير ابو دبس عاد بجبران للمرة الثانية
عمل مسرحي احتفالي ينتمي الى مرحله الستينات
بيروت - من عبده وازن
حين عاد المخرج منير ابودبس في العام 1981 عودته المسرحية الاولى بعد غربته الفرنسية التي فرضتها عليه الحرب شاء ان يلتقي جمهوره عبر عمل مستوحى من جبران خليل جبران. واختار آنذاك كتاب "يسوع ابن الانسان، منطلقا ً لعرضه المسرحي الاختياري. ولم يلق العرض النجاح الذي كان من المفترض ان يلقاه عرض لمخرج كان في طليعة المسرحيين الذين اسسوا المسرح اللبناني الحديث.
فالجمهور الجديد الذي نشأ خلال الحرب لم يستسغ كثيرا ً اختبارية أبو دبس ولا أسلوبه الغامض والمغلق ولا طريقته في العمل عاى الممثلين. اما جمهوره النخبوي الذي تابعه في السابق وبخاصة في اعمال "المسرح الحديث" فلم يجد في العرض ذاك اي تطور لاسلوبه ومنهجه ولغته التي عرف بها.
ولم يكن على المخرج العائد الا ان يهاجر ثانية عائدا رً الى فرنسا وطنه الثاني بعدما خاب أمله في تأسيس فرقة مسرحية ومركز مسرحي على غرار ما فعل في الستينات. ولم تمض على غربة ابو دبس الفرنسية الثانية او الثالثة اربع عشرة سنة حتى عاد الى لبنان مرة اخرى آملا ً أن يجد في جمهور ما بعد الحرب فئة تستسيغ لغته الخاصة واسلوبه. ولم يغيب ابو دبس جبران خليل جبران عن عمله الثاني الذي انتجه مسرح بيروت فسماه "النبي والظلال"، واستوحى معظم مادته الادبية من كتاب "النبي" واضاف اليها مقاطع من شكسبير وأشيل الكاتب الاغريقي المعروف. الا ان أبو دبس الذي حاك للمقاطع الادبية اطارا ً من تأليفه لم يسم عمله عرضا ً مسرحيا ً بل سماه "أوراتوريو عن والى جبران خليل جبران". وهكذا تحاشى المخرج أي احراج يمكن أن يجره اليه العمل اذ خلع عنه صفة المسرحة الصرفة واختار له هوية ملتبسة. و"الاوراتوريو" كما هو معروف تاريخيا وعالميا ً وتحديدا ً بدءا ً من القرن السابع عشر، عمل موسيقي، غنائي ودرامي خال من المشهدية وقائم في الغالب على موضوع ديني. الا أن خلوه من المشهدية لا يعني خلوه من الشخصيات والحوارات والمقاطع السردية.
ولم يكن على ابو دبس الملم بهذا النوع المسرحي والموسيقي الغربي الا ان يستعير صفة الاوراتوريو استعارة رمزية ليبني عمله انطلاقا ً منه، ساعيا ً كعادته الى اختبار المادة المسرحية التي يعمل عليها. واختار الموةسيقى الحية من خلال حضور نداء ابو مراد على الخشبة وارتجاله بعض المقامات على كماته.
ليس عمل منير ابو بس اذن عرضا ً مشهديا ً كما يفهم العرض المشهدي عادة. فالفقر والتقشف اللذن اختارهما لبناء عمله ابعداه عن اي اغراء بصري او ترف وجعلاه اقرب الى الاحتفال الداخلي والطقسي وربما الى القداس. فالممثلون لا يمثلون حتى وان ادوا في بعض المقاطع ادوار ممثلين يتهياون لتقديم مسرحية ما. ولا شخصيات اصلا ً ليؤديها الممثلون فالنص الرئيسي يرتكز على نصوص جبران المتفرقة التي حولها المخرج الى تداعيات تحياها او لا تحياها الممثلات الست. اما النص الذي كتبه ابو دبس بالعامية ودمجه بنصوص جبران وبعض جمل شكسبير واشيل فغدا بدوره نصا شعريا ووجدنيا. وحاولت الممثلتان القديرتان تقلا شمعون وليليان يونس ان تؤديا من خلاله شخصيتي الشقيقتين أوجينيا ونافلة الطالعتين من ذاكرة الماضي وهما لا تلبثان ان تتحولا الى مخرجتين للعرض المزمع اعداده في القرية. ويستغل ابو دبس وجود شخصية "المخرج" على الخشبة ليحمله بعض نظرياته المعروفة والتي اطلقها في الستينات.
