الخوري يوسف الحداد 1865- 1949
بقلم: جوزف الهاشم نائب رئيس المجلس الثقافي السابق في بلاد جبيل
من الطريف ان يكون اجتماعنا اليوم في جبيل، بيبلوس الأمس، بيت مقدس فينيقيا وموطن الحرف، لتكريم ذكرى كاهن جليل من ابناء هذه المنطقة، حمل رسالة الحرف ورعاية الكلمة فكان بهما من المتفوقين المبدعين. انه حلقة كريمة من سلسلة طويلة في هذا المجال.
ففي البعيد من الزمن، يوم ران الجهل على العقول، وصارت المعرفة وقفا ً على قلة ضئيلة من ذوي الغني، فاءت اللغة الى رجال الدين تنشد عندهم حفظا ً من ضياع ونشرا ً بين الناس، فكان الكاهن اول معام في لبنان، وكانت السنديانة اول مدرسة جمع ظلها بين قراءة الحرف لتنوير العقل، وكرازة الانجيل لتصفية القلب والروح.
فيوم كان الشرق العربي في زحمة من الحوادث المؤلمة حدث من نشاطه وصرفت الفكر عن آفاقه، ويوم كانت اللغة تسمع حشرجتها في مختلف العواصم العربية نتيجة لسياسة تركية تعمل لتتريك اللغة وهدم كيانها، في تلك الحقبة من الزمن، ظل لبنان أمينا ً لوديعة الكلمة التي تسلمها منذ أجيال، يحتضن اللغة ويدفع فيها الدفء والحياة.
وفي الصميم من حياة لبنان العقلية آنذاك كان الكاهن الذي نذر نفسه لربه وأخذ بالرسالتين: رسالة الدين ورسالة العلم، فكان خير هاد الى طريق الحياتين. عمل بصمت وايمان، لا يبتغي من وراء ذلك الا الحق والخير، واذا بنشاطه يتفجر مدارس في عين ورقة ومار عبدا وكفرحي، ومطابع في قزحيا وطاميش والشوير، وكتبا ً في اللغة والأدب والتاريخ، وصفحا ً ومعلمين وبحاثة في بيروت وروما وباريس والقاهرة وبغداد؛ واذا بلبنان - والفضل الاكبر يعود لرجل الدين فيه - يصدر لغة العرب الى بلاد العرب بالذات.
ويسير الزمن، ويحمل القرن الحاضر الوانا ً من العلوم والتيارات الفكرية، تعصف بنفوس بنيه، فتطغى فيها المادة على الروح، وتضيع معها العقائد المخلصة في زحمة السفسطات، ويصبح الجيل بحاجة الى تبين سواء السبيل، فينتصب الكاهن في الطليعة من هداة الفكر ورواد الحقيقة، بعقله الناضج، وهديه السليم، وطرقه التربوية القويمة. وما كان الخوري يوسف الحداد الا واسطة العقد من اولئك الهداة الاعلام.
في اوائل سنة الف وثمانمئة وخمس وستين، وفي عين كفاع تلك القرية اللبنانية الوادعة في اواسط بلاد جبيل، ولد لحنا طنوس الحداد وصابات بنت الخوري يوحنا عبود، طفل هو الثاني من ابنائهما، فكان بسمة جديدة في هناء تلك العائلة. وكأنما جاءت تسميته - عبد الاحد - نوعا ً من الحدس الصادق نزل على الوالدين، اذ ان الولد ما كاد يعي الحياة حتى كرس نفسه لربه الواحد الاحد، فاختار درب الكنيسة، وتخرج من مدرسة مار يوحنا مارون في علوم الدين والبلاغة، ورقي الى درجة الكهنوت، وطار ذكره بين الناس واعظا ً يأسر الألباب، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من سنيه.
