لويس أبو شرف... علامة فارقة في زلازل الخطابة بقلم الدكتور جورج شبلي
من النُّبوغ ما يَستظِلُّ بفَناء الثّورة في مُستَهَلّ الصِّبا، فينفجرُ بُركانُه أتوناً مُتَسَعِّراً يرمي بالّلهب مَخازي الأَحداث وفواحشَ الناس، والويلُ لمَن يُصلى بلسانِ هذا النَّابغ. ومن النُّبوغ كذلك ما يفيضُ عن شِقّ القلم من حلاوات الأفئدة، فيُلقى القِيادُ الى الفطرة الخصيبة لتُطَرِّزَ ضُروبَ الهوى بأهداب الصُّوَر. لويس أبو شرف زوَّج نارَ الخُطاب بهمسات الجَمال، وحمَّلهما تَواصِيَه لإنجاب الدُّرَر، والحال، أنّه إذا فتَّشنا في ذخائر أبو شرف، لا نجدُ سوى الذَخائر.
لويس أبو شرف بين مُكتَري الخطابة هو مُعترِضةٌ من عدَّة صفحات. إنّ خُطابه النظيفَ البُقعة والذي أُولِعَ به الكُثُر، يلطِّخ ولو بالتَّدليك، ويَغرزُ في الصّخر ارتعاشات، لتصطكَّ الرُّكَب وتزدحمَ المُقَل. فهذا الخطاب الذي لم تَخبُ مصابيحه ولا هدأت ريحُه في أندية أبو شرف، كان علامةً فارقة بحيث أنّ أيّ إشارة من إشاراته هي حُكم، وأنّ أيّ طرح من أطروحاته هو غُنم. من هنا، لم نعرف من رجال الخطابة مَن كان له فضلُ السَّبق في مصنوع الكلام الذي يشوّق القلوب والأذواق، ويستميل العقول، مِثالَ أبو شرف الذي كان أَشهرَ مَن أقبلَ الناس عليهم، فلم يَدُم في أذهانهم إلاّ صوته. ربّما لأنه لم يكن كغيره ممَّن يفتتنون بالتَّرف الأرستقراطي، فيتوجّهون الى خواص الخواص ليتذوّق كلامهم الذي لا يتنفّس فيه إلاّ المثَقَّفون. إنّما كان يصقل تعابيره المُغَلَّفة بالجَمال لتكون في متناول الجماهير، كلّ الجماهير، وتُبهرَ وَضاءتها العيون، وما ذلك سوى سِحرٍ يولِّه الأَسماع أو نوع من القدرة على خلق أجواء من الحُلول بينه وبينها. من هنا، لا يستطيع التأويل أن يحشرَ أنفه في طيَّات العلاقة بين أبو شرف وجمهوره، وهي علاقة سببيّة بين الفعل والإنفعال، كالنار التي تُسبِّب في غَلَيان الماء.
لويس أبو شرف المُفَوَّهُ الرَضيّ الذي يتمختر في مطارح الحقائق، كان سبّاقَ غايات وصاحب آيات، فالمُتَحَمِّسُ بعده لمواقف الخطابة، ولو أوتي بلاغة السّابقين، خيارُهُ أن يغترفَ من مَعينه. لقد تصدّى أبو شرف لضروب الصُمِّ والعُميِ في ناسه، ومُعضلات زمانه، وفصَّل في مثالب الحُكم والإجتماع، أمّا مَن يتبوَّأون شأن القَوم فرآهم قوالبَ جهلٍ مستورةً بثياب ومُنتعِلةً الألقاب. وبرع أيضاً في صياغة مفاهيم الوطنية، وترجمةِ آمال الشَّعب، لذلك كان من الأجدى لِخُطَب أبو شرف أن تُسَمّىى مقامات لا خُطَباً. إنّ خُطبه كانت حادَّةً وأَمرَّ من الحنظل، لأنه واجهَ دجّالين لو قُذِفَ الليلُ بلؤمهم لَطُفِئَت نجومه، فكأنّ وجوهَهم على الحقيقة هَولاً. وقد أثمرَت تلك الخُطَب ثورة يقطر منها ريحان الشَّرف، وبدّلت في الوطن مفهوم الزَّمن من الأُفول الى الإستمرار.
