على أطلال معتقل "الخيام" لوحات عكست عمق الإنسانية و قوة المقاومة بقلم بشرى بن فاطمة
عندما يصير الألم أملا يعانق الوجود و يتسلق عقبات المنشود، تصبح الفكرة المجنونة مشروعا و صرخة و رؤية تقدم نوعا جديدا من التعبير و الفن الإنساني، استطاع أن يطوّع المأساة و يحولها إلى تجربة إيجابية، هكذا فكر أكثر من 55 فنانا عربيا و أوروبيا، بتحويل معتقل الخيام بالجنوب اللبناني إلى مرسم مكثوا فيه و أعادوا صرخات التعذيب و الكبت و القهر و الإعتداء التي أرجع صداها هذا المعتقل بجدرانه و زنازينه و قضبانه الحديدية، كان ذلك سنة 2002 بمناسبة مرور سنتين على تحرير الجنوب و إطلاق سراح أسرى المعتقل الذي يعد شاهدا على سنوات الإحتلال البشعة، و الممارسات الإسرائيلية اللاإنسانية في حق معتقلين اختاروا طريق المقاومة و مطلب الحرية و الكرامة، فبقيت دماؤهم على الجدران التي رآها الفنانون و لمسوها كما شاهدوا عتمة الزنازين و ضيقها و متانة القضبان، فكان ذلك السيناريو الحقيقي المرير ملهما لهم كي ينطلقوا في كتابة فنية لتجربة قاسية سلبية بأسلوب فني إيجابي خالد ليتم إنجاز مئات الأعمال مما جعلت الأوساط الثقافية اللبنانية تطالب بتحويل معتقل الخيام إلى متحف و ترك ملامحه كما هي مع اللوحات المنجزة، لكن عدم استقرار الرأي السياسي أجل الفكرة، و في سنة 2003 أعادت الصدفة الفنان اللبناني نعيم فرحات تاجر اللوحات الفنية المقيم بأمريكا إلى وطنه الأصلي ليجد نفسه أمام "سمبوزيوم معتقل الخيام" الذي وجد فيه أعمالا إنسانية معبرة اقتنى منها قرابة 104 عمل فني، و نظرا لحساسية المعتقل و تاريخه و آثاره الوحشية لم تهمل القوات الإسرائيلية الفرصة في عدوانها الأخير على لبنان لتقوم بنسف كامل للمعتقل و تدمر كل ما قد يجعل منه شاهدا على جرائمها ضد الانسانية، و لعله من سوء حظ الإحتلال أن ثمة من يحفظ التاريخ و الحق الإنساني ليصبح نعيم فرحات منقذا لـ104 عملا فنيا يسرد قصص آلاف المعتقلين...
معتقل الخيام من الإنشاء إلى التدمير
يقع معتقل الخيام بموقع إستراتيجي على تلة مرتفعة ببلدة الخيام يطل على شمال فلسطين من جهة و على مرتفعات الجولان السورية المحتلة من جهة ثانية ، أقامته القوات الفرنسية أيام احتلالها للأراضي اللبنانية سنة 1933 ليكون ثكنة عسكرية و مقرا لها بالجنوب، و إثر نهاية الإستعمار تسلم الجيش اللبناني الثكنة و ظل يستعملها كمعسكر، إلى أن قامت إسرائيل بإجتياح الجنوب سنة 1982 حيث تسلمته و استغلته كمركز استجواب و بانسحابها الجزئي من الجنوب سنة 1985 و غلق معتقل "أنصار" بقيت بلدة الخيام تحت السيطرة الإسرائيلية لتتحول ثكنة الخيام إلى معتقل بديل.
بلغ عدد المعتقلين ثلاثة آلاف شخص منهم 400 إمرأة قتل منهم 22 تحت التعذيب.