وشاءت الكرسي البطريركي ان تفيد من علمه ودرايته، فعينته كاتب اسرارها. ولكن هذا المنصب الاداري - على وجاهته وجلال قدره - لم يكن ليملاء همة الكاهن الشاب وطموحه. انه يريد البناء، بناء النفس والروح، بناء ناشئة يتسلم عقلها رخصا ً طري العود، فيتعهده بالصقل والعناية حتى يستقيم بين يديه انسانا ً كامل الثقافة، راجح المعرفة والاخلاق. وطريق ذلك، نشر العلم والتأليف. فانصرف اليهما يسلخ فيهما اكثر من نصف قرن حيث عرفته منابر التعليم في معاهد لبنان الكبرى ورددت صوته محافل الشعر وأندية الادب ولم يقف به النشاط الا بعد ان تجاوز الثمانين وقبيل ان يلبي نداء ربه في اواخر شهر شباط من عام 1949 فوارى الموت وجها ً مشرقا ً وجسدا ً فانيا ً، ولكنه لم يقو على اطفاء الشعلة التي اطلقها استاذ الجيل في رحاب الدين والأدب.
تلك هي الخطوط الكبرى لحياة رجل غنية الجوانب، غزيرة العطاء. ترك من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة في مجال الاخلاق والوطنية والاجتماع ما يعد ثروة للفكر والمكتبات. فمن كتبه: النجوى، المروءة اللبنانية، المرأة والحقيقة. ومن مسرحياته: ملك السجون، أرثور دوق بريطانيا، اللقاء، الاشباح، الشهيدان. بالاضافة الى مجموعة ضخمة من الرسائل والمقالات والى ديوان شعري لا يزال الاعداد قائما ً لنشره.
يبرز الحداد من خلال ذلك كله بصورة العلم الانسان، والاديب الوطني الاجتماعي، والشاعر، والمسرحي، والمترسل. وأنى لي في مدى نصف ساعة من الزمن ان ألم بكل هذه الجوانب، وفي كل واحد منها تكتب الفصول. حسبي الآن ان القي عليها بعض لمحات، واستعير منها بعض مقاطع، لنجلو معا ً تلك الصورة البهية المشرقة.
أ- المعلم الانسان
وشبيبة شابت نواصيها به شيب الدجى بالانجم الغران
وقفت على بحر تعب وتنثني همالة، تمتد في البلدان
ظهرت على صدر الزمان تزينه فكأنها الايام في نيسان
أفلست فيهم خالدا وهم هم في جبهة الأيام كالتيجان
ذاك هو موقف الخوري يوسف الحداد في يوبيل المعلم عبد الله البستاني وتلك هي اشارته الى النجباء المتخرجين على يدي الشيخ. وحري بنا ان نرد اليه قوله لأن هؤلاء التلامذة الذين زانوا جبهة الوطن لم يكونوا غرباء عنه بل كان يتداول تعليمهم والبستاني في معهد الحكمة حيث للمعلمين صولات وجولات.
وقبل الحكمة وبعدها، عدد كبير من المدارس نعم بهديه وادبه كمار يوحنا مارون، وقرنة شهوان، وفرير بيروت، وفرير جونية، حتى القى عصاه في معهد الرسل بجونية، وهناك عرفته عن كثب وقامت بيننا صداقة أعتز بها وأزهو. وانها للحظات لا تنسى تلك التي كان يطل بها علينا في قاعة الاساتذة شيخا ً جليلا ً يحمل وقر الثمانين وهو في همة ابن الثلاثين نشاط عقل، وحضور ذهن، وصفاء فكر، وبشاشة وجه. يبعث الهيبة والاعجاب في كل مرة نراه وكأنها المرة الأولى التي تبصره فيها العيون. انه من القلة التي كلما ازددت بها اتصالا ً عمق احترامها في نفسك، وكلما فاجأتها بطلب تدفقت منها خزائن العلم والمعرفة. لقد كان معجما ً حيا ً في الادب واللغة والدين والتاريخ، ينتفض اذا مس واحد من هذه العناصر. حدث ان كنت اجلس بجانبه في احتفال حاشد وقام شاعر معروف يتغنى بامجاد لبنان وروائعه، حتى اذا وصل الى قوله:
وبنوك في شرق البلاد وغربها وقف الزمان امامهم محتارا
تململ الشيخ وقال: أسفي على اللغة من هؤلاء المدعين، من اين جاءني بهذه "المحتار" ولا وجود لها في المعاجم؟ أما لو قال وقف الزمان أمامهم "محيارا ً"، لاستقام له الوزن وسلمت لنا اللغة.
