ميشال طعمه بقلم الدكتور جورج شبلي
إذا كانت نفس الحُرّ تحتمل الظَّمأ لانحيازها الى العزّة، فالهوان الذي يودّ الإجتماع بهذه النفس لا يجد إليها سبيلا. وليس بمُنكَر أو غريب أن يُشهَد لها بالفَضل، فهي والجيّد من المزايا أَخَوان مُتحابان وصديقان متصافيان، وذلك لنُدرة وقوع هذا المَذكور الذي لطالما كان له رونق وماء، عند المقابلة بينه وبين ما يسود في طباع الناس من كسب العيش عن طريق التزلّف.
ميشال طعمه لم يكن من زمرة الأتباع وطلاّب المغانم وأرباب الغايات، بل تعقَّبَ البراعة مهنة تليق به، فما خطا لتحصيل مجد ولا سعى الى مقام فخر ولا حرص على عُلوّ ذكر. لكنه سلك خطةً واحدة تركن الى الثقة بالموهبة التي تُوثِّب الخيال وتُضرم في المشاعر، ابتغاءَ مرضاةِ الشِّعر الزّلال. والشِّعر تعبير مُشرق صافٍ لا يفيض عن رشوة، ولا يصدر عن كَذب مَغضوبٍ منه. من هنا، كان ميشال طعمه أثيراً لدى الشّعر، أكثر ممّا تلقّاه من بني قومه الذين اشتغلوا عنه وأَسلموه وتعرَّض له بعضهم بالتَّسفيه، والذين يصحّ فيهم القول: يا ليت قومي يعلمون بما أَقبَلَ به الشّعر عليّ، وجعلني من المكَرَّمين. ونضيف نحن: قَبَّح الله زماناً يقرِّب الى الدَّخيل حصاناً والى الأصيل أتاناً.
لقد عرَّج ميشال طعمه على ظلال مدينة الشّعر، فقطع عرض أرضها، وألقى بها عصا المسافر فاشتدّ بها وَلَعاً، فحلَّت منه محلاّ بعيداً، ولمّا قضى سار الشّعر وراءه راجِلاً. كان لميشال طعمه من رقّة الحسّ ودقّة الذَّوق ما طَمَس بهما عِنديَّات سواه، فهما عدَّته في مختار شعره حتى وقوفه على ثنية الوداع، إذ لمّا أخذت الأيام من جسمه وقوّته، لم تأخذ من ظرفه وأدبه. فالرّجل نادمَ الجَمال هذا الذي لُثغتُه كانت تزين قلمه، والذي طار فرحاً بألوان الكلام الذي ما كان مزاجه إلاّ الفرح. لقد سلك طعمه شِعاب التعابير فتغلغل، وجال في ميدان التصاوير فسَبَق، وأودع الشّعر الغنائي هيئات الموهبة فانتقل معه من جنّة الى جنّة.
الشّعر الغنائي، على عكس ما يراه الكثيرون، صعبٌ ومُنهِك. فإِن كان يحرّر الخَيال، فالنَّغَم عصيٌّ على أوامره، وطولُ التعبير بنيانُه معه دقيق مُحدَّد. إنّ ميشال طعمه في شعره حاذقٌ في عمل الطُّرَف، كبراعة أهل الصّين في التّصاوير والنّقوش، وعلى هذا الأساس فأَغلبُ مَن صنعوا شعراً غنائياً بعده كانوا عمياناً، والأَقَلّون منهم عُوراً. فالإبداع فطريّ وليس تركيبة هندسية، وهو متتابِعٌ وليس موسمياً، فوحدهُ دَوامُ الوَصل لا يودي بالحبّ. وعلى هذا، فميشال طعمه الأَرَقُّ نسجاً، يذيب الشعرَ والشّعرُ يذيبه، هو الرَّقيق الغزير الذي إذا وصف أوفى وإذا أحبّ أَجزى.