لقد رفض أبو شرف أن يُباد وطنُه بالأوجاع، وأن تَصفَرَّ عيناه بالحزن، وأن يَنفخَ في رئتيه عَصف الموت، وأن يكون زنبقةً تقطع عُنُقَها مناجلُ الحقد. ولم ينسلخ عن النّضال، هذا الذي لو لم نُؤاخِهِ لما بقي ظلٌّ لأيّ حقيقة، فجعله مَنارَ اسمه ورونقَ طلَّته وحجّةَ إبداعه. لم تكن الوطنية مع أبو شرف شِعراً بارد العِبارة، أو فاترَ التأثير، إنها كريمةُ الأَطواق مُتبَرقعةٌ ببديع الكرامة، تَجلّى فيها مُفاخِراً وجعلها خلعةً في زمان لبنان. وهو لم يقتبسها لأنّها لطالما كانت جملةً من المَحامد المًشَرِّشة في ذاته، دافع عنها ودفع حياته لها. ولم يرحم الذين نافقوها، فكان نثرُ أهاجيه فيهم نثرَ الشَّوك، أولئك الذين ما كان الشَّرف يوماً نَسباً لأسلافهم. لقد شرب أبو شرف صفوة لبنان " فكرةِ الله في الأرض"، فتوطَّأت في كيانه، ولم يكن لها كِفايةَ المُتَحفِّظ، فردَّها الى أوّل شعور سامٍ وُلِد في الأرض، وآنذاك وُلِد الأبطال.
الغَزل معه من أَرَقّ أَلحان شِعره، يخرجُ من أنفاس قلبه بأكوابٍ تدورُ على القلوب. وأطايبُه المَليحةُ الأوصاف، كما الحريّة، حديقة وَردٍ عطرُها الصِرف يتنكَّب رسائلَ أَمكنَت العاشقَ من شفتيها، فرشفهما ليقع في قلبه منهما مِثلُ النّار. الغَزَل معه هو بين السِّحر والجفون، يكاد الهوى يسرقه لُطفاً، إنه يبسِمُ عن منثور الأقحوان، لكنه يشكو الشَّوق، هذا الذي لم يسمع منه كلمة واحدة، ولا اهتدى لجوابه. فالقلبُ أكثرُ ميلاً للصَّوت الذي يداعب أعصابه وحواسه، لذا هو يعجم العود قبل أن تُصنعَ منه الرِّماح.
لويس أبو شرف أستاذ اللغة غَضُّ المَكاسر أنيقُ الجواهر لما به من الفطنة والفَهم، حتى لَيقاربَ الفقه، هذا الذي غلب العلومَ لِشَرفه. وهذا لا يعني مجرَّد الإلمام بقواعد الألفاظ وفنون النَّحو، بقَدر ما يعني معرفة كُنه الكلام وتأمُّل وجوهه وما يتّصل به من علاقات وسُنَن، وذلك ما تنوء به عزائم الآحاد. فأبو شرف الأديب نشوانٌ من دون أن يثمل، أمّا مَن يدبُّ فيهم الشَّراب حتى الثَّمالة فهم سامعوه. إنّ كلامه المُعَشَّق بالزَّخارف، من دون تكلُّف، هو صافي الزُّجاجة وحَسَنُ الدّيباجة، فكأنّه مقطوفٌ من جبال الصَّنوبر البَرّي.
البلاغة طَفحٌ فوق سطح لسانه، يرصِّع بها نثره والشِّعر، لذا لم تغلب عليه صنعةُ الكتابة. فالصُّوَر التي يُحلّي بها كلامه، هي مطيّةٌ حُمِّلَت ظهرَ مَطيّة، وغُرِزَت مغازيها في أذهان سامعيه، فلا يكاد واحدٌ منهم يستطعمُ بمُبتَكَرٍ حتى يطلَّ مُبتَكَرٌ غيرُه ويتصيَّدَ إمتاعَه. والبلاغة تُبنى على سلامة التَّركيب وتنزيل البيان، والإنتقال من فنّ الى فنّ، في تسطير راقٍ لألوان الإبداعات. وليس إنحاءُ أبو شرف على البلاغة إلاّ اعتناءً بأَملح القول وأفصحه، بحيث إذا وُضِعَت لفظةٌ في كلامه مكان غيرها، لَتَطَرَّق الى المعاني شيء من الإخلال. والبلاغةُ معه كالموسيقى، تبقى صُورُها تختلطُ بأجزاء النفس وفقاً لما يُقَدَّر لها من الذُّيوع، من هنا، يتبوَّأ أبو شرف مكانةً بين اشياخ المعنى، فلا ييجوز أن يُسأل: هل كلامُه هو فقط من أجل الكلام ؟
إذا استمعتَ الى لويس ابو شرف، الذي يستطيع أن يُشعل حرب طروادة خارج أساطير الإلياذة، تحسبُ أنك سليلُ أَخيل، وإذا ترنَّحتَ طَرباً عندما يبلُّ النَّدى بالجَمال، تحسبُ أنك في حضرة أستاذٍ من مدرسة الرُّها.