سألته مرة في مجلس الاساتذة: ها قد مر عليك خمسون عاما ً في الكهنوت والتعليم فحق لك اليوبيل الذهبي فيهما معا ً. ولو قدر ان يقام لك مهرجان واحد، فلاي الاثنين تفضل ان يكون؟ أللكاهن ام للمعلم؟ فابتسم وأجاب: وهل تجد يا صديقي فارقا ً بينهما؟ أوليست الرسالة واحدة في الحالتين؟ أو لم يكن المسيح كاهن الكنيسة الأعظم ومعلم الانسانية الأكبر؟ وهل فصل بوذا وزرادشت وكنفوشيوس بين قدسية الدين وقدسية التعليم؟ رحم الله شوقي حين قال:
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم ان يكون رسولا
ولقد كان الحداد هذا الرسول الذي عناه امير الشعراء. زرع التفوق والابداع في عقول الكثيرين من الادباء النابغين فكان من تلامذته عشرات يفخر بهم لبنان، وتعتز بنتاجهم دنيا الشعر والأدب، منهم: جبران خليل جبران، وأمين تقي الدين، والامير عادل ارسلان، والشيخ ابرهيم المنذر ووديع عقل، وبركات بركات، ويوسف السودا، ويوسف الحويك، وميشال زكور، وجورج يزبك، وتوفيق حسن الشرتوني وغيرهم كثيرون. وقد ظل هؤلاء جميعا ً يرعون لشيخنا الكريم قدره، ويضمرون له الحب والوفاء؛ فيهدي اليه جبران كتابه "الأجنحة المتكسرة" وعليه هذه العبارة: "أنت أولى بأولى بواكيري". ويذكرون عهده كاهنا ً ومعلما ً فيترك لنا تلميذه الشرتوني صورة لشخصيته: "خلق كريم، وذهن متوقد، وسريرة طيبة، وهمة عالية، ومبدأ قويم وود خالص. كان كاهنا ً مثقفا ً، ومربيا ً صالحا ً، فصرف حياته الطويلة بين المذبح والمنبر ودفتي كتاب... كان بين تلامذته كأنه واحد منهم يعاملهم معاملة الند للند؛ لا آمر ولا مأمور بينه وبين طلابه لأنه كان يريد ان ينشئهم احرارا ً لا عبيدا ً، وان يعطيهم من علمه وثقافته وما يملك من الخبرة وادب النفس ما امكنه العطاء".
وتكتمل هذه الصورة بكلام لبركات احد كبار ممثلي الفكر اللبناني في مصر، حين يحدثنا كيف يلتقي في أستاذه كاهن المسيح بشخصية المعلم، فيرى فيه الرجل الذي كفر بزخارف الحياة وترفع عن مغريات الدنيا وكان القدوة الحسنة والمثل الأعلى للأخلاق الحميدة التي يجب ان يتحلى بها كل انسان ينشد الكمال. قال: "اعتزت به كنيسته لانه عمل بتعاليم ربه فنبذ دنياه ونظر الى سمائه. اذا صلى في الناس خشع الجميع لصلاته وتوزعوا حتى اولئك الذين فتر ايمانهم واهملوا واجبهم الديني، واذا وعظ الجمهور تفتحت الأفواه لكي تتلقى كلامه مع الآذان. واني لاذكر ايام التلمذة عندما كان يكلف بوعظ التلاميذ، فكنا نكاد لا نتنفس لئلا يضيع من مسامعنا كلمة يلفظها او عبارة يلقيها. انه كان يقدم لسامعيه عصارة من قلبه ونفسه... وعندما كان يخرج من الكنيسة الى قاعة التدريس، قولوا تبدل الكاهن المصلي واصبح الوالد والصديق. كان يدخل على تلامذته باشا فيرون فيه ابا ً يرشد ابناءه بكل ما في قلبه من حب وعطف، وصديقا ً يصدق احباءه بكل ما في نفسه من مودة واخلاص".
وبعد هذه الشهادة الحية يضع بركات صورة معلمه في اطارها المثلث قائلا ً: "هذا هو الكاهن الذي خسرته كنيسته، والمربي الذي خلت منه مدرسته، والوطني الذي فقده وطنه. انه ثالوث تجمع في الحداد. ولو جاز لي ان استعير من التعابير الدينية تعبيرا ً لا اتهم معه بالخروج على العرف لقلت: انه ثلاثة اقانيم تجمعت في فرد واحد هو الأب يوسف الحداد".
