وجوه الناس تحولت إلى سجلات لأحداث لبنان والعراق وغزة. فن تشكيلي... فن الصراخ
لم يخطر ببال هذا الفنان النرويجي الهادئ “إدوارد مونش” (ولد سنة 1863 في لوت وتوفي في اوسلو سنة 1944) أن لوحته الاختبارية التي رسمها في ثلاثينات القرن العشرين والتي حملت عنوان الصرخة، ستكون تسجيلاً تعبيرياً لكل صرخة سوف تنطلق من حنجرة إنسان يهرب من الموت ملتاعاً ومستنجداً بأية قوة قادرة على درء القدر العاتي. كانت صرخة “مونش” تتوثق عبر عدسات الكاميرات في مجزرة “ماي لاي” الفيتنامية المروعة، حين اشتوت أجساد النسوة والأطفال بنار النابالم الأمريكية. لكنها جاءت أوضح في صرخة المرأة الجنوبية اللبنانية التي لاحقتها حرائق القنابل “الإسرائيلية” في أكثر من حرب شنت على لبنان. وذلك ضمن سلسلة لم تنته بعد من الحروب العدائية “الإسرائيلية”، وضمن سياسة الأرض المحروقة.
الصرخة في الصور التي تشترك في موضوع موحد هو موضوع الاستغاثة وبالتالي موضوع الألم وهو الوعاء الذي نغترف منه كل درجات الصراخ. ليست واقعاً تخترعه اللحظة الانفعالية، بل هي اللحظة التي تكشف عن واقع. وهنا تتحول الصورة إلى إطار ومحتوى في آن واحد، لأن التداخل النادر بين الزمان والمكان في لحظة حصول الصدمة. يخترع حالة تتكثف فيها الانفعالات، وبخاصة عندما يتحول ما هو تصويري إلى ما هو صوتي، أي أن الصورة تكف عن واقعها البصري لتغوص في أعمق أعماق البعد الصوتي، وهذا الأمر لم يسع إليه الفنان مونش وحده بل ذهب إليه العديد من فناني (الفريسكو) الثوريين في المكسيك، خلال الحقبة التي سعوا فيها إلى اسماع أصواتهم عبر صورهم. وها هو “أوروزكو خوسيه كليمنتي”.
المولود في خاليسكو المكسيكية سنة 1883 والمتوفى في مكسيكوسيتي سنة ،1949 وهو من أشهر رسامي الجدرانيات (The Mural)، نراه يذهب في جدرانيته الشهيرة - أحدث هجرات الروح - إلى استصدار صدى للموت الجسدي مع خلود روحي نادر حين ينزل المصلوب من صليبه ويمسكه فأس التحدي نابذاً حالة الاستكانة والاستسلام للموت تسمراً على الصليب.
ندرك الآن المعنى بأن هناك مراحل أساسية لا بد ندركها عند البحث عن فكرة المحاكاة النفسية أو الاجتماعية للصورة التي تقرر واقعاً وتعيد صياغته ثانية عبر الكاميرا بعدما تمت صياغته عبر الريشة واللوحة.
إذن المهمة ليست سهلة، والتكامل بين الكاميرا والريشة ليست مصادفة. سيما إذا أدركنا ان جل الفنانين عاشوا مآسي الحروب سواء في مرحلة الحربين الكونيتين أوائل وأواسط القرن العشرين، أو عاشوا حروب الستينات والتسعينات التدميرية التي شنتها القوى الأمبريالية الجديدة، أمريكا، “اسرائيل”، بريطانيا، وغيرها من البلدان المفتونة بقوتها العسكرية.
يقول الفنان السوريالي الاسطوري (بول ديلفو) وقد عاش قرابة المائة عام 1897-،1994 إنه حين رسم (فينوس النائمة) سنة 1944 ووضع إلى جانب جمالها الغافي كل هذا الرعب المتمثل بالهياكل العظمية والجو الوثني الكابوسي. فإنه أراد أن يعلن للعالم عدم براءة المكان ولا الزمان من خطيئة الرعب الذي يتحكم بالبشر.. وهنا يجدر بنا أن نتساءل: ترى كيف ندين هذا الرعب من دون أن ندخل الأمان الكاذب إلى عقول القتلى والمرعوبين؟
إن شروطاً موضوعية لا بد وأن تنهض في مثل هذه المقاربة، بغية انجازها وتحويلها إلى قاعدة حقيقية من جهة، ثم بغية صنع مقارنة مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى، بين ما هو افتراضي الحصول، وما هو حاصل بالفعل.
إن البعض قد يطلق على هذه المساعي اسم “الاستخدام” الحقيقي للممارسات الإبداعية، فيما يرى البعض أن هذا ال”استخدام” بالغ الخطورة لأنه سوف يسحب الفن إلى حيز جماهيري (شعبوي) حسب تعبير “جون هفسون”، فيكون الفنان بذلك مصلحاً اجتماعياً أو داعية يبسط الفن إلى مستويات غير مألوفة إذن لنبحث عن إطار حيوي نمارس فيه عملية الانتاج الإبداعي ثم نقارنه على ضوء ما هو حاصل من معطيات حقيقية لا افتراضية على صعيد الواقع.