قيل إنّ للكلام أعماراً، وهذا يمكن انسحابه على الكثير ممّا طرحته الألسن وتفتّقت عنه محابر العقول، لكنّ القليل الباقي المُتعافي من لدغات النسيان استمرّ على كرور الأيام لأنه تعاطى مع البُعد الواقعي الذي يعبّر، ومن دون دَجَل، عن كوامن نفس الجماعة. ميشال طعمه لم يمارس المناورات اللفظية في شعره، ولا الإسراف في الزّخرف لتزيين المعاني الباردة، ولا جنحَ صوب الصناعة الفنية، فالفكرةُ البسيطة القريبة تأتي أولاً، وبعدها يأتي الوَرَق. ويعود ذلك الى الطَّبع والروح، أو الفطرة السليمة الغنية والنادرة التي ناولته إيّاها الأرض، وهي العصيّة على "نماذج" طارئة استُغلِقَت عليهم حقيقتها، وهي بالذات سرّ امتطاء المُبدِع شعاع الإعجاب، ولا سيّما إعجاب الأسطورتين: وديع الصافي وصباح.
ميشال طعمه في قصائده جاحظيُّ الجَري، يسطّر كلّ ما يمرّ بخاطره من ألوان الكلام، بملاحة واستقامة. ما ترك مألوفاً في واقع الحياة إلاّ ورصفهُ شعراً غير مألوف، فبينه وبين الوقائع قرابة ونَسَب، هو ابن الطبيعة والضيعة والمدينة، وابن أقاصيص الاشتياق والبلد المنكوب. لقد كتب الرَّجل لنفسه التي ترجمت للآخرين، كتب عن الحب والحنين والآخ، وعن السَّهر والحيرة واليأس، وكتب في الحرية والنقد السياسي فوق خشبة شوشو. نوّع في الفولكلور والنّمط الحديث ودمج واحدهما بالآخر، فكان النّاي في شعره متأبِّطاً أوتار القيثارة. هذا الميزان الجديد في كتابة الشعر الغنائي لم يَسِر على سُنَّة التراثية بحذافيرها، ولا هو طلَّقها بالثلاثة، بل اشتقَّ له فرعاً بنيتُه إشتراكيّةٌ تمدّ يداً الى التراث ويداً أخرى الى الحداثة، وأهمّ ما فيها أنّها كُتِبَت مُلَحَّنة لتُغَنّى، ما سهّل كثيراً على فيلمون وهبي وفريد الأطرش وسواهما.
أن تثبتَ نفسك بين أنداد لك، عملٌ لا غرابةَ فيه فهو ممكن الوقوع. أما أن تجهد لتجد لك موقعاً ومنافِساً بين الأَهمِّين، فهو ما لا تلمح له ظلاً في نادي الكِبار. وهنا تكمن "أعجوبة" ميشال طعمه، هذا الذي تجاوز الكاتبِين الى المواطن الشائكة، ووصل الى مَدار المُؤَثِّرين في الفنّ من دون كتاب توصية. و"الأَهلا" التي قوبل بها ميشال لدى قَرعه باب هؤلاء السلاطين، فيها الجواب كلّ الجواب. وعندما جمعتهم المحافل وضمّتهم المجالس، ازدحمت المُقَل واستُعجِل المقال، فالوافدُ ليس مُتَدَرِّجاً. إنّ لقاء ميشال طعمه بالكِبار وضعه في موقع المُواجِه، حتى قيل عن الأغنية الشعبية اللبنانية بأنها مجرى ذو ضفَّتَين: الرحابنة وميشال طعمه.
ليس هنالك من شكّ بأنّ شكوى الزّمان هي من الظواهر الإنسانية التي يجدها الباحث في أكثر ما أُثِرَ عن القدماء والمحدَثين. لكنّ نفس ميشال طعمه المُفعَمة بالنُّبل والصّفاء، والمقتحِمة كرائم الصِّفات، مسَكَته عن التعرّض للذين كان الشّحُّ عندهم بثمرة الفَهم أبرزَ خصائصهم. لكنّه، وإن مال عن هؤلاء، لم يَشِح بقلبه عن وطنه الذي هو بسطةُ رزقه، فكان له معه عهدٌ مكتوب. فميشال طعمه لم يستكثر أن يكون للبنان معه هوىً وتَشَبُّب، فلم يتقشَّف في حبّه، وما كان له خلوةٌ إلاّ معه، وما رمى باسمه إلاّ صائباً. لكنّ الرَّجل سيق الى المقدور قَهراً فلم يُنصَف، وظالموه كُثُر، فعسى أن يتقدَّم مجوس الأمّة لِقَلبِ الطَّعنة هديّةَ تكريم، فلا نُجبَر على القول: خالِقُ الظّالمِ ظالمٌ هو أيضاً.