ب- الوطني والاجتماعي
قلما قرأنا له مقالة او طالعنا كتابا ً دون ان نجد صدى لحالة وطنية وقضية اجتماعية. وهو يتناول ذلك تارة بصراحة كما في كتابيه "اللبنانية" و "المرأة والحقيقة" وتارة بالرمز والمثل على طريقة ابن المقفع كما في كتابه "النجوى"، ولكنه في الحالتين جريء الى ابعد حدود الجرأة في الكشف عن الاخطاء والعيوب، مخلص عميق التفكير في البحث عن حلول لمعضلات يتردى فيها الوطن، انطلاقا ً من الاخلاق والسياسة الى العلم والزراعة.
كان ثورة مغلفة بالحكمة والرصانة والاصلاح، في عهد كان لبنان فيه لا يزال يتململ من الحكم العثماني ونتائجه، وكانت النفوس لا تجرؤ على الهمس ببعض ما تضمر.
يثور على الاقلام التي تعيش على التملق والتزلف، او تخشى الظلم فتلين وتجبن، فيصيح معرفا ً دور القلم "ايها القلم، يقولون لك: لن في جانب العروش، ورق دون التيجان؛ قل، لا عرش الا الحق ولا تاج الا الصدق. ايها القلم، انت لسان الانبياء وكاتب الوحي، انت في كف الصحفي كالسيف في كف الجندي. فانقض صاعقة وتلهب نارا ً. فان أجروك وفي غير الصحيح أجروك فانت نضنضة الأفاعي ووسوسة الجحيم".
يثور على السياسيين الذين تستهويهم كراسي الحكم فيبيعون في سبيلها ماء الوجه ويتوسلون لبلوغها كل شيء الا الكفاءة فينعكس الامر على الوطن الذي يدفع غاليا ً ثمن هذه التجاوزات يقول: لقد خلق الكرسي ليكون صاحبه نسرا ً، لا ما تحوم عليه النسور. فالمتربعون فيه يطوون وينشرون اما الكرسي فهو منصوب لا يتبدل. فان لم تجلس عليه النزاهة والعفاف فهو هيكل الوثنية كثرت آلهته، وعلى مذبحه تقدم الضحايا البشرية لالهة الطمع والاستبداد. عليهم ان يكونوا في كراسيهم كالروح في البدن يملأونها حياة، وما حياتها الا حزم وعزم، وحلم وعدل وعلم وعمل".
يثور على الدجل والمصانعة يتخذان سلما ً لبلوغ مأرب او لنوال مكسب. فان قال بهما قائل وبما يتبعهما من الكذب والحيلة والسعاية، صاح به الحداد: لافتراش النار وتوسد اعناق الأراقم أهون مما تقول. وما أصدقها صيحة في وجه عادات وآفات جرفت الاخلاق وتأصلت في النفوس حتى باتت وكأنها من متممات الشخصية ومستلزمات النجاح.
يثور على النفاق ونكران الجميل، فاذا في كلامه، ما بحكمة سليمان ومزامير داود من روعة وبعد آفاق. "وضعت يدك حريرا ً في يدي ولسانك رمح جساس في ظهر كليب. أنمتك في حضني حملا ً وديعا ً فاذا انت حية تلتف على عنقي. زرعتك زنبقا ً فجنيتك شوكا ً، وعصرتك عسلا ً فتجرعتك علمقا ً".
يثور على لصوص الأدب الذين يغيرون على ما للآخرين ويعملون به نسخا ً ومسخا ً ثم يدعونه ويخطرون بثوب لا خيط لهم فيه. وان قلت لهم: "اتقوا الله ببنات الأفكار، انتفضوا في وجهك واطلقوا عليك من فحيحهم واكاذيبهم ما تخال معه انك انت السارق وهم الأولياء المبدعون".