يتكون المعتقل من 5مبان يضم 67 زنزانة جماعية طولها لا يتجاوز ثلاث أمتار و عرضها متران يحشر فيها من 5 إلى 9 مساجين يأكلون ينامون و يقضون حاجاتهم البشرية في نفس ذلك الضيق و تلك العتمة، و عددا من الزنازين الإنفرادية التي يختلف شكلها نصف مترعرض و نصف متر طولا و أسلوب التعذيب فيها فهي عبارة عن صناديق ضيقة و خانقة. و في 23 ماي 2000 هربت القوة المسيطرة على المعتقل التي يشرف عليها جهاز الميلشيات اللحدية بعد الإنسحاب الإسرائيلي، و اقتحم الأهالي المعتقل ليطلقوا سراح 142 أسيرا متبقيا.
و بهذا التاريخ الحافل تحول سجن الخيام إلى ذاكرة وطنية و أصبح رمزا للحرية و شاهدا على إيمان و تضحية المناضلين و على إرهاب الإحتلال الذي يدّعي الديمقراطية و حقوق الإنسان.
شغل معتقل الخيام العالم من سنة 1985 إلى سنة 2000 و أثار ما ترك فيه سواء في نفسيات الأسرى أو في جدران المكان الملطخة بدماء الأحرار المناضلين غيض إسرائيل و حثها على الإنتقام منه بتدميره إثر عدوانها على لبنان في جوان 2006 و إنهائه، ظنا منها أنها ستمحيه من ذاكرة الوطن لكنها لن تتمكن حتى لو دمرت مسحت ملامحه بالكامل.
فن ينسف القضبان و يتحدى التدمير
رغم أن إسرائيل نسفت بهمجيتها معتقل الخيام إلا أن إجتماع أكثر من 55 فنانا فيه قبل 4 سنوات و وقوفهم على أطلاله الكئيبة خلد أعمالا فنية حوّلت الذكرى الموجعة إلى تحد صارخ خالد لا يزول، "و قالت لي الأرض لما سألت أيا أم هل تكرهين البشر: أبارك في الناس أهل الطموح و من يستلذ ركوب الخطر" بهذه الأبيات من قصيدة إرادة الحياة عبّر الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي و بهذا العناد كانت التجربة و كان التحدي عن طريق الفن و ما زاد من قوة هذا التحدي إقدام نعيم فرحات على إقتناء 104 من الأعمال الفنية، فقد أنقذ التجربة من التدمير و الكتمان و صدح بها دوليا و عربيا في معارض نشرت صورة المعتقل و سلطت عليه الأضواء لا كمكان جامد بارد قاس و لكن كعمل إنساني فني ناطق يروي قصة كل أسير مع الظلم و التعذيب.
جمعت هذه المجموعة عدة فنانين داخل المعتقل الذي بدت ساحته ورشة عمل فنية بعد أن اتخذ كل فنان موقعا له داخل زنزانة يتلاءم و موضوع لوحته معتمدا على كل ما فيها من أشياء ليتميز كل فنان بأسلوبه و يتنافس مع زملائه مما خلق حماسا و جدلا فنيا و خلقا و إصرارا على نحت عذابات آلاف المساجين و من بين الفنانين المشاركين نذكر الفنان السعودي "عبد الجبار اليحي" الذي يعرف بأسلوبه الفني المجسد للواقع و الذي صور معاناة الأسرى، و الفنانة الليبية "إلهام الفرجاني" التي اختارت الأسلاك الشائكة و بعض من تراب أرض المعتقل لتحوله إلى تعبير فني في 6 لوحات تقريبا و" حسين عبيد" من سلطنة عمان و الفنانة الأردنية "هيلدا حيارى" و اللبنانية "فاطمة الحاج" و الفنان السوداني عبد الوهاب الدرديري...
و غيرهم من الفنانين الذين اعتبروا أن هذه التجربة تعد في حد ذاتها انتصارا لانها استطاعت أن تلفت إليها أنظار كل الأحرار و تبقي معتقل الخيام في الذاكرة الحضارية المميزة لتاريخ المقاومة اللبنانية خصوصا.
Artwork by Talal Moalla
Artwork by Nabil Najde