فريال كريم بقلم الدكتور جورج شبلي
خِفَّة الدّم، ليس لسِيبَوَيه فيها عمل، ولا للفراهيدي إليها طريق. لها في كلّ جوٍّ مُتَنَفَّس، ويتقنها أَثقَبُ مَن يكون من الذّهن، وأوسعُ ما يكون من النَّباهة. والطّارئ الشَّحيح الذي لا يغزو النّفوس، لا يتدحرج عنه قبيح المَقال، لضعف أركانه، فَهَدمُ بُنيانه لا يتعسَّر.
فريال كريم قرأت على الجنّ رسالة بخِفّة دم فاستحسنوها، وطار لها ذكرٌ فيهم. انتُخِبَت في الحلاوة كما انتُخِب الماء من الفُرات، فكانت لطيفة الدِّراية فيها وتصرَّفت بها كلّ مُتَصَرَّف. وهي لم ينقص من قريحتها أو يغرب من لسانها، إذ ليس يكفي أن يختلف الإنسان الى الأساتذة يتلقّى عنهم، وإنّما يجب أن تكون هناك فطرة سَمِحة وطبيعة سخيّة يصدر عنها ما يُدهِش. من هنا، استطاعت فريال التي تطلب النّادرة السّائرة، أن تخلق الحماسة للضّحكة وأن يتحلّق حولها الألوف، وكأنها تقول لأيّ منّا " إِنسَ همومَك ". ومَثَلُها في الإضحاك وأثره مَثَلُ الحُسام الصَّقيل الذي يَحدث له، عند وقوع الشمس عليه، انبعاثُ شعاعٍ منه يجلو ظلام الأمكنة.
غيرها لم يعرف لغة الخِفَّة بل الهَزل، فكيف يدعونا الى لغة لا يفي بها؟ أمّا فريال فخفّة الدّم من مُخَبَّآت صناديقها، ولم تَخرج إلاّ من معدنها. من هنا، لا يمكن الموازنة بين ما بَذل غيرُها من الجهود في ميدان فنّ التَّفكهة فنالوا بعض النجاح المؤقّت، وبين ما عملته فريال في حفر وجهها مُؤَبَّداً في بال الضحكة نفسها، فالموازنة بين الحظوظ في هذا الصَّدَد، أو بين استجداء الضّحك وعاصفته العفوية، باب من الضلال.
إنّ قدرة فريال على العبور الى الناس بالضحكة وبالتّقليد الكاريكاتوري لم تضعها "وراء البرافان"، كما أنها أيضاً لم تذهب بحفيظتها التي أبعدتها عن مواطن الإبتذال. فهي كانت أَضبَطَ المونولوجيّين وأحسنهم تدبيراً في ما تتولاّه، فما باعت الإِماء والجواري على المسرح الذي لم يحفز ظنَّه فيها، وصحَّ قولُه: إستَجَدتُ فريال، فَحَسُنَ نَسلي.
البداهة في العمل المونولوجي مَقتلٌ خَطِر، وخلوّها في الطلاّت المباشِرة يوقع في مهاوي الركاكة والإسفاف. هذه البديهيّة في الكلمة والحركة أدخلت فريال في خاصّتها، لكنّ الحاجة لا تزال شديدة الى فهم دقائق هذا الفنّ الفُكاهيّ "الفِريالي"، أهو توقيف لم يُؤتِ أحداً قبلها، أم هو توفيق لم يُعطَ حقُّه من التبيين. أمّا سرّ التوفيق هذا، وهو ما يتعسّر على سواد "خفيفي الرّوح" أصحاب المحصول الضئيل، فقدرة المُنشِئ على ألاّ يَظهر كلُّ بيان له وكأنّه حديث مُرَدَّد مُعاد.
فريال كريم حلوةُ النادرة ومليحةُ الألفاظ والمُسرِفة في التَصَوّن، لم يزهّدْها في كلّ ضحكة صَنَعتها الى النّاس ما جرّبَته من قلّة الشّكر، فالمكافأة على القبيح مَعاشُها أَبرك. وهكذا لم تكن جفون الخُطوب نِياماً عنها، فأطبقت شَقوة الدَّهر على نفسها المُعذَّبة، لكنّ قسوة الزّمان لم تنل عندها من اثنين: سخطِها على مواقف الهَوان، وتمرُّدِ صورتها الظَّاهرة على لوعتها الدّفينة، فهي كانت تنثر الورد على الخدود، وشوكُ الورود يعمل في حَتفها، و"الدنيا هَيك".
قيل إنّ الإنسان إذا شرب وأكثر فهو سكران، وإذا دبَّ فيه الشّراب فهو نَشوان، في حين أنّ الطَّافح هو حصراً وَصفُ مُتلَقّي فريال، بَصَراً وسَمعاً، حتى ولو كان مَن بهم بُكماً خُرساً. فهذه الفنّانة الذكيّة وغير المَكدودة في صنعتها، هي سليمة آلات الحواس، ورقيقة الإسترسال، وسليمة الرَّونق، تنحتُ تارةً وتذوب تارة، وهي تُتقِن أسباب التمكّن فلا تستصعب حالاً ولا تتعقّد في شأن. وقد استطاعت فريال التي أَتقَنت بحِرَفيّة بارعة، تسطير كلّ ما يمرّ في خاطرها من ألوان النَّقدات ومُلَح الفكاهات ذات المَذاق الشَيِّق، أن " تَلقَط " جمهورها الذي وُصِف بأنّه مُدمِن فريال كريم.
فريال كريم "زمرّدٌ" شارد في الإذاعة والمسرح والتلفزيون والسينما، وبهجة في الأغاني، لم يقع التحدّي إليها كما وقع لغيرها، فلم تُنعَت بفساد المذهب لأنها أَلبسَته لَبوسها. وهو، أي فنّ التَّفَكُّه، قد كان قديماً، وبعد أن أَتَت عليه الأيام وقَلّ في أيدي المُتعاطين، عُمِل على تجديده ولكن من دون الإلتزام بما عُرِف من القواعد والضَّوابط، فأتى خُلواً من المدلول. أمّا فريال كريم فهي من جِنس المُتفكِّهين القِلَّة الذين لم يقعوا في التَّهريج والشَّنيع من السَّفاهة، وكان لهم حظّ في الإبتكار التَّرفيهي من غير كلام أَجوَف أو مادة الإثارة الرَّخيصة. وفي هذا الإطار يَقع الحساب ويُرفع الحجاب، ويَفرض الجمهور الثَّواب والعقاب.
مع فريال كريم عادت " كوميديا الفنّ "، من هنا، لم يكن عليها أن تُثبت قدرتها على الإضحاك، فحضورها مُثقَل بفَرض سرعة التأثّر به، وروّادها يُقبِلون عليها وقد استولَت عليهم بهجةٌ تمهيدية. ومهما يكن، ففريال كريم لم تعتزل الشُّهرة، وهي، كما الكبار، لم تشأ أن تودّع المسرح إلاّ وقوفاً.