وكالفارابي وافلاطون وغيرهما من المصلحين يعمل لبناء مجتمع فاضل على اساس من العلم والاخلاق والصدق والتعاون. اما العلم فيريده بعيدا ً عن النظريات المجلدة التي تقول للانسان كن رجلا ً ولا تريه كيف تكون الرجولة، وتدعوه الى مجابهة المستقبل من دون ان تدله على سبيل الحياة. ولذلك رأينا الحداد يضع كتابه القيم "النجوى" ويجريه على لسان رجل يسأل - هو باحث - واسئلته تدور على الوطن وكيانه والمجتمع ومؤسساته والفكر وتربيته. وآخر يجيب - هو جهينة - وقد استمد أجوبته من الطبيعة، كتاب الحقيقة الخالصة ومدرسة الوجود الجامعة؛ هذا الكتاب المليء بالعبر والاسرار نأخذها عملا ً وتجربة من النملة والنحلة والنهر والشجرة لنطبقها في بناء الأوطان والمجتمعات.
والصداقة وحدها تبني الوجود على بهجة ومحبة وتعاون مخلص سعيد "لأن القلب الجائع لا تشبعه دنياه، ومهما توفرت له المسرات وطابت له الموارد يبقى فيه فراغ لا يملأه الا محبة الأصدقاء".
وقد كان من اثر المجاعة التي حلت بلبنان اثناء الحرب الكونية الأولى، ما دفع الحداد الى الدعوة لانشاء لبنان الزراعي لأن الزراعة من الوطن كالقلب من البدن والزاوية من البناء. انها اول عمل اوحى به الخالق وعمل به المخلوق، ولا حياة لأمة لا ترتزق من ترابها.
وهناك الكثير من الخطرات العميقة حول التعاون والاصلاح، والتربية والمال، وحب الوطن والاستقلال، والهجرة وتنازع البقاء، والاقدام وبركة العمل، وغير ذلك من الموضوعات التي يعالجها الحداد ويجدر بكل لبناني ان يعود اليها ويتعمق بها لانها متجددة ابدا ً في حياتنا، ولأن اجوبته عليها كحكم المتنبي تصلح لكل مكان وزمان وتعبر عن خاطر كل انسان.
ج- المترسل والمسرحي
نلج مع الرسائل عند الحداد بابا ً هو نتيجة مناسبات وجدانية في الغالب، بعيدة عن أي تصنع او تكلف. من هذه الرسائل ما يتوجه به الى تلامذة واصدقاء كيوسف السودا، وبركات بركات، وجورج يزبك ومنها ما يوجهه الى انسبائه او الى ابناء اخيه الذين قسا عليهم الدهر ففجعهم بالأب صغارا ً، ولكن عطف العم وسهره، وحنوه وعنايته كانت لهم خير سند وعزاء.
جاء في بعض رسائله الى ابن اخيه: "لا يروعك في اول الطريق وعورة المسالك فالحياة كلها جهاد من المهد الى اللحد، والحكيم من وجد عملا ً وجد. وهل تظن ان كأس الحياة تدار صافية؟؟ ومتى وجدت مياه البحر بلا حراك، تجد هذا العالم بلا اضطراب... ان الطبيعة تكره الفراغ فهي مشتغلة دائما ً و ولا تنيل الرغائب من يمشي اليها بين الرياحين... لا تقف في سيرك ولا تلتفت الى الوراء، ان الشبيبة ابتسامة في ثغر الزمن لا دمعة، ونار تشب الى العلو، لا قصبة تلويها الرياح. اما البعد الذي يؤلمك شوكه فليس هو ريحانة في وجهي".
وظاهر ما في هذه المقاطع من نصح وارشاد ودعوة الى الصبر والعمل، والى الجهاد ومجابهة الصعاب، والى الانسانية ومبادىء الاخلاق. وهي تفيض بالحب النبيل والعفوية الخالصة، وتزخر بالسهولة والبلاغة وسلامة الذوق الأدبي، فكأنها امثال تتقطر الى الأفئدة والعقول وتتحول الى دستور حياة يجب على كل فرد ان يأخذ به.