وأوضح ابو دبس نظريا ان عمله مبني وفق ثلاث مسافات: تدل الأولى على اللاوعي البعيد وتتمثل في حركة صامتة متألفة مع النار والكمان، وتحتوي الثانية الفعل المسرحي الذي "يقول" صفحات من جبران فيما تدور الثالثة حول مشاعر الحب والوجود والجمال وتظهر من خلال الحكاية المسرحية، حكاية الشقيقتين اوجينيا ونافلة اللتين تقومان بأخراج مسرحية مستوحاة من جبران مع فتيات قرويات وتحديدا ً في العام 1919. هكذا "نظر" أبو دبس لبنية العمل وابعاده من غير أن يدخل في التفاصيل الملموسة والحسية ولم يكن على الجمهور الا أن يكتشف على المسرح تلك التفاصيل التي ضلت غامضة وملغزة.
وشاهد الجمهور ضوءا ً يرسله سراج في احدى زوايا المسرح القاتمة وكانت تجلس قبالته طول الوقت تقريبا ممثلة لم تملك مهمة سوى اقبة السراج وحمله في احيان كما شاء الجمهور دائرة داخل الخشبة كانت تعتليها من حين لآخر الممثلات الموشحات بالسواد باقنعتهن البيضاء وضمن الدائرة كان يتحول الاداء على أداء طقسي للنص يرافقه ترداد يشبه ترداد الكورس. وداخل تلك الدائرة كان من المفترض ان تلتئم المسرحية التي تعدها الشقيقتان عن جبران. اما نداء ابو مراد الذي افتتح الاحتفال بارتجاله الجميل وختمه أيضا ًفظل معظم الاحيان في ظلمة احدى الزويا لكن عزفه استطاع أن يضيء أكثر مما اضاءت شمعة السراج ذاك لا سيما انه ارتجل مقطوعات مقامية في طريقة جديدة وغير تقليدية تخرج عن نمط المقام وتحافظ على روحه. وعزف ابو مراد ببراعة وشفافية مقطوعات مقامية عدة تستوحي الحب والجمال والحزن والموت ورافق الاحتفال ولون اجواءه موسيقيا ً وجعل من عزفه خلفية وجدانية للحنين الذي حاول ابو دبس أن يحيط به. والمعزوفة الأخيرة جمعت بين الكمان والكورس جمعا ً طقسيا ً جميلا ً وليت المخرج أفاد من كمان ابو مراد اكثر وخصص لعزفه المرتجل حيزا ً أوسع اذ كان من الممكن ان يملأ به الفراغ الذي وقع العمل فيه وغدا ً فراغا ً خارجيا ً لا داخليا ً أو نفسيا ً.
ولئن نجح أبو دبس نظريا ً في الدمج بين المسافات الثلاث فان نظريته ظلت رهينة مخيلته وربما رهينة مخيلات الممثلات ولم يستطع الجمهور ان يلمسها ويميز بينها الا عبر اختلاف العامية عن الفصحى و اختلاف بعض المرويات عن بعضها الاخر. فالشقيقتان القرويتان ترويان بعض الحكايات والوقائع التي حصلت مطلع القرن (كالجماعة مثلا) وتستعيدان بعض الذكريات عن الفريكه، قرية امين الريحاني (ومنير ابو دبس) وتتحدثان عن اناس عادوا من الغربة... حكايات طفيفة وقروية صرفة شاءها ابو دبس مختصرا للزمن الاول الذي احاط به نصوص جبران. لكن الشقيقتين سرعان ما تنقلبان الى مخرجتين مثقفتين جدا تتحدثان عن هولدرلن ودوستويفسكي وتمعنان في "التنظير" لمفهوم التمثيل بحسب ما يراه المخرج نفسه. ولعل ما تتفوه به المخرجتان هو خلاصة ما كتب أبو دبس من تأملات حول الممثل وبخاصة في كتابه "الممثل بلا قناع ولا وجه" الذي اصدره بالفرنسية في الستينات: تتحدث المخرجتان مداورة عن اليقظة الداخلية ووهم الحواس وعن الولادة بالروح وعن الجمال الكامن في الاعماق وعن التواضع الذي يكفل للمثل الاتصال بعالمه الداخلي... وتحدد احداهما قدرة الممثل في الاصغاء الى العالم البعيد وفي الرؤيا واستقبال الرؤيا... والعبارات هذه يعرفها جيدا ً جمهور منير ابو دبس الذي تابعه سابقا ً