صلاة عند تخوم العدم: قراءة في ديوان الشاعر عباس بيضون
ماري طوق: أستاذة في الترجمة والأدب الفرنسي
عباس بيضون أحد أهم شعراء وأدباء وصحافيي لبنان والعالم العربي وقد نال مؤخرا ً جائزة الشيخ زايد بن سلطان عن روايته "خريف البراءة" بعدما كان رشح لها سابقا ً عن ديوانه "صلاة لبداية الصقيع" وهذه مقتطفات من المقالة كتبتها زميلتنا الأستاذة ماري طوق حول ديوان الشعر هذا.
كان الشاعر مالارميه قد تحدث عن "الشتاء الواضح البصيرة"، والشاعر فيليب جاكوتيه عن هذا الفصل "الذي يحتل الفصول كلها"، كذلك شتاء عباس بيضون في ديوانه الجديد "صلاة لبداية الصقيع" شتاء" مبصر ونظيف وكامل الوضوح"، شتاء يتسيده الجفاف: "النهار قاحل تماما ً وحين جرحته بظفري لم تنزل منه قطرة واحدة" (قصيدة "عتمة")، والاحتراق الأعمى، والصمت. عسير هذا الوحي الذي يريد الشاعر استنطاقه من الصمت: "لا شيء هنا سوى الوحي والوحي لا يتكلم كثيرا ً وينفذ بالكاد من الفكين المطبقين، يصل حرفا ً واحدا ً ويتحطم قبل أن نفهمه "(نساء الزهايمر"). واذا نطق الصمت فبالأسرار التي يمنحها العدم: "الاختبار الأعظم يعيدنا محترقين الى المحطة. قبل ذلك تحترق الأجوبة كلها، ونبقى مطمئنين لأن الجثة تعرف" (...)
الابحار مستحيل لأن الزورق غير موجود أصلاً: "لن تجد زورقا ً هنا، لكن السابحين لا يدركون أن هذا الصمت قد يكون حطام سفينة، وأنهم قد لا يخرجون أحياء من العصر التوراتي" ("الغراب"). واذا وجد الزورق فهو لا يبلغ مرماه أو أنه يبحر الى حيث لا يصل أحد: "سرنا مع ذلك بعيون وصدور فارغة / المدينة مرئية من خلالنا / استرددنا أعيننا وسلاحنا / ووضعناها مع الذخائر في قارب / وحججنا زمرا ً / يطير فوقنا الهدهد / الى حيث لا يصل أحد."). ليس في هذه الصلاة أي فضاء خلاصي فالملائكة احتجبت والمزامير سكتت، والنحلات، وهن رسولات الكلام (اللواتي كن فيما مضى يحططن على أفواه الشعراء) أماتهن الصقيع. ما أبعدهن عن نحلات الشاعر الألماني ريلكه: "نحن نحلات اللامرئي. بكامل اللهف نجني عسل المرئي لنسكبه في قفائر اللامرئي الذهبية الكبيرة"! الا أن الشاعر يصارع كثور مستعد ومتأهب للمواجهة وان تحطمت قرونه. انها معركته لرأب حطام الجسد في ملحمة النفس الفظيعة هذه: "جمعت أصابعي من عيدان الطريق وعظامي من الصفيح ومسامي من قطرات المطر"... هذه الصلاة التي تقام عند تخوم العدم سبحتها محبحبة بمخيلة الشاعر "التجميعية" (من تجميعة: "باتشوورك") الناهلة من مصادر لا تحصى. على أية حال لا أحد يمكنه أن يعرف كيف ينسج عباس بيضون خيوط صوره، كيف تحلق نحلة الكلام فوق أزهار الاستعارات (...) ولكن مهلا ً من أين تأتي هذه الماوية رغما ً عن اليباس؟ كيف بوسع قشة أن تبعث دفئا ً في الصقيع؟ لعل مبعث الماوية والدفء عائد الى يد الكتابة بأصابعها المتعاوضة، تلك التي كلما بترها الحب فرخت أغصانا ً جديدة وبسقت مالئة فضاء الكتابة، والى حقيقة التجربة الذاهبة حتى آخرها، حتى أقاصي خوفها، الملتصقة بصوتها المدانية بلغتها لما يفلت منها في تجربة شعرية قادرة على احياء العالم. واذا كان ثمة "أزهار للشر فهناك أيضا ً أزهار للصقيع."