ومن الخير ان ننقل مقطعا ً من رسالة وجهها الى نسيبه الأديب الكبير مارون عبود وقد كتب اليه يسأله رأيه في تلميذه جبران خليل جبران. قال:
"اما جبران فهاك ما يعلق بذاكرة استاذه. درس علي جبران سنة واحدة فيها كنت له لسانا ً وقلما ً، وكان اذنا ً تعي ما عناها، ونفسا ً وثابة، وعقلا ً متمردا ً، وعينا ً هازئة بكل ما تقع عليه. وكان مقلا ً من الأخوان يزرع حقله في عقله، كثير الانتقاد، شديد التمسك برأيه، مفكرا ً، قلما ترتسم الابتسامة على ثغره، طموحا ً تحت مهماز لا رفق معه، ناظرا ً في افق بعيد... كان يأتيني بمقالات من عنده، يستقل بها فأرى فيها جسما ً متناسق الاعضاء، عليه مسحة من الجمال تحت ثوب من اللفظ لا يشاكل المعنى. فأمشي معه في ثقافته مشية من يرى تلميذة اكبر من تلميذ. ومن اول مقال له ادركت ما هو جبران وقلت له: "انك صائر شاعرا ً مطبوعا ً وكاتبا ً خياليا ً، فاتق الله والى الأمام. وكان جبران ينمو في اسلوبه نمو الحورة، وينبثق انبثاق الحوض، ومعه تقوى الروح العابثة المتمردة".
ذاك رأي الحداد في تلميذه العبقري. ولا اخال دارسا ً يمكنه ان يعزف بشخصية صاحب النبي ويشرح نفسيته بأعمق وأفضل مما حققه معلمه بهذه الأسطر المعدودة. انها احدى خصائص الحداد البارزة: دقة ملاحظة، وبعد نظر في الحكم على الأشياء والأشخاص، وبلاغة في الأداء.
وقد عالج شيخنا المسرح فكتب فيه عددا ً من المآسي ضاع بعضها ولم يبق منها سوى عدد قليل نسبيا ً ذكرته في مستهل هذا الحديث. زاوج فيها بين الشعر والنثر، فكان الشعر للمواقف العصبية، والنثر للقص والرواية. راعى فيها قواعد المسرح الكلاسيكي في الغالب، واهتم منها بوحدة العمل وادارة الحوار، فجاءت حية نابضة، تجعل الاشخاص يعيشون حوادثهم، وتبعث في المشاهدين جوا ً من الشعور والانفعال يبث فيهم الايحاء ويحركهم مع الأبطال الذين يتحركون امامهم. اما العقدة فقد برع في حبكها واشتدادها متدرجة حتى تصل الى الأزمة والذروة، وتجعلنا نرى الأشخاص وكأنهم يتصاعدون من جوف الحادثة ويغالبون القدر. وحالفه التوفيق في خلق الأجواء المسرحية وتلوينها باللون المحلي المناسب، فاذا بنا نشهد من خلالها عصور التاريخ ونسمع من اصدائها نفحات في الوطنية والتضحية يضوع منها شذا البطولة وتنهض من ارجائها مواكب العزة والشهادة.
د- الشاعر
لم تصل قصائد الحداد مجموعة بكاملها الى ايدي الدارسين. ولكن ما ظهر من متفرقات يكفي للدلالة على انه كان شاعرا ً مطبوعا ً، عميق الفكرة، ناصع الصورة، شجي البوح، موسيقي الجرس، مرن الصياغة، يتحكم بالاوزان والقوافي فتصدر على طواعية وانسياب. ومن بدائعه قصيدة الشاعر المترهب، حيث يظهر وكأن الدنيا بأسرها تغيب عن ناظريه، ولكن طيف لبنان يظل صورة في خياله، ونغمة في قلبه، وعنفوانا ً متمردا ً في اعتزازه. قال في وصف لبنان:
جبل على الدنيا اطل بمجده وغدا لأمثال المروءة مضربا
وطن القشاعم والأسود، وطالما كان المطار الى العلى والملعبا
نطحت مناكبه المجرة عزة ولغير ربك ليس يحني المنكبا
والبحر مصطخبا ً على اقدامه يدنو وينكص عن مداه اخيبا
والشمس تطلع من نواصي ارزه واليه ترنو حين تأوي المغربا
ونرى قميص الليل فوق ذراعه وشيا، ترصع بالنجوم، مذهبا
ونسيم لبنان رسول زهوره قابل اذا ما شئت انفاس الصبا
ووجوه انس شابهت ابداره قد أطلعت من كل عقد كوكبا
فتقابل المثلان، هذا ناظر قمر السماء، وذاك اقمار الربى
فكأننا في هذه الأبيات مع ابن الرومي شاعر الطبيعة وباعث الحياة فيها، ومع شعراء الاندلس في التشوق الى الوطن والحنين الى ربوعه وجمالاته.