منذ مطلع الستينات حتى نهايات السبعينات فالمخرج في ما بدا لم يؤثر التخلي عن نظرياته الثابتة ولا عن مفاهيمه للمثل والاخراج والتواصل والسينوغرافيا وسواها... فثوابته لا تزال هي هي وكذلك اراؤه ومنهجه. والسنوات الطويلة التي أمضاها في فرنسا لم تزده الا انكفاء على ذاته وعلى رؤيته ومن يشاهد العمل الاخير والعمل الذي سبقه، (يسوع ابن الانسان 1980) يكاد لا يصدق ان المخرج جاء من فرنسا وطن الفن المسرحي الحديث بل يظنه جاء ولو متاخرا ً قليلا ً من محترفات بولندا التي راجت في الستينات وما قبل. فأسلوب أبو دبس وطريقته ورؤيته تنتمي جميعها الى تلك الدائرة التجريبية التي رسخها اشد من رسخها المسرحي الكبير غروتوفسكي. لكن سلوك ابو دبس مسلك غروتوفسكي لم يخل من المحاكاة ساخرة. ولم يقصد أبو دبس تلك المحاكلة قصدا ً بل حصلت رغما ً عنه وبخاصة حين عجز عن توطيد علاقته بالجمهور وجعله عنصرا ً رئيسيا ً في اللعبة المشهدية. وتصعب حتما ً قراءة تجربة أبو دبس على ضوء تجربة غروتوفسكي حرفيا ً . فرائد "المسرح الفقير" و"مسرح المنابع" سعى منذ خطوته الاولى الى اجتياز الحدود بين الخشبة والمشاهدين جاعلا ً المكان المسرحي حيزا ً للمشاركة الفعلية في مفهومها الديني (المسيحي) والطقسي (التكفيري). واستبعد غروتوفسكي (كما أبو دبس أيضا ً) المحاكاة المسرحية والاضاءة الايهامية والملابس الضخمة والماكياج والاكسسوار ليركز على الممثل وعلى علاقاته بجسده وبالجمهور والنص... فاذا الممثل لديه اشبه ب "الكاهن" الذي يحل محل الطرف الثاني في فعل المشاركة الروحية. ودفع غروتوفسكي الممثل الى تخطي الذات والى البحث عن الفعل الروحاني للجسد والتحرر من الحواجز النفسية والعقد كي تسقط عن وجهه اقنعة الكذب اليومية... اما منير دبس رائد "المسرح الفقير" في لبنان فسعى بدوره منذ عودته الأولى من باريس عام 1960 الى تأسسيس مسرح اختباري قائم على حضور الممثل و "اندهاشه". و اسس أبو دبس مسرحه نظريا وتطبيقيا وانشأ محترف "المسرح الحديث" الذي تخرج منه عدد من الممثلين و المخرجين اللبنانين الذين لم يتوان البعض منهم عن تخطي معلمهم وعن التنكر له "أوديبيا" وركز ابو دبس في مسرحه على الصوت الذي من الممكن لمس شيء ما او شخص ما عبره. فالصوت في نظره يمكن ان يرى كما لو انه جسد مثلا ً والكلمات الملفوظة يمكن لها مندأن تصبح أبوابا ً. أما السينوغرافيا ً فيجب أن تكون نافذة تطل على اللامرئي ويجب أن تستوعب بازياح قليلة حركات المخيلة مانحة الحركة فراغها الملائم. أما ذكاء الممثل في نظر ابو دبس فلا يقوم على اضاءة الظلمة التي تحيط به وانما على اظهار الضوء القائم في طرف الظلمة. ولا أخال مخرجا ً لبنانيا ً "نظر" لمسرحه مثلما "نظر" أبو دبس لمسرحه. وانطلاقا ً من نظرياته راح ابو دبس يبني رؤية شاملة وثابتة الى الممثل والجسد كما الى العالم وما وراءه والى الموت والحياة والجمال... الا ان أبو دبس حصر نفسه داخل تلك النظريات ولم يشعر بحاجة اللى تطويرها ليرافق التحولات المسرحية التي شهدها المسرح العالمي عبر اعمال بروك ومنوشكين وكانتور وبيتر زاديك وبوب ويلسون وسواهم وسواهم من رواد الحركة المسرحية الحديثة او ما بعد الحديثة. فاذا مسرحه هو مسرح الستينات اللبنانية بامتياز، مسرح الاسئلة والبحث والشك والقلق... والحداثة الأولى.