هنا نلجأ إلى حالة توثيقية ذات مصداقية عالية، إنها الكاميرا التي تسجل بصرياً لحظة ثبات زمني حصل خلالها الفعل المرعب وحولها إلى استثناء مكاني وزماني في لحظة واحدة.
إن الصورة تتحول إلى وثيقة واللوحة قبلها تصير استشرافاً وما بين الاستشراف والوثيقة، تتأكد حقائق بالغة الخطورة يمكن لأي ناقد ذكي أن يراقب عدها التصاعدي بالشكل التالي.
أولاً: عمل فني تلقائي يندرج وفقاً لمعطيات الأنظمة “الأرنولدية” لتعليم الفنون النظرية، ضمن حالة البحث عن فهم أجدى للنهايات الثقافية النابعة عن دراسة الفنون النظرية تمييزاً لها عن الدراسة التقنية المهنية، (الأرنولدية نسبة إلى نظرية الشاعر (ماتيو أرنولد) الإنجليزي المولود سنة 1822 والمتوفى سنة 1888).
ثانياً: تتغلب الحالة التسجيلية على العمل الفني، حيث إن اللوحة لا تحفل بالوصفية، بل تكون رصداً لما هو قائم أو متوقع القيام.
ثالثاً: يبدأ عنصر المطابقة في الحدث ذاته فهو المحرك أو البؤرة المركزية التي ستفسر العمل فيما بعد.
رابعاً: مطابقة ما بين الحدث والإبداع، وإن كان التفسير لاحقاً على لحظة الإبداع.
خامساً: وهنا الذروة حيث كثافة المعطى (الحدثاني) وإعادة حيويته تجعل شهادات إضافية تؤكد أهميته في الزمان وفي المكان.
إن الحديث هنا عن المجال الحيوي المثالي لهذه المطابقة التصاعدية، سوف نعثر عليه في اللحظات أو الأزمنة ذات الصخب المدوي أو الدرامي العالي.
لبنان وبكل ما فيه من صراعات على أرضه، قيض له أن يكون الخريطة الجغرافية المثالية لهذا الحدث، والغريب أن مجموعات ذكية من المصورين الذين لقموا كاميراتهم درجات عالية من اليقظة والوعي هم الذين سيقدمون لنا هذا النظام التوافقي الغريب بين الواقع واستشراف الفن.
إن حقولاً أو شبكات من المواقع التي شغلتها الأحداث، أفرزت روح المقارنة الذكية لدى العديد من الأذكياء الذين رسموا خطوط التطابق ما بين اللوحة التي رسمت قبل أكثر من نصف قرن والواقع الذي عشناه قبل سنتين أو سنوات قليلة. وهذه فنانة ذكية هي “نور بلوق” تشير إلى خلفية لوحة “ادوارد مونش” أي إلى الجانب المكاني للصرخة، مقارنة إياه بخلفية صورة فوتوغرافية لامرأة جنوبية تركض مذعورة، ترى هل أيقظت صورة الكاميرا عند زميلتنا الفنانة التشكيلية صوت الصرخة في لوحة مونش.
هنا العديد من الصور الفوتوغرافية أيضاً وهي التي ايقظت الاستشرافات التشكيلية السابقة، وهذه مسألة بالغة الخطورة في زمن تستيقظ فيه الجوانب التسجيلية للفن التشكيلي بواسطة منبهات حقيقية لواقع معاش على أرضية دموية في لبنان والعراق وغزة والعديد من مناطقنا العربية.
إن البحث الجاد عن الصورة ومقاربتها الحقيقية هو بحث في طبيعة الصراع الدائر من حولنا الآن، إنه يمر حتماً عبر أجسادنا، ولكن هذه الكاميرا ذات اليقظة الهائلة سوف تكون هي الأكثر صرامة في تحديد المعيار التصاعدي للصورة وللوحة والواقع.
إن أية مقاربة بين اللوحة والحدث هي مقاربة موضوعية، لأن الفن وليد الأحداث وهو راصدها الأول لكن أن نجد كل هذا التطابق المذهل بين الواقع الدموي في لبنان خلال العدوان ونبؤات أولئك الرسامين الكبار الذين رصدوا الصوت والصرخة ودونوا الرعب فتلك هي التي تحتاج إلى المزيد من التفسير.
يقول إدوارد لوسي سميث: إن فن فرانسيس بيكون المتواتر والمحدود يمثل في الأقل واحداً من المواقف التي يمكن اتخاذها إزاء تجربة أواسط القرن العشرين.
من خلال هذا الرصد لمرحلة منتصف القرن العشرين ندرك بأن التعبير عن جسامة الحدث هي التي حولت الوجوه “البيكونية” إلى كتلة من الهلع والغضب.. وترصد الكاميرا بالمقابل إنساناً لبنانياً بل بشراً من لحم ودم لهم ردود الأفعال ذاتها، حتى استحالت وجوههم إلى سجلات لأكثر الأحداث خطورة.
- الصور الفوتوغرافية من مجموعة فرحات للفن العربي الحديث والمعاصر-
By Youssef Bader El Deen
Scream by Edward Mounch