ومع الشعر الوطني الذي يأخذنا بالرصانة والوقار، يطالعنا الحداد بلون آخر فيه من المرح والرواقية ما يلازم الشاعر حتى في المواقف المزعجة المؤلمة. زلت به القدم فكسر جنبه واضطر الى ملازمة الفراش مدة طويلة مع ما يرافق ذلك من تبرم وآلام. فقال مصورا ً حالته ومخاطبا ً جنبه:
لي جنب قد لاقى دهري في شد الحمل على ظهري
مكسور، أو لا، لم يدروا مجبور، أو لا، لا ادري
قالوا صبرا ً. قلنا صبر فاذا جنبي يعصي صبري
سودت وجوه دكاترة مع غيرك كالنجم الغر،
خيبت مراهم لو وضعت في الصخر، تؤثر في الصخر
أفسدت عقيدة من صلوا يا كافر، خف عقبى الكفر
فالدنيا مسرح آلام في مرعى آمال خضر
عذب، يا رب، العبد هنا وهناك تعطف بالأجر
ذاك هو الخوري يوسف الحداد الذي نجتمع اليوم لذكراه، وما ذكره بالغائب عن دنيا العقل والأدب. لقد كانت حياته فعل ايمان مستمر.
آمن بالكهنوت رسالة علوية تضع نفسها في خدمة الخلق مثلها في خدمة الخالق، فتكون القدوة التي تقرن القول بالعمل ليصح ان يقال فيها: اسمعوا اقوالهم وافعلوا افعالهم.
آمن بالانسان طاقة خلاقة وارادة مبدعة تنحني دونهما الصعاب، وتتفجر منهما عبقرية البناء، فاذا العقل والعلم يشاركان القوى الخارقة في عملية الخلق والابداع لما فيه خير الانسانية ورفاهيتها.
آمن بالمحبة تبني ولا تهدم، تصفح ولا تنتقم، فتكون شرعة الحياة ليسود العدل ويعم السلام.
آمن بالعدالة سيفا ً قاطعا ً في يد الحق، لا آله طيعة تلتوي حيث يراد لها المسايرة والالتواء. عدالته هي تلك المرآة الصقيلة التي تكشف عن كل ما يعترض سبيلها واذا اشرقت عليها الشمس ازدادت تألقا ً ولمعانا ً، لا ذلك الثلج الذي يأخذ البصر بياض أديمه، فاذا اشرقت عليه شمس الحق ذاب وكشف عما تحته من مخبات وأدران، فيصح فيه قول جبران:
ان عدل الناس ثلج ان رأته الشمس ذاب
آمن بالوطن، يبذل الانسان نفسه وولده في سبيله، ويقدم مصلحته على كل مصلحة، ويتخذه فعل عبادة بعد ربه الخالق.
آمن بالكلمة، وبأنها تميت وتحيي، فصان قلمه عن التبخير والتحقير، وكان له في مواقف النقد البناء، ما قوم الالسنة وترك ذخيرة وتراثا ً.
وما جحد لبنان فضل شيخه في الحياة، فكان تكريم الدين له برقيم بطريركي ينعم عليه بلقب "خورأسقف" مع جميع الانعامات المختصة بهذه الرتبة، وكان تكريم الدنيا بوسام الاستحقاق تعلقه الدولة على صدره فيزهو الوسام بقدر ما يزهو الصدر الذي يحمله.
وما جحد لبنان فضله بعد الموت، فاقام له حفلة الذكرى الاولى للوفاة في دار الكتب الوطنية في بيروت تكلم فيها وزير التربية وعدد كبير من الشعراء والخطباء. وكان ختامها قصيدة من روائع تلميذه المحامي الشاعر جورج يسبك، والتي نختتم كلامنا بابيات منها:
معلم الجيل، هل خليت شاردة لم تطلق الرسل في آثار حاديها
أرسلتهم في سبيل الضاد، فاجترحوا من اجلها معجزات، لست أحصيها
نبي جبران في الابداع اولها عدا ً، وشعر تقي الدين ثانيها
هذا مزارك، يا حدادنا، وصلت جبيل حاضرها فيه بماضيها
بالامس باهت بآثار الجدود بها واليوم تاهت بآثار ابنها تيها
جوزف الهاشم