ولئن نجح ابو دبس في رسم اطار نظري لمسرحه ولأعماله التي كان لها في الستينات والسبعينات حضورها المميز وثورتها وجديتها فان خطه المسرحي (أو رؤيته المسرحية) فقد شيئا ً فشيئا ً جمهوره اللبناني ولا سيما في مرحلة الحرب وما بعدها. والمخرج اصلا ً لم يكن مباليا ً كثيرا ً بالجمهور ولم يسع الى النزول عند تمنياته بل ركز ما ركز اكثر على الفضاء المسرحي القاتم وشبه المغلق وجعل الممثلين داخل ذاك الفضاء اشبه بالظلال الغارقة في الظلمة وهي لا تحضر الا عبر اصواتها. وهكذا، وفي وسط الظلمة والاضاءة القاتمة والصمت الخارجي والداخلي راح الممثلون في "النبي والظلال" يؤدون النصوص الادبية كما لو انهم يقرأونها لا من حناجرهم فقط وانما من قلوبهم: اما حين انتقلت الممثلات (أو بعضهن) الى التمثيل بالعامية فاختلف اداؤهن تبعا ً لاختلاف الجو القروي عن الجو الرمزي والصوفي الذي تزخر به نصوص جبران. وعندما ارتدت الممثلات اقنعتهن البيضاء غدون غارقات في جمود وخواء.ووراء تلك الاقنعة تجردن من شخصياتهن وانفعالاتهن واحاسيسهن ليصبحن اطيافا ً من كورس حاضر وغائب في وقت واحد. ولا شك أن الممثل في مسرح ابو دبس يعاني ما لا يعانيه في اي مسرح آخر. فهو مجبر على الخضوع لمسلك شبه نسكي وتطهري وان على مستوى المظهر في احيان ولا غرابة" ان تتحدث احدى الشقيقتين أو المخرجتين عن المسرح كغرفة مغلقة. فعمل ابو دبس بدا وكأنه احتفال طقسي يحياه المخرج مع الممثلين فيتمتع هو وهم به اكثر مما يتمتع به الجمهور الذي غالبا ً ما يجد نفسه غريبا ً عن اللعبة وغير قادر على الاستسلام لمزالقها. واذا استطاع نداء ابو مراد ان يخترق المكان وصمته عبر ارتجالاته المقامية الطريفة فان الممثلات الست استطعن ان يفرضن حضورهن المحتشم وسكونهن زادين النصوص بجدية ورهبة. وختاما ً لا بد من توجيه تحية الى تقلا شمعون وليليان يونس واليسار الحاموش ورينيه غوش وسواهن تحية تقدير لمسلكهن المنتظم وللجهد الذي بذلنه في عمل مسرحي هو اقرب الى النسك والتقشف.
المخرج اللبناني منير دبس
في حي الفنانين بفرنسا، حيث يقطن "جان بول سارتر" يعيش فنتان لبناني اسمه منير أبو الدبس. لقد ارتفع هذا الشاب الصغير في بلد يضج بالكفاءات، الى مرتبة كبار المخرجين، والرساميين، والممثلين. واستطاع في مدة قصيرة جدا أن يفرض نفسه على التلفزيون والسينما والمسرح في فرنسا.
أن قصة هذا الشاب في باريس هي قصة هذا الشاب في باريس هي قصة النجاح المبكر، والعقيدة التي لا تعرف اليأس أو الملل.
أول الطريق
كان ذلك في عام 1951 عندما سافر الشاب الصغير منير أبو الدبس من انطلياس قاصدا ً باريس.
وكان المستقبل بالنسبة له أمرا ً مهما لا يعرف عنه أي شيء وكل ما يعرفه هو ان صناعة الفن في لبنان لا تطعم ولا تغني.
