خطاب الدكتور فيليب حتي في جبران خليل جبران

للمتكلم في سائر دروسه العلمية التاريخية غاية واحدة هي الحقيقة. وفي سعيه وراء الحقيقة يجرد نفسه على قدر المستطاع من كل غرض نفسي ومن كل هوى وشعور ويحاول عن طريق العقل المجرد ان يتحقق الحقيقة كما هي. ومتى ظفر بالحقيقة يعبر عنها وينقلها لاذهان الاخرين بابسط الطرق واسهلها واخصرها. فالغاية التي ينشدها هي الحقيقة المجردة والطريقة التي يجري عليها عقلية عمومية لا نفسية شخصية. اما اسلوبه فالنثر الناشف. غير ان ذلك كله لا يعميه عن الواقع وهو ان الانسان لا يحيا بالحقيقة العلمية فقط وان له طبيعة ثانية هي الطبيعة الشعورية التي تطلب غاية اخرى هي الجمال والتي لا تكتفي بشيء يسد حاجتها سوى الجمال.

وها نحن الليلة قد اتينا لنكرم مواطنا اتخذ الجمال غرضا اسمى في حياته وولد الجميل برسومه وكتاباته وتحلى هو نفسه باجمل الاخلاق والصفات. ان جبران فنان وشاعر، مثله الاعلى الجمال وطريقته في البحث نفسية شخصية واسلوبه رمزي خيالي شعري. اسلوب كهذا لا بد ان يجيء في بعض الاحيان غامضا. فكتابات جبران ومولداته وان لم يكن القصد الرئيسي منها تغذية العقول الجائعة فهي بلا شك مصدر نور وحرارة وسعادة وبهجة القلوب والنفوس.
ولجبران الكاتب تأثير في الآداب العربية الحديثة لا يقاس فقط بالعدد الغفير من الذين يقرأونه وينتفعون به. بل بذلك الموسم الجديد من المنشئين الذين يحاولون ان يقلدوا جبران ويتخذوا طريقته وينسجوا على مثاله. موسم نشأ وازدهر كالفطير في وقت قصير وعم سائر البلدان العربية حتى انك لا تكاد تفتح صحيفة عربية صادرة عن بيروت او القاهرة او بغداد او سانبولو او بونس ايرس الا وترى منشئا جديدا يسعى للكتابة على الطريقة الجبرانية.

نعم ان الاسلوب الباطني الخيالي بما فيه من التعابير البيانية البديعة والسجع المنمق هو قديم في تاريخ الاداب العربية يرجع الى المتصوفة في صدر الاسلام الذين اقتبسوه من مصادر فارسية هندية ولكن بطل يوبيلنا بفضل سيطرته على احكام هذا الفن وبداعي قوة تصوره وصفاء تخيله النادر المثيل وبسبب دقة شعوره وسمو ونبالة تفكيره اصبح ابا لطريقة جديدة في الانشاء العربي والانكليزي يصح تسميتها الطريقة الجبرانية. سوى جبران يصف الكلام الفارغ صفا ويمسح عبارته بمسحة الاصطناع والتقليد والتكلف. اما جبران فهو يستنبط اللآلىء الفكرية وابدا يصوغها في قالب طبيعي بديع.

ولجبران، فضلا عن المنشئين المقلدين، جيش من المحبين المريدين الذين يجلون اسمه لدرجة متناهية وفي ذلك مقياس اخر لدرجة تأثيره الادبي وربما كان بين هؤلاء من يكاد يعتبره نبيا وينزل كتاباته منزلة الكتب الموحى بها. ربما كان جبران نبيا بمعنى. فكل من عالج مبادىء الفضيلة والبر والصلاح وقرب فهمها للاذهان بعبارات جديدة منطبقة على روح العصر وحبب قبولها وغرس اصولها في قلوب بني الانسان انما هو بذلك المعنى نبي. وما ذلك بالكل بل لنا ان نقول ان الواحد منا على قدر ما يخدم مقاصد الله هنا على الارض وينفذ خطته الالهية لترقية بني البشر وتقدمهم على قدر ما يعضد قوى الخير لتتمكن من قوى الشر وينصر عوامل النور لتتغلب على عوامل الظلمة – يكون ذلك الواحد شبيها بالله مخلوقا على مثاله وعلى هذا المبدأ يكون عريس الحفلة نبيا واعظم من نبي.

وفيما نحن مواطنيك ايها السيد جبران نتهلل الليلة ونفاخر بحق بمآتيك الادبية والفنية، ترانا واثقين بان المستقبل سينم عن مآت اكثر عددا واكبر عظمة تعود على ذكرك بالفخر وعلى الاسم السوري الذي نتسم جميعا به بالمجد.

المعرض العدد الرابع والعشرون كانون الثاني- نيسان 1929، ص 18.