ولكنه قرر ان يلج هذا الباب ويدخل الى ميدان جديد وجد في نفسه الكثير من القابلية لان يكون فيه السباق المجلي. وفي باريس التحق بالمعهد الوطني حيث تعلم أصول الموسيقى وفن الاخراج المسرحي.
وبعد عام واحد ترك المعهد الوطني و التحق بمعهد "روجيه غايار"... معهد للتمثيل المسرحي. لم يقنع منير بهذا التحصيل بل امتحانا لدخول الكونسرفتوار هناك، ونجح.
امضى في الكونسر فتوار مدة تزيد على الثلاث سنوات درس فيه الاخراج السينمائي. ولكنه عرف بعد هذا انه يميل الى المسرح في ما له علاقة بالاخراج، ولهذا تخصص في هذا الميدان.
ممثل فرنسا
ان خرج الى العالم ليمارس الاخراج والتمثيل، استقبله الفرنسي بكثير من المحبة، فقد دخل على الغور في "المسرح الاغريقي" والتي هو من أفضل الفرق التمثيلية. ثم لم يمض وقت قصير حتى ظهر على اليافطات الكبرى التي تستعملها الفرقة للدعاية. ما اختارت فرنسا الفرقة التي في ظلها في مهرجانات "بروكسل" اسم منير دبس على القائمة. في مرة ثانية اختارته فرنسا ليمثلها في المهرجانات الكبرى التي اقيمت في ايطاليا.
لقد قوت هذه المهرجانات في الثقه فجعلته يقدم على اخراج الكبرى، وكان اول فيلم اخرجه "العصا السحرية". وهو فيلم سوف يظهر قريبا ً في السوق. ثم في الفيلم الثاني فهو المعبودات والميلات".
في التلفزيون
ومن المؤكد ان الصحف الفرنسية كتبت عن هذا الشاب اللبناني خرج اول في التلفزيون الفرنسي. ثم صفقت له باريس مرارا ً وتكرار ً
بعد أن قدم لها أكثر من عشرين فيلما ً على التلفزيون.
ويقول منير أنه يستعد لاخراج فيلم جديد عن التصوير السريالي مع "بول كليه" و"ماكس ارنست".
اما التحفه السينمائية الضخمة التي سيفاجيء فيها العالم فهي "الامير بشير الشهابي" ولقد تحدث مع صديقه "الن كوني" الذي مثل في "أحدب نوتردام" واقنعه بأن يقوم بتمثيل الدور الاول في هذا الفيلم التاريخي.
بول سارتر
ولمنير في باريس صداقات على مستوى رفيع. ومن الذين يفخر بصداقتهم الفيلسوف الوجودي "جان بول سارتر".
ويقول منير: ان الكاتبة الفرنسية الشهيرة سيمون دي بوفار لا تزال تعيش مع بول سارتر في نفس المنزل، ولكن أحدا ً لا يدري اذا كانت حبيبته أم زوجته.
والغريب ان هذا الفيلسوف لا يرتاد الملاهي الليلية... ولا يسهر ولا يعربد. فهو يرى كل صباح في مقهى "الاوديون" في حي "سان جرمان دي باري" بصحبة فتاة صغيرة السن.
وأنت اذا نظرت الى بول سارتر دون ان تعرفه من قبل فيخيل اليك انك تنظر الى عامل بسيط. فهو قصير القامة أحول العينين، يجر رجليه على الارض، ويرتدي سروالا ً واسعا ً وسترته متهدلة. أما حياته الخاصة فبعيدة كل البعد عن الاستهتار. ومن الندر أن يمر حدث هام في حياة فرنسا السياسية أو الاجتماعية دون أن يعلق عليه، ولقد أصدر جريدة خاصة لمعالجة قضية الجزائر.
وبول سارتر يحب المسرح ويؤمن لأن في شخصية بطل الرواية طبيعة انسانية يخلقها الممثل.
وهو معجب اشد الاعجاب بالممثل الانكليزي "كيني" الذي كان يقف على المسرح أثناء تأدية دور عطيل قبل أن يخنق حبيبته ويصرخ في الجمهور قائلا ً: اتطلبون مني أن أعيد أمامكم هذا المشهد البشع؟
فهو يعتبر هذه الحرية التي تتحدى التقاليد والانظمة الحرية الكاملة للانسان الانسان!